يا دار سَلْمَى دارساً نُؤُيها … شعر امرئ القيس
امرؤ القيس ينتقم من قتلة أبيه. ديوان امرؤ القيس

يا دار سلمى دارسا نؤيها، قصيدة رائعة لملك الشعر، تؤرخ لمرحلة هامة من حياة امرئ القيس، عندما قام بحملة الانتقام من قتلة أبيه، فقتلهم وأوغل في دمائهم، وبدا أنه على الطريق الصحيح لاستعادة المُلك.
تحكي عن فتكه بقبيلة أسد بعدما قتلوا أباه وانتقامَه منهم، يفتتحها بالشوق إلى حبيبته التي شردتها الحرب وألجأتها لجوار رعاة الغنم والجمال وهي التي كانت مكرمة عزيزة، ثم يذكر حججه في الحرب المستحقة للانتقام من عدوه، وكيف قتلهم وشردهم وألجأهم إلى الهروب، ثم استحقاقه للراحة وشرب الخمر، بعدما حرمها على نفسه سابقا.
نقدم لكم شرح القصيدة ومعاني الكلمات وأتمنى لكم قراءة ممتعة.
مصدر القصيدة: ديوان امرؤ القيس، طبعة دار المعارف، صفحة 255.
قال امرؤ القيس:
1- يَا دَارَ سَلْمَى دَارِساً نُؤْيُهَا … بِالرَّمْلِ فَالخَبْتَيْنِ مِن عَاقِلِ
دارس: بالي أو متهالك.
النؤي: حاجز التراب الذي يُرفع حول الخيام ليحميها المطر والسيول.
الرمل: أي المنطقة التي تسودها الرمال.
الخبتين: الخبت هو الموضع المنخفض الواسع.
عاقل: اسم منطقة تاريخية في نجد، تقع على بعد 10 كيلومترات شرق مدينة الرس الحالية(حيث ولد امرؤ القيس)
يقف الشاعر على ديار حبيبته التي دمرتها الحرب، ينادي الدار التي طالها الخراب، حواجز المطر قد انهارت لعدم تجديدها بسبب هجران المكان، وذكر مواضعها من بلاده، أي أن كل هذه المواضع أصبحت خرابا.
2- صَمَّ صَدَاهَا، وَعَفَا رَسْمُهَا … وَاسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائِلِ
صم صداها: لم تعد الأصوات تتردد ويسمع صداها في المكان، أي أنه أصبح خاويا.
عفا رسمها: ذهبت ملامح المكان.
استعجمت: لم تعد أصواتها مفهومة، كالكلام الأعجمي.
اختفت ملامح الحياة من المكان، فم تعد أصوات الناس تتردد، وتبدلت أشكال المكان، ولم يعرف ما الذي حل به، وشبه الأحجار بشخص يكلمه لكنه لا يفهم كلامه.
3- يَا سَلْمَ هَلْ عِنْدَكُمْ نَائِلٌ … لِلْمَرْءِ ذِي الأُكْرُومَةِ الفَاضِلِ
سلمَ: نداء مرخم، (أي فيه حذف لآخر حرف من الاسم) غرضه إظهار الدلال والمحبة.
نائل: ما يمكنن أن يناله المرء، أي يحصل عليه.
ينادي الحبيبة ويدعو لها بالسلامة، هل يجد الرجل الكريم الفاضل عندها ما يرجو من المحبة والشوق وحرية بلاده؟
4- الحَافِظِ السِّرِّ الأَمِينِ الذِي … لَا تَرْهَبِينَ، القَائِلِ الفَاعِلِ
ترهب: أي تخاف.
يمدح نفسه بأنه الذي حافظ على محبتها وسرهم والذي لا ترهب منه المرأة وقت فزع الحرب، وهو من أجمل الوصف، كما أنه يقول ويفعل ما يقول، لأنه فارس قوي كما سيبين في القصيدة.
5- لَمْ أَرَ شِبْهاً لِسُلَيْمَى التِي … عُلِّقْتُ غَيْرَ الظَّبْيَةِ الحَائِلِ
سليمى: تصغير لاسم سلمى، يراد به الدلال.
علقت: أي تعلقت بحبها.
الظبية الحائل: الظبية التي لم يمر عليها حول، أي عام.
لم ير امرؤ القيس كائنا يشبه جمال سلمى التي تعلق بها قلبه ويستطيع مقارنته بها إلا الظبية الصغيرة التي لم يمر عليها عام، وهي كائن في منتهى الرقة والجمال، مثل حبيبته.
6- لَمْ تُغْدَ بِالبُؤْسِ سُلَيْمَى وَلَمْ … تُضْحَ لِأَهْلِ الشّاءِ وَالجَامِلِ
تغد: إشارة لوقت الغدوة، أول النهار.
البؤس: الشقاء والضيق
أهل الشاء: رعاة الغنم، والجامل: أهل الجمال ورعاتها.
لم تَعتد سلمى على هذا الشقاء، والخروج مع رعاة الغنم والجمال، فقد كانت مُكرّمة عزيزة، وفي هذا إشارة إلى أن أيامه سابقا لم تكن بهذا البؤس، فقد كان معتادا على النعيم.
7- قُولَا خَليلَيَّ لِذَا العَاذِلِ … هَلْ يُجْعَلُ الجَائِرُ كَالعَادِلِ؟
العاذل: اللائم.
الجائر: الظالم.
يقول لمن يلومه على حربه ضد بني أسد، هل يتساوى الظالم بصاحب القضية العادلة؟ فقد ظلموا وقتله أباه ظلما كما يرى، فحربه ضدهم عادلة.
8- هَلْ مَاجِدٌ أَظْهَرَ فِي قَوْمِهِ … عُذْراً كَمَنْ سَارَعَ فِي البَاطِلِ؟
ماجد: شريف يسعى إلى المجد والعزة.
هل يستوي الرجل الشريف الذي أظهر حجته وعذره بهؤلاء الذين اعتدو وأسرعوا في العدوان؟ يبرر امرؤ القيس حربه ضدهم.
9- أَمْ هَلْ ذَوُو الغَيِّ كَأَهْلِ الحِجَا … أَمْ هَلْ رَشِيدُ الأَمْرِ كَالجَاهِلِ؟
ذوو الغي: أي أصحاب الظلم.
الحِجا: العقل.
الرشيد: الذي يحسن تدبير الأمور، يقصد نفسه وحربه التي ينوي عليها
الجاهل: يراد بها الأحمق.
أم هل يستوى الظلمة مع العقلاء؟ وهل يستوى الرشيد الذي يحسن تدبير مع الجاهل الأحمق؟
يواصل امرؤ القيس إيضاح موقفه وعدالة قضيته
10- قُولَا لِبِرْصَانٍ عَبِيدِ العَصَا … مَا غَرَّكُمْ بِالأَسَدِ البَاسِلِ؟
برصان: جمع أبرص، وهو صاحب المرض الجلدي الذي يسبب بقعا بيضاء.
عبيد العصا: يسب قبيلة أسد ويحقرهم.
الباسل: المُر صعب المراس.
يسب بني أسد ويصفهم بأصحاب البَرَص احتقارا (وكان العرب يكرهون البرص) ويصفهم بأنهم عبيد للعصا، كأنهم عبيد يساقون بها، ما الذي غركم وجعلكم تقفون لأبيه الملك العزيز صعب المراس؟ كيف تجرأتم على ذلك؟
11- المَاجِدِ الأَرْوَعِ مِثْلِ الهِلَا … لِ الأَرْيَحِيِّ المَلَكِ الوَاصِلِ
الماجد: صاحب البطولات والأمجاد
الأروع: النشط المفعم بالحياة، والمعجِب بجماله
الأريحي: الكريم
يمدح امرؤ القيس أباه المغدور بأنه كان ملكا ماجدا كريما معجبا وججه منير كأنه الهلال ويملأ العين بصفاته.
12- جُثْنَا بِهَا شَهْبَاءَ مَلْمُومَةً … مِثْلَ بَشَامِ القُلَّةِ الجَافِلِ
جثنا: مررنا وسط ديارهم.
شهباء: في لون الحديد، يقصد سلاح كتائبه.
ملمومة: مجتمعة.
بشام: نوع من الشجر ينمو كثيفا ملتفا.
القلة: الإناء المنبعج البارز
الجافل: االمتحرك المتحفز.
يقول أننا عبرنا خلال ديارهم بكتائبنا شهباء اللون لكثرة حديدها، كتائب كثيفة كأنها غابات من الشجر الملتف المتحرك.
13- وَهُنَّ أَرْسَالٌ كَرِجْلِ الدَّبَى … أَوْ كَقَطَا كَاظِمَةَ النَّاهِلِ
أرسال: الجماعات من الخيل والناس
كرجل الدبى: كالنمل الذي يدبدب.
قطا كاظمة: طيور القطا في موضع كاظمة، وهو الآن في دولة الكويت.
الناهل: الذي ينهل من الماء.
جاء الجيش كثيفا كثير العدد كأنه جماعات كبيرة من النمل الذي يدب أو كأسراب طيور القطا الكثيفة من كاظمة.
شبه الجيش بهذه الكائنات، ووجه الشبه هو كثرة العدد.
14- نَطْعَنُهُمْ سُلْكَى وَمُخْلَوْجَةً … كَرَكِّ لَأْمَيْنِ عَلَى نَابِلِ
سلكى: الطعنة السلكى هي الطعنى المستقيمة
مخلوجة: هي الطعنى المائلة، وتكون قاتلة إذا تنغرز في جانب جسد الرجل فتقتله.
كرك لأيمن على نابل: أي كما يقل الرجل على يمين الرامي ليناوله الأسهم فيكون ضربه أسرع.
يقول أننا وجهنا لهم الطعنات بكل الطرق فلم يعرفوا كيف يهربون، وجائتهم الطعنات من أماlهم ومن جوانبهم، سريعة متتالية كالرامي الذي يناوله الرجل الأسهم عن يمينه.
15- وَابْنُ حَذَارٍ ظَلَّ مِنْ خَوْفِنَا … يَغْمُرُ مِثْلَ الوَعِلِ العَاقِلِ
ابن حذار: رجل من أعدائه.
يغمر: أي يعلو ويصعد في الأرض هربا.
الوعل: هو الماعز الجبلي.
العاقل: الرابط في الجبال الماكث فيها.
وهذا الرجل الذي يسميه هرب من أمام جيش امرئ القيس خوفا، إلى الجبال الوعرة فالتجأ فيها كحيوان الوعل الذي يهرب إليها ويتحصن.
16- أَحْزَنَ، لَوْ أَسْهَلَ أَحْذَيْتُهُ … بِعَامِلٍ فِي خُرُصٌ ذَابِلِ
أحزن: أي ذهب إلى الحَزْن، الأراضي المرتفعة.
أسهل: أي ذهب إلى السهل، الأرض المنبسطة.
أحذيته: أي تماس معه وأصبح بجانبه.
عامل: يقصد سن الرمح الذي كان سيعمل فيه الموت
خرص: الرمح
ذابل: رفيع مرن
يقول أن هذا الرجل هرب مني إلى الأراضي المرتفعة، فلم نتمكن من اللحاق به، ولو بقي في الأراضي المبسوطة لكنت ألزمته سن رمحي المثبت على عود رفيع مرن، لكن الجبان هرب.
17- لَا تَسْقِنِي الخَمْرَةَ إِنْ لَمْ يُرَوا … قَتْلَى فِئَاماً بِأَبِي الفَاضِلِ
فِئاما: جماعات
كان امرؤ القيس قد أقسم أنه لن يشرب خمرا ولن يتمتع بشيء قبل أن يدرك ثأر أبيه، وهذا ما يذكره هنا، يكلم خادمه أن يسقيه خمرا حتى يرى الناس جميعا أنه انتقم من بني أسد ويروا جثثهم جماعات مقابل أبيه الفاضل ذي المكانة، فهو يرى كل قبيلة أسد لا تعدل دم أبيه.
18- حَتَّى أُبِيرَ الحَيَّ مِنْ مَالِكٍ … قَتْلاً وَمْن يَشْرُفُ مِنْ كَاهِلِ
أبير: يبير تعني يهلك، البوار هو الهلاك والخرب
يشرف: من يظهر بينهم، على الحقيقة أو نسبا ومكانة
مالك وكاهِلِ: حيان من قبيلة أسد.
لن يهدأ باله قبل أن يهلك حي مالك من بني أسد تقتيلا ومن يظهر معهم من أقربائهم من بني كاهل، أو ومن شرفاء كاهل من بني أسد، كل هؤلاء سينتقم منهم امرؤ القيس شر انتقام.
19- وَمِنْ بَنِي غَنَمَ بْن دَوْدَانَ إِذْ … نَقْذِفُ أَعْلَاهُمْ عَلَى السَّافِلِ
غنم بن دودان: حي آخر من بني أسد.
وأهلَكَ جيش امرؤ القيس أيضا بني غنم بن دودان وكوم جثثهم فوق بعض، وجعل رجاله يقذفون الجثث فوق بعضها.
20- إِذْ يَسْأَلُ السَّائِلُ مَا هَؤُلا … أَعْيَا عَلَى المَسْؤُولِ وَالسَّائِلِ
أعيا: أعيا عليه الأمر، لم يهتد لوجه فيه، لم يعرف ماذا يفعل
هؤلا: هي اسم الإشارة هؤلاء، وخفف الهمزة تحقيقا لوزن البيت.
لا أحد يفهم ما يحدث من هول الصدمة والمفآجأة، فيسأل الرجل منهم من هؤلاء الذين يُقتٍِّلون فينا ولا يهتدي لجواب هو أو من يسأله، ولا يقدرون على دفع الجيش.
21- نَعْلُوهَمْ بِالبِيضِ مَسْنُونَةً … حَتَّى يُرَوا كَالخَشَبِ الذَّابِلِ
نعلو: نأتي من فوقهم، كناية عن الانتصار
البيض: هي السيوف ذات الحديد الأبيض
مسنونة: حادة قاطعة
الخشب الذابِلِ: الشجر الجاف الميت
يقول أننا ننتصر عليهم ونهجم بسيوفنا القاطعة ونقتلهم حتى يصبحوا جثثا كالشجر الجاف على الذي فارقته الحية، مكوما على ٍالأرض.
22- وَالدَّهْرُ ذَا وَالدَّهْرُ فِي صَرْفِهِ … يُمْكِنُ بِالوِتْرِ مِنَ القَاتِلِ
صرفه: تصاريفه وتقلباته
الوتر: أخذ التأثر
بيت يسري مسرى الحكمة، وهذا هو الزمر وتقلباته، يمَكِّن أصحاب الوتر من قاتلهم فينتقم منهم بعدما ظنوا أنهم أفلتوا.
23- حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ وَكُنْتُ امْرَأً … عَنْ شُرْبِهَا فِي شُغُلٍ شَاغِلِ
بعد انتصاره أحل امرؤ القيس شرب الخمر على نفسه وكان قد أقسم ألا يقربها حتى يدرك الثأر، وكان مشغولا عنها غاية
الانشغال في الحرب، ولم يكن في مزاج يسمح له بجلسات الشراب واللهو، أما الآن فسيشرب احتفالا.
24- فَاليَوْمَ فَاشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَقْحِبٍ … إِثْمَاً مِنَ اللهِ وَلَا وَاغِلِ
مستقحب: أجد في صدري حرجا، والقحب هو السعال في الصدر.
واغل: الشيء العميق في النفس.
فاليوم سيشرب الخمر دون أن يشعر بتأنيب ضمير في صدره ولا شيء يعكر عليه بعد أن استوفى حقه وأبرد نار الثأر من قلبه.
25- يَا رَاكِباً بَلِّغْ اخْوَانَنَا … مَنْ كَانَ مِنْ كِنْدَةَ أَوْ وَائِلِ
يا راكبا: منادى نكرة غير مقصودة.
كندة: هي قبيلة الشاعر.
وائل: هما قبيلتنا بكر بن وائل وتغلب بن وائل، وهم أحلاف امرؤ القيس في ذلك الوقت.
يبلغ امرؤ القيس أي شخص يذهب إلى الأحلاف من قبيلته كندة أو الحلفاء الآخرين من بني وائل، والمعنى يكتمل في البيت التالي.
26- لِيَجْلِسُوا نَحْنُ كَفَيْنَاكُمُ … ضَرْبَ الجَبَانِ العَاجِزِ الخَاذِلِ
والرسالة هي أن يجلسوا وأن لا حرج أن يأتوا بالمدد، لأن امرؤ القيس مع رجاله قد أنهوا المهمة وكفوهم هذا العدو الجبان الضعيف المخذول