طَرَفَة بن العبد – الشاعر الشاب الذي قتله لسانه.

عمرو بن العبد بن سفيان، أو كما يعرف باسم شهرته: طرفة بن العبد. هو شاعر شاب صغير يتيم من شرق الجزيرة العربية، عاش في أيامه القصيرة واحدة من أعجب القصص الإنسانية. اختبر الحياة بزخمها وشهدت حياته القصيرة أحداثا وتقلبات لم يخضها الشيوخ الذين بلغوا أرذل العمر. ومن حظنا أنه سجل كل انفعلاته في شعر بليغ بلغة عربية فصيحة ما زال يحرك القلوب إلى الآن. وما زال قادرا على انتزاع التعاطف والآهات بعد كل هذا الزمن الطويل.
اسم طَرَفَة بن العبد ولقبه.
لقبه (طرفة) بفتح الحروف جميعا، مأخوذ من شجرة الطرفاء، وهي الأثل. صنف من الشجر الكبير الذي ينبت في بلاد العرب. ولا نعرف لم لقب به على وجه اليقين، لكنه التصق به حتى نسي الناس اسمه الحقيقي. ربما اشتق من عظمة الشجرة وعمق جذورها في الأرض. فاسمها يدل على المجد وعراقة الأصل، المجد المؤثل هو المتأصل في الشرف والمكانة. ولم يكن الوحيد الذي لقب طرفة، لكنه أشهرهم.
هو عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة، فرع من فروع قبيلة بكرة بن وائل العريقة. عاشت قبيلته شرق الجزيرة العربية على ساحل البحر في زمن دولة الحيرة. وكانت خاضعة لهم بالولاء ويعين ملوك الحيرة عمالا على مناطقهم.
ولد طرفة في بيت عريق في العشيرة وكان ذا نسب ومكانة فيها، مات أبوه وهو طفل فنشأ يتيما. ويبدو أنه ورث ثروة، لأن حديثه في معلقته يدل على ذلك ويدل على مكانته. لكن أعمامه نازعوه على ميراثه فكان هذا سببا في خلافات شديدة معهم شكلت في النهاية مسار حياته.
الصراع بين أم طرفة وأعمامه وأول شعر قاله.
جحد أعمام طرفة ميراثه ولم يحصل على حقه، أو على الأقل هذا ما نعرف لأنه ما وصلنا من القصة. فنشأ ناقما ساخطا متمردا عليهم، وكان هذا الحدث هو المحرك الرئيسي في أحداث حياته. كل ما فعله وقاله من شعر هو نتيجة لهذا الشعور الممض بالظلم وتمرده عليه.
ومن أول ما نطق طرفة من شعر كانت أبياتا ينتقد حجود أعمامه لميراثه وعدم أدائه لأمه. ويحذرهم من مغبة الظلم لأنه يهيج الرجل الكريم، وإن الرجل الكريم يغضب عندما يستفز.
ما تنظرون بحق وردة فيكم … صغر البنون ورهط وردة غُيَّبُ
المعنى: لماذا تنتظرون وتأخرون حق وردة، وهي أمه. أولادها صغار لا يقدرون على أخذ حقهم وأقاربها غائبون عن الحي، فأنتم تستغلون ذلك.
قَدْ يَبْعَثُ الأَمْرَ العَظِيمَ صَغَيرُهُ … حَتّى تَظَلُّ لَهُ الدِّمَاءُ تَصَبَّبُ
والمعنى: أنه يهددهم ويحذرهم من أمر عظيم جلل تتصبب له الدماء، وبدايته هذا الظلم الذي يبدو لهم هينا.
ثم يقول بعد قليل:
أّدُوا الحُقُوقَ تَفِر لَكُمْ أَعْرَاضُكُمْ … إِنَّ الكَرِيمَ إِذَا يُحَرَّبُ يَغْضَبُ
يدعوهم إلى أداء ما عليهم من حقوق له كي تُحفظ أعراضهم. أو سيهجوهم وسيسير أمرهم بين العرب فيتفضحون. ويبرر لهم أن الرجل الحر الكريم مثله إذا استفز فإنه سيغضب، وغضبته ستكون أليمة.
من المدهش أن يعبر صبي صغير عن هذه المعاني الحكيمة وهو صبي. لكن دهشتنا ستتواصل لأن الحكمة العميقة كانت جزءا أساسيا من أشعاره.
أسلوب حياة طرفة بن العبد.
ومن شعر طرفة ولسانه، خاصة في المعلقة، نعرف أنه كان مستهترا شديد التبذير. ينفق برعونة على الشراب والغناء مع أصحابه، ولا يهتم بنصيحة ناصح، وقال أنه يريد الاستمتاع بالحياة قدر ما يستطيع قبل أن يدركه الموت، ولم يكن يهتم كثيرا بما يحدث بعد الموت.
كان شابا صغيرا وقتل قبل أن ينضج. ومع ذلك كان ناضجا صاحب حكمة، وقادرا على رؤية الحياة بشكل واسع، وصياغة ذلك في حكمة عميقة مؤثرة. لكنه كان شابا صغيرا، فكان فيه نزق وكبر، وربما ساهمت نزقه في تعميق الخلاف بينه وبين أقاربه.
الخلاف السياسي بين طرفة والقبيلة.
كانت قبيلة طرفة وما حولها ضمن حمى الملك عمرو بن هند، أي حلفاء له ويعترفون بحكمه ويبعث عليهم عمال من عنده، لكن طرفة خالفهم فانضم إلى عمرو بن أمامة ضد عمرو بن هند عندما نازعه الحكم. ويمكن تفسير ذلك بكراهيته لأعمامه ورغبته في مخالتهم. فقد أورد ابن الانباري أن عمرو بن هند تملك الحيرة بعد أبيه المنذر واستعمل إخواته الأشقاء في شؤون حكمه، منهم قابوس الذي لحق به طرفة. وكانت إبل طرفة وأمواله في حمى قابوس وتحت يده.
وكان لهم أخ غير شقيق من أم أخرى، سمي عمرو بن أمامة، تمييزا له عن الملك عمرو بن هند. وقد أهمله عمرو بن هند ولم يسلم له وظائف ولم يعبأ به. فتمرد عمرو بن أمامة وذهب إلى اليمن يستعين بقبائل منها ليأخذ الملك من أخيه، وانضم إليه طرفة.
فشل تمرد عمرو بن أمامة عندما ندمت بعض القبائل على خروجها معه فانقلبت عليه وقتلته في بعض الطريق. وعاقبه عمرو بن هند بأن أمر أخاه قابوس أن يصادر إبل طرفة التي كانت في حوزته. وهي الحادثة الي سيلومه أعمامه بسببها وستكون سبب شديدا في خلافهم، وستُذكر في المعلقة.
خروج طرفة إلى اليمن.
ولطرفة شعر يذكر فيه بلاد اليمن، ما يؤكد ذهابه هناك
أتعرف رسم الدار قفرا منازله … كجفن اليماني زخرف الوشي ماثله.
بتثليث أو نجران أو حيث يلتقي … من النجد في قيعان جاش مسايله.
في هذه القصيدة كان يبكي على السعادة التي نالها فترة قصيرة. وكان شابا غريرا لا يحسب نوائب الزمن وتقلباتها ثم وصف كيف استحالت أيامه حزنا وهما وأن الموت أفضل له من مثل هذه الحياة.
وربما قال طرفة بن العبد المعلقة في هذه المرحلة من حياته، فموضوع المعلقة هو الخلاف والافتراق عن القبيلة. ومنه الذهاب على ناقته التي أسهب في وصفها وكانت وسيلته للخلاص. وذكر صفاته يتحدى من يشكك فيه وخلافه مع أولاد عمه، وبرر فيها سلوكه وإسرافه في الملذات واستهانته بالموت. وذكر أنه حاول رأب الصدع معهم وقدم كثيرا وأنه مستعد لحمايتهم وفعل أي شيء. لكن كل ما يفعله لا يلقى التقدير منهم، وختم القصيدة بأنهم سيعلمون في قادم الأيام من هو المحق فيهم. وأن الأيام ستبدي لهم ما كانوا يجهلون وسيعلمون أنه على الحق.
القصيدة الكافية.
كما ذكر طرفة تشرده في البلاد ومشقة ذلك على نفسه وتعيير الناس له في قصيدة قصيرة كافية لكنها بالغة التأثير منها
أخبر أن الحي قد تفرق وانقسم، وأن الجميع قد تضرر ولا فائز في هذا الصراع.
أُخَبِّرْكِ أَنَّ الحَيَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ … نَوَى لي غربة ضرارة لي كذلك.
وَلَا غَرْوَ إِلَّا جَارَتِي وَسُؤَالُهَا … أَلَا هَلْ لَنَا أَهْلٌ؟ سُئِلْتِ كَذَلِكِ
المعنى: لا عجب إلا جارتي تستهزء به وتسأله إن كان له أهل يذهب لهم أم أنه مشرد؟ ويدعو عليها أن تصاب بمثل ما أصابه
الصلح وإعادة الشمل.
لا يحب أي الإنسان أن يخاصم قبيلته، فهو ثقيل على النفس، وإذا أضيف له النفي والطوف في البلاد يكون أثقل، تصالح طرفة مع القبيلة في مرحلة من حياته، وقال في ذلك قصيدة جميلة وطويلة، هي قصيدته الأهم والأكبر بعد المعلقة. وتبدأ بقول: أصحوت اليوم أم شاقتك هِر … ومن الحب جنون مستعر، وهي قصيدة عذبة تختلف عن الحدة المعتادة في طرفة. ربما لأنه كان يريد التصالح، فمدح القبيلة بالعقل والكرم والسيادة، صفات تحثهم على قبول ابنهم الشارد، ثم ذكر صراحة في نهايتها أنه كان مخطئا وكان متماديا في غيه، وها هو قد أبصر الآن.
ومع ذلك فلم تنهي هذه القصيدة كل مشاكله. وقال بعدها يلوم قبيلته، وظل على عداء مع الملك حتى لقي حتفه.
حدة لسان طرفة على أقاربه والملك.
كان طرفة شابا صغيرا ومعجبا بنفسه، وكان هجاؤه لاذعا يسير بين الناس ويتضاحكون به. لكنه يولد حقدا شديدا لمن يقع ضحيته، ولم يكن يسخر من آحاد الناس وعامتهم. بل وجهه للملك بشخصه وبعض جلسائه، وكلها علامات على قلة خبرته البالغة، وقد دفع ثمن هذا من حياته كما سنعرف منذ قليل.
كان طرفة قد هجا الملك عمرو بن هند لكن لم يبلغه الهجاء حتى كان الملك مرة مع بعض نجمائه في شواء، ومنهم رجل من أولاد عم طرفة اسمه عبد عمرو بن بشر بن عمرو من مرثد. وكان سمينا له صدر كبير، فبينما كان يشوي أبصر الملك كشجه أي صدره فضحك وقال: هل رأى طرفة كشحك؟ وكان طرفة قد عيره بأن جسده لين كجسد النساء، وأنه أحمر متثن
فقال: ولا خير فيه غير أن له غنىٍ … وأن له كشحا إذا قام أهضما
ومنها أيضا: كأن السلاح فوق شعبة بانة … ترى نفخا وِرْد الأسرة أسحما.
فأحرج الرجل بشدة حتى قال إن طرفة قال عن الملك أقبح من هذا. ثم ندم خوفا على طرفة، لأنه في النهاية ابن عمه. لكن الملك أصر أن يخبره ماذا قال، فأخذ على الملك عهدا ألا يؤذي طرفة، وتعهد له الملك فقال الأبيات التي منها: ليت لنا مكان الملك عمروٍ … رَغوثا حول قبتنا تخور.
أي لو كانت لنا نعجة حول خيمتنا لكانت أفضل لنا من هذا الملك، وفيها وصف قبيح للملك وأخيه. سكت الملك لكنه أضمر الشر لطرفة، ومن هذه اللحظة أصبحت حياته في خطر.
القصة العجيبة لموت طرفة بن العبد.
تراكمت هَنَّات طرفة مع الملك عمرو بن هند، وكان عمرو بن هند شريرا وحقودا لا يسامح، فأولها هي خروج مع عمرو بن أمامة ضد عمرو بن هند في صراع الإخوة على الحكم، وعندما استقر الأمر لعمرو بن هند صادر قطيع طرفة الذي كان تحت حماية قابوس بن هند.
وثانيها أن عمرو بن هند بلغه هجاء طرفة له كما تقدم، ولم يشأ الملك أن يقتله مباشرة لأنه تعهد بذلك ولمكانة قومه، واعتذر طرفة لما بلغه ما حدث، وتظاهر الملك بالقبول لكنه أضمر له الشر.
وثالثها أن طرفة دخل بعد ذلك على الملك مع خاله المتلمس، وكان أيضا قد هجا عمرو بن هند قبل ذلك. وظن أن الملك نسي، أو أنه لسذاجته لم يحسن التعامل معه. فدخل عليه مختالا معجبا بنفسه وفرحا، لا معتذرا متواضعا كما كان يتوقع عمرو بن هند الذي نظر له نظرة عرف فيها المتلمس الشر. ويبدو أن عمرو بن هند رأى هذا الشاب الصغير غير نادم ويتحداه في مجلسه بهذه الطريقة فقرر أن يتخلص منه.
وهناك روايات تضيف سببا رابعا وهو أن طرفة تغزل ببعض نساء الملك، فأضاف جريرة أخرى إلى مصائبه.
الرحلة إلى الموت.
أراد الملك التخلص منه لكن دون أن يظهر ذلك ليحافظ على علاقته بقبيلة طرفة التي ما زالت ضمن حلفائه. ولم يرد أن يرتبط اسمه بذلك، فناول طرفة والمتلمس خطابين يذهبان بهما إلى عامله الملك على البحرين ليقبضا جائزة، وألا يفتحا الرسالة حتى يصلا. وظنا أنه تصالح معهما وأنه يكتب لهما بهدية وصِلة.
لكن المتلمس كان رجلا عاقلا فشك في الأمر، لما لاحظ من أفعال الملك ومعرفته بطباعه. فلما كانا في بعض الطريق أسر إلى طرفة بشكوكه لكن طرفة رفض أن يفض خاتم الملك. ففض المتلمس رسالته وناولها لصبي يعرف القراءة فإذا هي: من الملك عمرو بن هند، إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا.
حذر المتلمس ابن أخته وأخبره أن رسالته مثلها. ورغم وضوح الأمر، فإن خطئية الكبر دفعت بطرفة إلى عدم الاعتراف بذلك. وأخبر خاله إن كان قد تجرأ عليك فلن يتجرأ عليك لما يعرف من قومي. وهكذا فعندما يُقدر القدر يعمى نظر الإنسان. وأصر طرفة على الذهاب لينال جائزته أو ربما ظن نفسه قد أصبح صديقا للملك.
وعندما سلم طرفة الرسالة إلى عامل الملك وقرأ ما فيها. لم يشأ أن يتورط في هذا الأمر، لأن بينه وبين طرفة صلة خؤولة، فأسر إلى طرفة أن يهرب في هذه الليلة وأنه سيتغاضى عن الأمر كأن شيئا لم يحدث. لكن طرفة المصر على الموت اتهم العامل بأنه يطمع في الجائزة لنفسه، حينها قبض العامل عليه وأودعه السجن، وأرسل للملك أنه أخذ طرفة لكنه لا يريد قتله. فأرسل الملك من عنده رجلا من بني تغلب أعداء البكريين، واسمه عبد هند بن جرد، الذي لم يتردد في الذهاب.
وأثناء سجنه أدرك طرفة فداحة موقفه، فقال قصيدته الضادية الشهيرة يرثي نفسه حيا ويبكي نفسه ويحرض بني بكر على الثورة لأجله ويهاجم الملك صراحة. لكن لم يشفع له شيء، فقد وصل له التغلبي وقتله، ويقال أنهم أرادوا قتله بلا إهانة فسألوه كيف يحب أن يموت، فأخبرهم أن يسقوه خمرا حتى إذا سكر وذهب عقله فصدوا عروقه، وهذا ما تم، فمات على الأقل بغير ألم، وكان عمره وقتها ستة وعشرين عاما.
تراث طرفة بن العبد.
بعد هذه الحياة القصيرة، خلف لنا طرفة عددا من أفخم قطع الشعر العربي على الإطلاق، وشعره يتميز بجرأة بالغة وانطلاق الشباب الجسور وحيرته في التعامل مع العالم. ربما لو أمهله القدر لعدل أوضاعه، لكنه كان قد تورط بالفعل مع ملك لا يرحم، ترك لنا معلقته التي هي ثاني أقوى قصيدة عربية، وعددا آخر من الجواهر التي سيفخر بها العرب لآخر الدهر.