مقالات

شرح المعلقات العشر للخطيب التبريزي – مذكرة مدرسية جعلها اللاحقون مرجعا.

شرح المعلقات العشر للتبريزي

الخطيب التبريزي هو عالم لغوي من أهل تبريز، كتابة في شرح المعلقات العشر من أكثر الكتب المتداولة في الأدب. درس ببغداد وطاف ببلاد المسلمين في رحلة عملية، فدخل مصر ثم عاد إلى بغداد فدرس بمدرستها النظامية. وقام على خزانة الكتب فيها حتى توفي رحمه الله سنة 502 للهجرة النبوية الشريفة.

أثناء حياته وعمله في المدرسة النظامية، وضع الخطيب التبريزي عدة كتب في الشعر واللغة. منها كتابه الذي اشتهر وأصبح من الكتب المتداولة في شرح المعلقات الجاهلية. وهو الكتاب الذي عنونه ب(شرح القصائد العشر). وقد حصل هذا الكتاب على شهرة في زمننا، وأصبح من الأسماء المتداولة فيما يتعلق بهذه القصائد.

في هذا المقال نتعرض للشرح الشهير الذي وضعه الخطيب التبريزي على المعلقات وأهميته. وبعض المآخذ التي أخذت عليه كي نضعه في وضعه الطبيعي بلا تفريط ولا إفراط. ولكي نفهم سياقه يجب أن نتكلم أولا عن المدارس النظامية التي ظهرت في تلك العصور في البلاد الإسلامية.

المدارس النظامية.

كان التعليم سابقا يعتمد على شيخ يجمع طلابه في المسجد، أو معلم يلتقي بهم ويأخذ أجرا على ذلك. فلم تكن هناك مناهج محددة، بل كان الأمر يعتمد على علم هذا الشرح والكتب التي يقرئها لطلابه. فجاءت المدارس النظامية خطوة في تطوير التعليم في بلاد المسلمين.

أنشأها الوزير الشهير (نظام الملك) وسميت باسمه. وكانت تقوم على جمع الطلاب مع مدرسيهم في مدرسة مبنية على مناهج محددة. يدرسها مدرسون متخصصون في المواد المختلفة، وطلبة يحضرون في مواعيد منتظمة، في نظام أشبه ما يكون بالمدارس الحالية. وهو تطور كبير عن طرق التدريس القديمة المبنية على الحضور الطوعي وعلاقة المدرس بالشيخ. وكان الخطيب التبريزي معلما في المدرسة النظامية ببغداد، وفيها درس المعلقات العشر.

سبب وضع الخطيب التبريزي لشرح المعلقات.

ذكر التبريزي أن سبب وضعه للكتاب: هو أن يلخص شرح القصائد السبع مع القصيدتين اللتين أضافهما أبو جعفر النحاس. وذكر أن الشروح التي لها قد طالت بإيراد اللغة الكثيرة والاستشهاد عليها، وذكر أن الغرض المقصود هو معرفة الغريب والمشكل من الإعراب، وإيضاح المعاني، وتصحيح الروايات وتبيينها، مع الاستشهادات التي لابد منها من غير تطويل يمل ولا تقصير يخل.

من تقدمة الخطيب التبريزي، نفهم أنه وضع مذكرة تعليمية للطلاب الذين يدرسهم في مدرسته النظامية. وقد أراد لها أن تكون مختصرة مما يوجد في الكتب الأخرى من الزيادات في الاستشهاد ونحوه، بحيث تحقق غرضها من تعليم الطلبة. إذا فهي كراسة دراسية وضعها مدرس لطلابه ولم يجعلها كتابا محكما محققا، وقد أدت غرضها الذي وضعت لأجله. فهي تصلح لعرض الموضوع سهلا على صغار الطلبة في خطة دراسة للأدب العربي.

هذه السياقات مهمة جدا لما سيأتي، ولنحكم على جودة هذه المذكرة والطريقة التي نظر لها اللاحقون فيما بعد.

المصادر التي اعتمد عليها في شرح المعلقات.

وهنا نأتي إلى النقطة الجوهرية في شرح الخطيب التبريزي للمعلقات، التي سماها القصائد العشر. حتى ذلك الوقت بعد مرور 500 عام على الهجرة، لم يكن اسم المعلقات قد انتشر بعد، وكانت تسمى المطولات أو القصائد العشر.

اعتمد التبريزي على مصدرين اثنين فقط لا ثالث لهما، ولم يخرج عنهما أبدا في الكتابة. وهما كتاب (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات)، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، أو ابن الأنباري كما يعرف اختصارا. وكتاب (شرح القصائد العشر الطول لأبي جعفر النحاس). ولم يخرج التبريزي عن هذين الكتابين أبدا، بل حتى لم يعد صياغة جملهما، بل كان ينسخ منهما نسخا دون أي جهد ولا بصمة من قبله، وهو ما لاحظه العلماء فعلقوا عليه. منهم حديثا  الأستاذ فخر الدين قباوة والأستاذ سليمان الشطي صاحب كتاب المعلقات وعيون العصور. وقديما البغدادي والسمعاني صاحب كتاب وفيات الأعيان.

طريقة كتابة الخطيب التبريزي لشرح المعلقات العشر.

وأما طريقة وضع الكتاب فهي أنه كان يأخذ من كتابي ابن الأنباري والنحاس بنص كتابتهما بعد حذف ما يراه زيادات ودون وضع أي إضافة منه. ويشكر الكاتب على محاولة التسهيل للطلاب، لكن هذا لا يعني نقش الكتب الأخرى بنفس ألفاظها ووضع اسمه عليها. فكثير من الكتب تأخذ من سابقيها لكنك ترى بصمة الكاتب واضحة في تعليقاته وإضافاته وحتى في إهماله للأجزاء التي لا يرى لها أهمية. وكل هذا مفقود عند التبريزي الذي يسطو على كتابة الآخرين دون أن يكلف نفسه ولو تغيير صياغتها، إلا أن يقف عند نقطة ليأخذ من المصدر الآخر.

ولو كان شرحه يجمع كتب السابقين وينسقها لقيل أن إعادة ترتيب وتنسيق وتجميعا لمتفرقات. ولكن حتى هذا بتعبير الأستاذ سليمان الشطي، لا يفعله التبريزي. فطريقته هي أن يأخذ من هذا الكتاب قطعة ومن هذا قطعة ويضمهما على بعض وقد فعل هذا ليحقق غرضه التعليمي في المدرسة النظامية.

نماذج من شرح التبريزي للمعلقات العشر.

1- الأخذ من كل مصدر والمزج بينهما.

والآن لننظر إلى بعض الأمثلة التي أوردها الأستاذ سليمان الشطي لتظهر طريقة التبريزي في شرح الأبيات. وهذا مثال من معلقة لبيد في البيت الذي يقول: 

مِنْ مَعْشِرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ … وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا

كتب: هؤلاء الذين ذكرت من معشر هذه العادة فيهم سنة. ولكل قوم سنة معناه، سن لهم أباؤهم سنة وعلموهم مثال السنة، والإمام المثال: والسنة الطريق والأمر الواضح.

ومعنى البيت أننا ورثنا هذه الأفعال عن آبائنا ولم يزل هذا الشرف فينا متقدما.

حين نتفحص هذا الشرح نجده قد مزج من الصدرين بنفس ألفاظهما آخذا جزءا من هذا وجزءا من هذا وهادفا ما يراه زيادات. أول الشرح أخذه من ابن الأنباري بنصه دون تغيير بعد حذف صدر الكلام، لأن ابن الأنباري يتوسع في تفسير اللغة كعادته مفسرا كلمة الإمام ويأتي بشاهد شعري. فيتركه التبريزي ويأخذ معنى الإمام، ثم يذهب للنحاس فينقل سطرين أولهما شرح كلمة سنة: السنة الطريق الواضح. وبينما يتابع ابن النحاس الشرح مصرفا الكلمة ومستشهدا بالقران والكلمات المأثورة، يكتفي التبريزي بنقل آخر سطر في شرح المعنى.

2- نسخ طويل من مصدر واحد.

أحيانا ينسخ الخطيب التبريزي من مصدر واحد فقط دون الآخر دون سبب واضح. كما فعل في شرحه لأبيات معلقة زهير من البيت التاسع حتى الثاني عشر، فقد أخذ من الأنباري فقط طوال ثلاثين سطرا ولم يذهب إلى النحاس إلا لأخذ كلمة واحدة لم يجدها عن ابن الانباري. وهي تفسير العتاق بمعنى الكرام، أخذها من النحاس، ثم عاد إلى ابن الأنباري لينسخ منه طويلا. ويلاحظ أنه لم ينتق من الشرح ما يفيده ويحذف الباقي كما كان يفعل، بل أخذ عشرة أسطر في أول شرح البيت التاسع وحذف ما بعد ذلك فحذفت معلومات مفيدة كان يمكنه وضعها حتى مع الاختصار. ولكن يبدو أنه تكاسل. 


وفي مرات أخرى يترك ابن الأنباري ويأخذ من النحاس فقط. كما فعل من البيت الثامن عشر حتى الثاني والعشرين من معلقة الحارث، وأمثلة أخرى كثيرة، ولا يوجد سبب أو نظام يبرر هذا.

3- اختصارات تخل بالمعنى.

أحيانا كان يسوق الشرح مضطربا غير واضح بسبب خلطه من الكتابين الذين يأخذ منهما كما في تفسيره لمعنى (القيني) في معلقة زهير. فقد شرحه ونسبه إلى بني القين وهو خطأ. مع أن ابن الأنباري شرحه بوضوح عندما قال: أراد غبيطا، وهو قتيب طويل يكون تحت الرجل، وقيني نسبة إلى القين. الشرح واضح عند ابن الأنباري وغير مفيد عند التبريزي الذي كان يحذف الكلمات طلبا للاختصار فأتى بمعنى غريب، وفي الكتاب أمثلة كثيرة على هذا.

4- نقل كامل من شرح النحاس للمعلقات.

شرح ابن الانباري في كتابه 7 معلقات، وأضاف أبو جعفر النحاس معلقتي الأعشى والنابغة الذبياني لما رأى مكانة الشاعرين، ولما كان التبريزي ينقل من الشرحين في القصائد الاولى. فإنه وصل إلى الثامنة والتاسعة ولم يجد إلا شرح النحاس ليأخذ منه. ولهذا كان شرحه لهاتين المعلقتين نسخا من مصدر واحد، مع بعض الاختصارات كعادته، ويمكن بسهولة ملاحظة التشابه بين ما كتب واختصر وبين الأصل الذي هو شرح النحاس، لأنه مصدره الوحيد. وكعادته فهو لا يساهم بشيء في الشرح.

إضافة قصيدة عبيد بن الأبرص للمعلقات.

أضاف الخطيب التبريزي قصيدة عاشرة لكتابه، ووقع اختياره على قصيدة عبيد بن الأبرص: أفقر من أهله ملحوب. وهو اختيار بالغ الغرابة، فهناك قصائد جاهلية أفضل منها كثيرا، وحتى عبيد بن الأبرص له أفضل منها. ربما نخمن أسبابا لهذا الاختيار، لكن على كل حال، فهذه القصيدة كادت ألا تكون شعرا من الأساس، فليس لها أي وزن منتظم. ولو كتب شاعر مثلها الآن لأصبح سخرية المجالس. ولو كتب مثلها طالب لرسب، فهو اختيار غريب ضعيف جدا من التبريزي، ولم يكلف نفسه بوضع أي تفسير للاختيار، فقد وضعها فقط. وهذا ما يجعل التساؤل عن مدى أهليته لشرح الشعر واعتباره عالما سؤالا مشروعا.

وتزداد أسباب التساؤل وجاهة عندما ننظر لطريقة شرحه في هذه القصيدة خاصة. لأنه انفرد بها ولم يجد مصدرا ينسخ عنه، وكما هو متوقع جاء شرحه بالغ الضعف. فقد ترك أبياتا كاملة بلا أي شرح، واكتفى باستعراض اختلاف الروايات وإيضاح معاني بعض المفردات. وهذا ما جعل الأستاذ أحمد جمال الدين هاشم العمري يقول: أما معلقة عبيد بن الأبرص فقد تاه التبريزي وحار بين أبياتها لا يدري ما يقول.

وبعد هذا فيحق لنا أن نتساءل عن اعتبار هذه القصيدة معلقة، وضمها مع هذه الصفوة من القصائد. فإنها مجرد اختيار بلا سبب وضع في مذكرة مدرسية قديمة. وقد تقدم إيضاح طريقة وضع الكتاب، وتبين أنها لم تسر على أصول التأليف الصحيح. ولهذا نكون مطمئنين عندما نحذف هذه القصيدة من ثبت المعلقات، وأرى أنها لم تعتبر كذلك إلا بسبب تقادم عهد الكتاب، فأي قديم مقدس، والسبب الآخر هو عدم وجود نقد وتصحيح حقيقي.

في النهاية أقول: يحمد للخطيب التبريزي وضعه مذكرة ساعدت الطلاب على تقريب مادة المعلقات. ولكن كتابه لا يعد مرجعا بأي حال، وفيه من أمارات الضعف ما يكون في المذكرات التي لفقت على عجالة، لكن شهرته تضخمت جدا بشكل لا يتناسب مع ضعف تأليفه، وحقيقة الكتاب أصغر كثيرا من ذيوع اسمه.

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى