مقالات

شرح المعلقات لابن الأنباري

شرح ابن الأنباري القصائد السبع الجاهليات.

المعلقات هي درة الشعر الجاهلي العربي، وفيها تجلت براعة اللغة والبيان، ولهذا اهتم بها علماء المسلمين وتكاثرت شروحها. ومن أهم الكتب التي شرحتها كتاب: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، لابن الانباري. أو كما نعرفه: شرح المعلقات لابن الأنباري. وهو أيضا شارح الديوان الكبير المعروف: ديوان المفضليات، الذي جمعه المفضل الضبي وسمي باسمه، وبهذا فقد قدم خدمات لا تقدر بثمن للغة العربية وأدبها، إلى جانب كتب أخرى كثيرة مثبتة في سيرته العطرة. 

نحتاج أن نتكلم عن المعلقات وشروحها لنوفيها حقها الأدبي ويعود اهتمام الناس بها، ولذا نتحدث اليوم عن هذا الكتاب وقيمته الأدبية وطريقة شرحه، كما نذكر طبعته المتوفرة في الأسواق. ومدى فائدته للقارئ المعاصر الذي يريد أن يقرأ المعلقات ويفهمها.

اسم ابن الأنباري كاملا ونسبه وعلمه. 

هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، المعروف بابن الأنباري. ولد في مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، سنة 271 للهجرة. ينسب للأنبار وهي بلدة غرب بغداد، وتوجد محافظة باسم الأنبار في دولة العراق الحالية. 

بدأ حياته في رعاية أبيه القاسم الذي كان عالما معروفا. وتلقى النحو واللغة عن أبيه وعن عدد من العلماء منهم أبو العباس أحمد بن ثعلب العالم اللغوي المعروف ورأس مدرسة الكوفة في زمانه.

ولا يخلط القارئ الكريم بين  أبي بكر ابن القاسم وأبيه الذي كان عالما أيضا، ولا بعالم ثالث حمل نفس الكنية بعدهما بمائتي عام تقريبا: وهو أبو البركات الأنباري. صاحب كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف، وهو كتاب نحوي معروف، وأسرار العربية ونزهة الألباب. 

أقوال العلماء في ابن الأنباري.

 

وكان أبوه من قبله عالما، وهو من علمه القراءة وأخذ عنه بدايات علمه، وقد بدأ يكتب عنه وأبوه حي. وكان يملي في ناحية المسجد أبوه في ناحية أخرى.

لكنه ما لبث أن تفوق على أبيه: فقال ابن النديم أنه كان أفضل من أبيه وأعلم. في نهاية الذكاء والفطنة وجودة القريحة وسرعة الحفظ. وكان مع ذلك ورعا من الصالحين، لا يعرف له جرمة ولا زلة. ويضرب به المثل في حضور البديهة وسرعة الجواب، وأكثر من يمليه من غير دفتر ولا كتاب.

وكان متخلقا بأخلاق العلماء، روي أنه صحَّف اسما في مجلس من مجالسه، أي نطقه خاطئا. فعرف ذلك واحد من تلاميذه هو أبو الحسن الدارقطني. واستحى أن يكلم الشيخ لكنه نبه الكاتب وراءه بالغلط. فلما جاءت الجمعة التالية قال للكاتب: عرف الجماعة أننا صحفنا الاسم الفلاني ونبهنا ذلك الشاب على الصواب. أي أنه رحمه الله لم يستكبر عندما نببه طالب لخطأ وأعلن ذلك أمام الجميع. هذه بعض من أخلاقه وأخبار علمه، وقد حوت الكتب أكثر من ذلك عنه.

اسم الكتاب: شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات

والآن لنخصص حديثنا حول الكتاب الذي يهمنا، وقد أبرزت لك اسمه حتى تدرك أن لفظ المعلقات الذي نعرفها به الآن لم يكن قد اشتهر وعمم حتى ذلك الوقت، لهذا ترى جل الشروح القديمة تسميها بأسماء مختلفة كما اختار ابن الأنباري رحمه الله أن يشير لها بهذا الاسم. 

وقد تضمن الكتاب القصائد السبع التي اختارها حماد الرواية مع تعريف وافٍ بكل شاعر قبل قصيدته. ورتبها بأن بدأ بقصيدة امرؤ القيس، ثم طرفة بن العبد، ثم زهير بن أبي سُلمى، ثم عنترة بن شدّاد، ثم عمرو بن كلثوم، ثم الحارث بن حِلّزة، وأخيرا قصيدة لبيد بن ربيعة. وهكذا فترتيب القصائد يختلف عادة بين الكتب، إلا أن الثابت هو البدء بمعلقة امرئ القيس.

ويبدأ الكتاب دون مقدمة من صاحبه. فلم يكتب أي شيء في البداية ولم يشرح منهجه، ولم يعرج على شيء من تاريخ العرب أو أهمية الشعر أو إشارة لأهمية هذه القصائد بالذات، تجاوز ابن الأنباري كل هذا وبدأ مباشرة. وربما يكون السبب أنه كان يملي الكتاب إملاء كما كان يؤثر عنه. 

طريقة شرح ابن الأنباري

مقدمة أدبية وافية لكل شاعر. 

يبدأ ابن الأنباري الحديث عن القصيدة بحديث وافٍ عن قصة الشاعر. يذكر اسمه ونسبه وأحداث حياته بتفصيل أدبي يفيدنا في فهم القصيدة فيما بعد. ويذكر أثناء ذلك أبياتا من شعره في المواقف المختلفة وأبياتا من شعر غيره. وهو أكثر شراح المعلقات اهتماما بالجانب الأدبي والإنساني من حياة الشعراء. 

ففي مقدمة التعريف بطرفة بن العبد. تحدث عن الخلاف بينه وبين عمومته وعن خروج طرفة مع عمرو بن أمامة ضد عمرو بن هند. وعقاب عمرو بن هند له وتربصه به حتى قتله. وبهذا فهمنا منطلقات طرفة التي عبر عنها في المعلقة، والتي ربما لم نكن لنفهمها لولا هذه المقدمة.

كما تحدث الخلاف الذي دب داخل قبيلة لبيد بن ربيعة ونفيت عشيرته على إثره. وهو الحدث الذي أغضب لبيد بن ربيعة وألهمه إنشاد هذه المعلقة.

فكتاب ابن الأنباري ليس سردا جافا لقواعد اللغة مثل كتب غيره. لكنه بعد المقدمة لا يعرج على قصائد الشاعر الأخرى وموقع القصيدة المختارة منها، بل يدخل لها مباشرة.

شرح الأبيات: 

للأنباري في شرحه أسلوب مميز، سار به في هذا الكتاب وفي كتابه الآخر: شرح المفضليات، لكنه لا يلتزم به تماما في كل بيت، فقد يزيد وينقص.

يثبت نص البيت أولا، وينبه على رواياته المختلفة إن وُجدت. ثم يذكر معاني الكلمات داخل البيت بعرض مستفيض. يذكر فيه رأيه وآراء علماء آخرين، ويحتج لتأكيد المعاني بذكر أبيات أخرى وردت فيها الكلمات. ثم يشرح الأبيات التي أتى بها، وهذا أمر مميز في شرحه. فيرد في شرحه أبيات كثية جدا لشعراء آخرين مع شرحها أيضا. قبل أن يعود إلى البيت فيكمل الشرح. 

لكنه أحيانا قد يستطرد ويكثر الحديث عن أبياته التي أتى بها حتى لكنه يُنسِي القارئ الأبيات الأصلية. فهو كثير الاستطراد وربما يسبب هذا بعض الضيق أو التشتت. 

ويستشهد على شرحه ببسط آراء العلماء السابقين. فيذكر الأصمعي وأبو جعفر ويعقوب، ويروي عن أبي سلمة الفراء وأبي عبيدة. وكل هذا يدل على سعة اطلاعه، ويذكر شواهد من القرآن الكريم والنحو الإعراب. 

بعض العيوب في شرح ابن الأنباري

لا يخلو عمل بشري من التقصير، ولكتاب ابن الأنباري نصيب من ذلك. وعيوب الكتاب لا تؤثر على تجربة قراءته ولا تقلل منها، ويظل كتابا بالغ الفائدة.

فالعيب الأول:

أنه يهمل أحيانا بعض الأبيات فلا يذكر لها أي شرح على الإطلاق، مع حاجة كثير منها للشرح. مثل بيت عمرو بن كلثوم: يكون ثفالها شرقي نجد … ولهوتها قضاعة أجمعينا. أثبت البيت فقط ولم يكتب تحته شيئأ.

أو البيت القائل: كأن ثيابنا منا ومنهم … خضبن بأرجوان أو طلينا، فاكتفى ابن الأنباري بالقول: الأرجوان صبغ أحمر، فشبه كثرة الدماء على الثياب بصبغ أحمر، وخبر كأن ما عاد من خضبن، وطلينا نسق على خضبن.

وليس هذا بسبب سهولتها كما يذكر البعض، بل إنني أتصور السبب في أن الكتب كانت تملى إملاءا في المجالس. ولا تمر على مراحل المراجعة والتوثيق المكثف التي نقوم بها الآن. وربما تجاوز بيتا أو لم يذكره في حينه فلم يثبت في الشرح. وهذا الأسلوب معروف عن ابن الأنباري وذكر في تراجمه. فقد كان يشرح غيبا ولا يعود إلى كتب ولا دفتر كما قال ابن النديم.

والعيب الثاني:

كثرة الاستطراد أحيانا حتى تنسى البيت الذي كان بصدده، فقد يتوسع كثيرا أو يذكر أبياتا كثيرة جدا لشعراء آخرين ويشرحها ثم يعود للبداية.

ترى هذا في شرح البيت من معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ، فقد شرحه في خمس صفحات كاملة. ذكر فيها 18 بيتا شعريا، منها اثنان لامرئ القيس نفسه من قصيدة أخرى.

وفي قصيدة زهير بن أبي سلمى: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله … رجال بنوه من قريش وجرهم. استطرد ابن الأنباري بعده سبع صفحات كاملة يذكر بناء الكعبة وتاريخ مكة وقبائلها في وصف طويل ليس هذا مكانه، وتجد تطويلا مثل هذا في أبيات أخرى، ولو أن هذه أكبر الأمثلة فيما أذكر

أهميته من حيث الشروح 

يتضح من قراءة شرح ابن الأنباري أن صاحبه واسع الثقافة والاطلاع. وأنه يعرف القرآن واللغة والشعر والرواة وأخبار العرب. ويستعين بكل ذلك في ثنايا شرحه، فخرج شرح ابن الأنباري للمعلقات مفيدا غاية الإفادة. 

يعتبر شرح ابن الأنباري مصدرا لا غنى عنه لشادي اللغة العربية وعوالي الأدب، وقد اعتمد عليه العلماء بعد زمنه وحتى الآن في فهم واستيعاب القصائد العربية. ومن بين شروح المعلقات يجب أن يوضع شرح ابن الأنباري في الطبقة الأولى. 

تواجد الكتاب وطبعاته.

يتوفر كتاب شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات في طبعة تقدمها دار المعارف المصرية، بتحقيق وتعليق عبد السلام محمد هارون. وطبعة الكتاب قديمة على ورق خشن ثقيل. وبالتنسيق القديم المميز للآلات الكاتبة العتيقة. حيث تظهر طريقة الكتابة القديمة على الآلة الكاتبة وحتى لطخات الحبر على الصفحات. وهي سمة في الطباعة أول ما ظهرت.

ومن الواضح أن الكتاب يعاد تصويره من نفس النسخة السابقة دون إعادة تنسيق. ولو أن الكتاب نُسق مرة أخرى على الحاسوب لخرج بحلة أفضل كثيرا من وضعه الحالي، ليشجع الناس على قراءته. وهذا جهد بسيط جدا لا يحتاج إلا عمل رجل واحد، ونتمنى أن يحدث ذلك. كما لم تقم أي دار نشر أخرى بتبني الكتاب وإخراجه في حلة جميلة.

تظهر قلة الاهتمام بكتب التراث جلية على هذه الطبعة. وهو ما يذكرنا بضرورة الحديث والإصرار على ذلك حتى يعود الاهتمام بهذه الكتب التي لا تقدر بثمن.  التأمل في هذه الحال التي وصلت لها الكتب هو ما دعاني لكتابة هذه الفقرة، وآمل أن يتغير ذلك قريبا.

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي