نعرف أن الشعر كان يحتل المكانة العليا عند العرب القدماء، فيه بثوا قصصهم وسجلوا تاريخهم ومشاعرهم ببلاغة وجمال لا مثيل له، وقد كانت القبيلة تفتخر إذا ظهر فيها شاعر مجيد لأنه قد ظهر لها لسان يدافع عنها ويسجل مآثرها.
قصائد العرب كثيرة، بل أكثر من أن تحصى، لكن تميزت منها مجموعة خاصة جمعت المحاسن كللها وتفوقت على غيرها وبلغت شهرتها الآفاق، وهي التي ندعوها، المعلقات، أو القصائد الطوال، أو السَّمُوط.
تميزت هذه القصائد بشكل خاص من بين قصائد العرب الكثيرة، لأنها تتفوق في الجمال، ولأن أصحابها هم الأكثر شهرة، وهي من بين القصائد الأطول، والأجمل في المعاني والصور، والأبعد في الخيال والتصاوير، وأصدقها تعبيرا عن شؤون العرب، هذه القصائد هي صفوة الصفوة، وهي المعيار ونقطة الارتكاز لغيرها.
ماذا تعني كلمة المعلقات؟
المعلقات هي صفوة القصائد العربية من العصر الجاهلي، العصر الذي اشتهر فعلا بكثرة الشعر وعلو مكانته ومكانة قائله الاجتماعية، وبرزت هذه القصائد فوق الجميع، فلك أن تتخيل جودتها كي تقف في مقدمة هذا الحشد الهائل لأمة كانت تعيش وتتنفس الشعر.
اشتق اسم المعلقات التعلق القلبي، وهو شد الحب، فهي القصائد التي تعلق بها العرب ورددوها أكثر من كثيرها، وكانت لها تسميات أخرى في الكتب التي شرحتها، لكن لفظة المعلقات هي التي اشتهرت في النهاية.
قصة اختيار القصائد، تميز هذه القصائد عن بقية الشعر الجاهلي.
اختيار هذه القصائد لم يأت اعتباطا، لأنها تتضمن أفكارا كثيرة يفهمها من له دربة ومعايشة للشعر الجاهلي ومن له قدرة كبيرة على التأمل وفهم الرموز والمعاني المبطنة داخل الأبيات، ويفهم سر تفوقها إذا قرأت القصائد الأخرى وتأملت في الفوارق، حينها ستفهم أن هذه الاختيارات ليست عشوائية.
حماد الراوية يختار المعلقات
مع ظهور الكتب في العلوم المختلفة وتقدم أسباب الحضارة، انتبه الناس إلى الإرث القديم للعرب، وأرادوا تدوين الشعر وحفظه مكتوبا بعدما تطاول عليه الزمن، وضاع كثير منه، خاصة بعدما لوحظ قلة المشتغلين به وخيف عليه من الضياع، فأتى حماد الرواية في نهاية الدولة الأموية وبداية العباسية وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، واختار سبعة من أفضل القصائد الموروثة عن الأجيال الأولى للعرب، رأى أنها تمثل نماذج عليا للشعر الجاهلي، وأنه ينبغي أن تُحتذى، فسماها السبع الطوال، إشارة لطول هذه القصائد مقارنة بغيرها، واهتم بروايتها وتوثيقها وشرحها، وحث الناس على حفظها، فانتشرت حتى يومنا هذا.
كان حماد نديما مقربا من خلفاء بني أمية، ووفد أيضا على أبي جعفر المنصور، إلا أن صلته كانت قليلة، فلم يجزل عطاءه مثل بني أمية.
اختار سبعة من أشهر الشعراء المعروفين ، واختار لكل واحد منهم أفضل قصيدة من شعره، قصيدة واحدة لكل شاعر، وهكذا جمع حسب ذوقه سبع قصائد لسبعة شعراء.
والقصائد التي جمعها هي:
1- قصيدة امرؤ القيس التي أولها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
2- قصيدة طرفة بن العبد التي أولها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد.
3- قصيدة زهير بن أبي سُلمى التي أولها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم.
4- قصيدة لبيد بن ربيعة التي أولها: عفت الديار محلها فمقامها.
5- قصيدة عمرو بن كلثوم التي أولها: ألا هبي بصحنك فأصبحينا.
6- قصيدة عنترة بن شداد التي أولها: هل غادر الشعراء من متردم.
7- قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها: آذنتنا برحلها أسماء.
سماها الطوال، لأن نظم القصيدة الطويلة أمر لا يقدر عليه إلا العبقري المتمكن، ولا يعني هذا أن هذه القصائد تتفوق على البقية في كل شيء، لأن كثيرا من أبلغ ما قاله العرب قد قيل ضمن قصائد قصيرة متفرقة، ويضم شعر العرب الكثير من الأبيات والمقطوعات المدوية والتي يطير بها الناس وتذهب أمثالا، لكنها أبيات منفردة، أو مقطوعات قصيرة أو أن بقية القصيدة لا تسير بنفس الجودة، ومن جمال هذه القصائد أنها طويلة ممتدة تظهر تمكن الشاعر من التعبير عن نفسه في أغراض مختلفة، فاجتمع فيها الطول والجودة.
اختيارات أخرى.
وبما أن اختيارات الأدب شخصية، ولا تخضع لقوانين ثابتة كالفيزياء، فربما يفضل أديب ما لا يفضله غيره، فقد أتى راوية آخر من كبار رواة الأدب، هو المفضل الضبي، صاحب مجموعة المفضليات الشهيرة، اتفق مع حماد الرواية في خمس اختيارات، لكنه أسقط قصيدة عنترة بن شداد وقصيدة الحارث بن حلزة، واختار بدلا منهما قصيدتين، هما:
8- قصيدة الأعشى التي أولها: ودع هريرة إن الركب مرتحل.
9- وقصيدة النابغة الذبياني التي أولها: يا دار مية بالعلياء فالسند.
دافع المفضل عن اختياراته في قول منسوب له بعد أن غير اختيارات حماد، أن هؤلاء هم أصحاب السبعة الطوال الذين تسميهم العرب السموط، فمن زعم أن في السبعة شيئا لأحد غيرهم فقد أخطأ، وخالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة، ويمكن فهم هذا في إطار المنافسة بين الأقران واختلاف الرؤى والأذواق بين العلماء، وربما كان المفضل ينفر من حماد الراوية بسبب اتصاله بالأمويين ثم بالمنصور، وكان المفضل كوفيا مناصرا لمحمد النفس الزكية التي ثار على المنصور وكان يؤوي أخاه إبراهيم، وعلى كل حال فاختلافهما لا يعني أن اختيار أحدهما باطل، فكلاهما أهل للفضل والقصائد التسعة تستحق.
ونلاحظ أيضا أنه أسماها السَّموط، من السمط وهي القلادة النفيسة، تشبيها لها بالقلائد النفسية والجواهر، وقد سماها حماد بالطوال، فلم يكن لفظ المعلقات قد اقترن بها بعد، وأغلب الظن أنه لم يعرف في هذه المرحلة.
أبو جعفر النحاس يجمع التسعة جميعا.
ثم جاء أبو جعفر النحاس، بعدهم بنحو مئة وخمسين عاما، كان عالما صاحب تصانيف منوعة، وقد درس في مصر ثم ارتحل إلى عاصمة الخلافة بغداد، وأخذ من علمائها، واتخذ المعلقات مادة لشرح اللغة وشواهدها، فوضع كتابه (شرح القصائد التسع المشهورات) ضم فيه القصائد الخمس المتفق عليها واختيارات حماد واختيارات المفضل، فأصبحت تسعة.
وكتابه متوفر مطبوع الآن، وفيه يهتم أبو جعفر بالشواهد النحوية وبإعراب القصائد، فيطغى الجانب النحوي على الأدبي في هذا الكتاب.
توفي ابن النحاس عام 338 للهجرة على يد أحمق وجده يقطع بيتا تقطيعا عروضيا على ضفة نهر النيل، فظن أنه يسحر النهر حتى ينقص ماءه، فرفسه فألقاه في الماء فغرق، وهكذا توفي رحمه الله على يد جاهل.
التبريزي يضيف اختيارا غريبا.
وهذا الاختيار العجيب جعل لهذه القصيدة وزنا وألحقها بنخبة القصائد عن غير استحقاق، وفي القصائد العربية ما يفوقها، بل في شعر عبيد بن الأبرص ما يفضلها، لكن هكذا كان رأي التبريزي رحمه الله، وهو من العلماء المتأخرين، ويمكن اعتبار اختياره مجرد رأي غير ملزم، وهكذا اقترن اسم هذه القصيدة بعد ذلك مع هذه الصفوة المميزة وهي لا تستحق ذلك، والله أعلم.
وحفظ الناس اختيارات حماد الرواية والمفضل الضبي باسم المعلقات، لكن كان هناك حفاظ غيرهم ولهم اختياراتهم، نذكر الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان.
اختيارات الخليفة عبد الملك بن مروان.
وممن كانت لهم اختيارات الخليفة الأموي عبد الملك بن مراون، ورغم أنه معروف بسبب خلافته، إلا أنه كان عالما قبل أن يكون خليفة، وأخباره في العلم كثيرة، وكان يجالس العلماء ويناظرهم ويجالس الأدباء، واشتهر في بلاطه جرير والفرزدق والأخطل.
وفي كتاب المنثور والمنظوم: يروي المؤلف أن عبد الملك بن مروان (ت. 86 هـ) كانت له مجموعة شعرية خاصة اختار فيها قصيدة واحدة لكل من: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وسويد بن أبي كاهل، وأبي ذؤيب الهذلي، وعبيد بن الأبرص، وعنترة، وأوس بن مغراء. وقيل إنه عدَّل في المجموعة فطرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة آخرين، لكن المهم هنا أنها كانت مجموعة سباعية.
.
وذكر في كتاب خزانة الأدب للبغدادي: الجزء الأول صفحة 124، أن الخليفة “عبد الملك بن مروان” أمر فطرح شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة.
وهناك أبو زيد القرشي صاحب كتاب جمهرة أشعار العرب، الذي كانت له اختياراته المخلتفة قليلا والذي اختار للقصائد مسمى آخر يدل أيضا على القيمة، وهو السموط، وعموما فقد استقرت أغلب الآراء على تفضيل قصائد بعينها، وهذا لا ينفي كثرة الجيد المستحسن من شعر العرب.
إذا هذه هي المعلقات: اختيارات لأفضل القصائد الجاهلية، انتقاها الأدباء والحفاظ العرب من تراثنا القديم، وقد اختلفت اختياراتهم قليلا، واختلف الناس في ترتيبها وإن كان هناك شبه إجماع أن معلقة امرئ القيس تتفوق على غيرها، وتحدث الاختلافات حسب ما يوافق ذوق كل إنسان، وهذا معتاد في الأدب.
في المقال القادم، نناقش فكرة مهمة تكاثر حولها الكلام، هل علقت هذه القصائد فعلا على الكعبة؟