
امرؤ القيس هو الشاعر العربي الأبرز والأكثر تأثيرا على هذا الفن. فهو صاحب الفضل على غيره في تعلم هذا الفن. وصاحب التشبيهات الذكية الجميلة التي لا يقدر عليها غيره. كما أن شعره في غاية السلاسة والظرافة والتأثير على قلب من يسمعه، هو الذي حدد معالم الشعر العربي ليسير العرب من بعده على الطريق الذي رسمه لهم.
ولا يمكن أن يسمي محب الشعر نفسه كذلك ما لم يحفظ عدة قصائد لامرئ القيس مع فهمها. وكلما تأمل في معاني شعره سيتأثر بجمال اللغة وبراعة عرض الأفكار فيها. سيقدر جمال اللغة العربية ويدرك لم وُضِع في هذه المرتبة العالية.
وقد اتفقت أقوال القدماء وتواترت تعليقاتهم حول مكانة امرئ القيس ووضعه في المرتبة الأولى. وتأتي معلقته دائما في افتتاح أي كتاب يشرح المعلقات.
في هذا المقال أبين مكانة امرئ القيس عند الأقدمين وتحليل لأسباب تفوقه من ناحية نفسية واجتماعية، ثم أذكر في مقال آخر نماذج لتأثر الشعراء به. فالفكرة هي ما تهمني الآن.
مكانة امرء القيس عند الأقدمين:
أجمع رواة الشعر على تقديم امرئ على القيس على كل الشعراء الآخرين. وتعددت الأقوال وتناثرت في كتب الأدب، وأجمع لك بعضا منها:
– وضعه محمد بن سلام الجمحي صاحب الكتاب النقدي (طبقات فحول الشعراء). في الطبقة الأولى من شعراء العرب.
– قال عنه سيدنا عمر بن الخطاب عندما سأله العباس بن عبد المطلب عن أشعر الناس، فقال: (امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصرا).
المعنى: أن الشعر قبله كان كعين الماء النافرة، لا يقدر أحد على ضبطها. فأتى امرؤ القيس فهيأها للناس وأصبحت ملائمة لهم، والمعنى أنه أظهر الفن وعلمه لمن أتى بعده.
أما سيدنا علي بن أبي طالب فقال: (رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل لرغبة أو رهبة)، أي أنه يأتي بالمعاني النادرة الحسنة، ويسبق إلى كلام جديد لم يقله أحد قبله، وأنه يقول ما بقلبه دون أن يخاف من أحد فيحبس الكلام، أو يرغب فيما عند أحد فيزين كلامه.
وقال أبو عبيدة: (فُتح الشعر بامرئ القيس، وخُتم بذي الرُّمة).
أما الصاحب ابن عباد فقال: (بدء الشعر بملك وختم بملك، يقصد امرأ القيس وأبو فراس الحمداني).
وقد تعددت الأقوال في ذلك. وكلها تصب في نفس المعنى، فتقديمه على البقية يكاد يكون إجماعا.
أسباب تفوق امرئ القيس:
يمكن عزو تفوق امرئ القيس إلى أسباب رئيسية:
1- عبقريته المتفردة
2- أسبقيته الزمنية.
3- شخصيته الملكية القوية.
4- قوة التجربة التي خاضها.
5- طريقة حديثه وتشبيهاته المبتكرة وغير المتكلفة.
1- عبقرية امرؤ القيس المتفردة.
لا شك أن امرؤ القيس كان عبقريا شديد الذكاء. تتجلى فيه موهبة الشعر بطريقة لا تتكرر. وقول الشعر هو موهبة نادرة أشبه بالسحر الذي لا يمكن تفسيره ولا يستطيع الآخرون تقليده ولو حاولوا.
وتشعر بهذا بشكل واضح وأنت تقرأ المعاني التي يعبر عنها وكثرة الأسئلة التي تتولد في ذهنك بعد قراءته، وهذه علامة الأدب العالي، فقد آتاه الله قدرة غير طبيعية على التعبير عن نفسه. ولهذا يجب أن يعزى شعره أولا قبل كل شيء إلى عبقرية متفردة من عند الله. لأننا مهما تكلمنا عن ظروف أدت لنشئته بهذا الشكل فقد توفرت لآلاف غيره عبر الزمن الطويل، ولم يأت أحد بفصاحته وظرافته التي لا تقاوم. فالشاعر أو الأديب العبقري هو الذي يقدر على التعبير عن الأفكار التي تبدو طبيعية بشكل يجعلها جذابة. ويرى في المواقف اليومية ما لا يراه غيره.
2- الأسبقية الزمنية لامرئ القيس:
يسبق امرؤ القيس زمنيا كل الشعراء المهمين الذين نعرفهم. يقدر أنه عاش قبل الإسلام ب150 أو 200 عام تقريبا. قبله كان الشعر أبسط بكثير، كان الرجل يقول عدة أبيات في غرض ما. ثم أتى المهلهل التغلبي ليطيل القصائد قليلا، ولهذا لقب بالمهلهل. أي الذي يطيل القصائد كما يتهلهل الثوب.
ثم جاء امرؤ القيس ورفع مستوى الشعر لمستوى آخر بتصرفه في العبارات وألفاظه الأخاذة وبتعبيراته وتشبيهاته المبتكرة التي لم يسبقه إليها أحد. ولم يستطع أحد أن يأتي بطريقة وصفه في مواضيعه من بعده. فلم يقدر أحد أن يصف الليل أو الحصان أو المطر أو مواقفه الغزلية بمثل ما فعل، فأخمد ذكر من أتى قبله. ولهذا فهو سباق ومبتكر، فحذا الشعراء اللاحقون حذوه واتخذت القصائد نفس الشكل الذي أتى به وتحدد شكل الشعر العربي.
لا شك أنه ارتكز على تراث قائم قبله، لأن الفن لا يولد كاملا في جيل واحد. لكن أغلب ما قبله ذهب، لأن الزمن لا يبقى إلا النفيس الغالي.
وهذا معنى قول سيدنا عمر ابن الخطاب، أنه (خسف لهم عين الشعر)، أي سهل الشعر لمن أتى بعده ورسم لهم الطريق. ابتكر امرؤ القيس طرائق جديدة في الشعر لم يكن يعرفها العرب ثم أصبحت لهم عادة، مثل البدء بالغزل والطلل والرحلة والتشبيهات التي أطلقها على الفتيات وغيرها.
ومن المثير للاهتمام، أنه عندما قال ما قال، لم يكن يخطر بباله أن الإسلام سيأتي بعده بنحو مائة سنة. وأن اللغة العربية ستخرج من جزيرتها وتتحول إلى لغة عالمية. وهكذا ظلت قصته حية ومازلنا نستمتع بها، بل ونحتاج إليه كمعيار وكمصدر للغة العربية بعد 1500 على وفاته.
3- شخصيته الملكية القوية:
نشأ امرؤ القيس أميرا، يرى نفسه فوق الناس. وكان يرتكب الحماقات ويقول ما يشاء لعلمه أن مكانته تحميه، وأن أعداؤه لن يطالوه وإن رغبوا في ذلك.
وقد أفادته هذه الشخصية في الأدب، وهي قاعدة تصلح لأي شاعر أو كاتب. لأنه يقول ما يريد تماما ويطلق ما بقلبه دون خوف من أحد. هذا الخوف من النقد وإغضاب الجمهور يدفع الكاتب إلى تعديل ألفاظه أو تخفيف معانيه وتجعله يكثر التوضيح والشرح والاستطراد خوفا من رد فعل المستمع، فيفقد المعنى جماله، ويختفي خلف المحسنات اللفظية.
التدقيق المبالغ في الكلمات يقلل الشاعرية التي هي التكلم على السجية. وكان امرؤ القيس جريئا في عرض المعاني التي تنفجر في صدره كما يشعر بها، ودون اهتمام لما قد يقوله أحد. وكان من الشخصيات التي تذهب بالأمور الى آخرها، ولا يرضى بنصف التجربة فيبالغ في المتعة وهو صغير، ثم يبالغ في الانتقام من قتلة أبيه، ثم لا يرضى بأي شيء أقل من أن يكون ملكا كاملا.
كان امرؤ القيس يقول ما يريد أن يقوله تماما، سواء أأعجبنا هذا أم لا، فهو لا ينتظر رد المستمعين. وبالتأكيد فإن لنشأته الملكية دور في ذلك، فيعبر بصراحة مطلقة عن حزنه أو عن غضبه أو يخبر بتفاصيل عجيبة عما يفعله في مغامراته مع النساء وعندما يتغزل. أو عندما يسترسل في وصف حصانه المحبب أو أجواء البرية والمطر والصيد.
وبسبب هذه الشخصية، فإن شعره يخلو من المدح، لأنه يرى نفسه فوق الناس فلا يمدح أحدا. إلا أن يشكر صديقا في كلمة مقتضبة دون أن يقلل من تفسه أبدا، ولم يقل شعرا يتودد فيه بطلب أو رجاء لأحد. ولم يكن يخاف من أحد حتى عندما ساء موقفه لأقصى درجة. وهذا مصداق ما قاله سيدنا علي فيه: أنه (لم يقل لرغبة ولا لرهبة).
4- قوة التجربة التي خاضها.
الكاتب والأديب هو محصلة تفكيره وتجاربه الشخصية. التجربة تكون تجارب ومشاعر تنحبس في الصدر حتى يطلقها الرجل، ولن تتكون هذه المشاعر وتتعمق إلا بتجربة تضغط على الإنسان للحد الأقصى حتى تعتصره، ولهذا نرى أن حياة أغلب عباقرة الشعر والأدب، عربا وعجما، كانت تحتوي تقلبات هائلة هزت كيانهم، ولو كانت الحياة سهلة لما وجد الدافع الذي يجعل الإنسان راغبا في الحديث.
وقد تعرضت امرؤ القيس للكثير في حياته، وجرب تناقضاتها صعودا وهبوطا. فبعدما كان غنيا منعما لا يفكر في شيء، وجد نفسه وقد قتل أبوه وأصبح مطالبا بالثأر له واستعادة العرش، وقد عبر عن مشاعره في هذه الأحداث. ثم حاول استعادة الملك وعبر عن حزنه بفقد الأحبة في حروبه الكثيرة وفشل أحلامه الذريع، ووجد نفسه مطاردا مطلوبا للقتل واضطر في مرحلة من حياته أن يقبل حماية أناس كانوا أتباعا له حتى وقت قريب. ثم طلب المساعدة من ملك أجنبي ولم يحصل عليها ومات غريبا مريضا خارج بلاده في نهاية الأمر، وقد عصفت به كل هذه الأحداث، فعبر عنها في شعر موجع.
كان يهرب من حاضره ويتذكر بلاده كثيرا ويشتاق لها ويبكي على حبيباته بينما يراوده الطموح، وكان يرفض التخلي عنهن حتى مات، وامتزجت كل هذه المعاني معا في شعر قوي مؤثر هو أجمل ما بقي من الشعر العربي.
5- طريقة تشبيهاته المبتكرة، وطريقته في الوصف:
عندما تقرؤ أشعار امرؤ القيس، تلاحظ فورا التشبيهات المبتكرة العبقرية. تشبيه الفتاة في بيتها المكنون ببيضة النعامة المخبأة. وتشبيه ساقها الغضة بالنبات المغروس بالماء. وتشبيه أخاديد المطر على الجبل بثوب الرجل اليماني. وموجات القلق في الليل بموجات البحر. وكثير جدا غيرها مما أطلقه على الغزلان والمطر والحيوانات. والتي تدل على ذكاء بالغ وقدرة على التخيل البصري، وكثير منها لم يسبقه لها أحد.
وربما تكون هذه الأغراض هي نفسها التي قالها بعده كل الشعراء الآخرون، ولكن امرأ القيس صورها بطريقة عبقرية تماما. لأن التشبيه والوصف الجميل ممتع ويجعلك تفكر وتشغل عقلك.
ومهما كان الموضوع الذي يصفه حصانا أم جبلا أم مطرا نعاما يسير وحيدا في الصحراء، فإنك ستراه جميلا. فكأن الشاعر الماهر هو الذي يقدر على تصوير المشاهد اليومية المعتادة بصورة تجعلها جذابة.
التشبيهات لا توضح لمجرد الاستعراض.
وهناك ملاحظة شديدة الأهمية عند الحديث عن التشبيه: وهي عدم التكلف، فلا ينبغي أن يطلق الشاعر التشبيه لمجرد استعراض قدرته على وضع التشبيهات والمجازات. لأن الشعر لاحقا أصبح يعتمد على حشر هذه الأساليب البلاغية فقط من أجل البلاغة وليس من أجل المعنى. فالأصل في الشعر هو البيان الواضح للمعاني، ومن المفترض أن كل هذه الأساليب تأتي لخدمة المعنى ولا تكون جميلة إلا إذا كانت طبيعية. وهناك أبيات في غاية الجمال وليس فيها تشبيهات، لأنها صادقة، ومعناها جميل وواضح.
يستعمل الشاعر التشبيه كي يقرب الفكرة إلى ذهن المستمع او يصورها له، مثلا إذا أراد أن يعبر عن شدة بكاءه بسبب فراق أحبته، يمكن أن يقول بكيت بشدة. ولكن هذه الألفاظ لا تكفي لوصف درجة البكاء التي يريدها، لهذا يستعين بالمجاز، فيأتي بشيء من البيئة يعرفه المستمع، وهو نقف نبات الحنظل، وهو نوع من النباتات الذي يخرج رائحة حادة عند تقشيره فيسبب الحرقة في العين والدموع الشديدة. مثلما يحدث عند تقطيع البصل ولكن بقوة أكبر، هذا أمر يعرفه المستمعون من العرب لأنهم من بيئتهم. وحينها يتذكرون ألم نقف الحنظل فيتخيلون شدة البكاء ويفهمون أنه يبكي رغما عنه. كما يبكي ناقف الحنظل، وهكذا أفاده التشبيه في إيصال ما بداخله، وهو تشبيه طبيعي غير متكلف.
في العصور اللاحقة، أصبح الشعراء يحرصون على وضع التشبيهات والمجاز والاستعارات ليس خدمة للمعنى، ولكنها أصبحت هدفا في حد ذاتها ومعيارا عندهم. كلما كثرة التشبيهات والتلاعب اللفظي قالوا أنها أفضل، وربما يكون استعراضا للقدرات اللغوية. وهكذا أصبح التشبيه الذي يخدم إيضاح المعنى هدفا في حد ذاته، أما المعنى فقد تعقد وراء هذه التطويلات، وأصبح الشعر متكلفا ثقيلا على النفس.
أتمنى أن يساعد هذا المقال في إلقاء نظرة جديدة على أروع شاعر عربي وجد. وعلى تقدير الجمال في لغتنا العربية وتاريخنا الغني، وأن يفتح طريقا جديدا للتعرف على هذا التراث.