كِلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ – شرح مع معاني الكلمات
شرح قصيدة كليني لهم يا أميمة ناصب للنابغة الذبياني

كليني لهم يا أميمة ناصب هي قصيدة للنابغة الذبياني، يمدح فيها الملك الحارث بن شمر الغساني ليطلب منه الإفراج عن بعض قومه بني ذبيان.
موضوع القصيدة ومناسبتها:
تدور هذه القصيدة كأغلب شعر النابغة الذبياني حول المدح. يمدح عمرو بن الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني ملك الغساسنة، وكانت مملكة عربية تحكم جنوب بلاد الشام وما يواليها من بلاد العرب نيابة عن ملك الروم.
وكان النابغة مقيما في بلاد المناذرة ثم حدثت خلافات أو وشاية بينه وبين المحيطين بالملك، فتدهورت العلاقات، وفي نفس الوقت قامت مناوشات بين الغساسنة وقبيلة الشاعر، فانهزمت ذبيان وأخذ منها غنائم وأسرى، فغادر النابغة بلاد المناذرة، والتحق بالغساسنة يمدحهم ويطلب منهم بشكل غير مباشر أن يعفوا عن أبناء قبيلته.
بدأ القصيدة بذكر همه الذي يمنعه من النوم ليلا. بسبب تكاثر جمائل هؤلاء الملوك الكرام عليه وشعوره بما يشبه الحرج بسبب ذلك وأنه لا يستطيع أن يوفيهم حقهم. وهو الذي يريد منهم أن يواصلوا تكرمهم ويعفوا عن أقاربه. فأثنى على الملك وعلى أبيه من قبله ووصف طيب أصلهم وقوة جيشهم وثقته الكاملة في انتصاراتهم، حتى أن الطيور الجارحة اعتادت أكل جثث أعدائهم في كل معركة، وذكر أنهم يستطيعون سحق العدو بمفردهم دون مساعدة أحد. ثم ذكر عزهم وتنعمهم في بلادهم ومدح طيب مظهرهم وبلادهم وعقلهم.
وقد أبدع النابغة في وصف كل أجزاء القصيدة، بطريقة تجعلك تدرك لم قدمه رواة الشعر. وفي الحقيقة فإن قدرة النابغة على الوصف والتشبيهات قدرة عجيبة. فهو قادر على جمع المعاني المتراكبة والصور الكثيرة في أبياته كما سنرى.
قال النابغة:
1- كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ … وَلَيْلٍ أٌقَاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
كليني: فعل أمر من وَكل، بمعنى ترك، ووكل له الأمر أي سلمه له وفوضه. وفي الحديث الشريف: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أي لا تتركني إلى نفسي.
ناصب: أي متعب، يبقيه منتصبا أي قائما غير راقد ويسبب له الإرهاق.
بطيء الكواكب: هذه صورة لطول الليل، كأن الكواكب فيه لا تتحرك. والليل ينتهي عندما تبدأ الكواكب في الخفوت بضوء النهار. فإذا ظلت ثابتة لا تتحرك فإن هذا يدل على طول الليل.
المعنى: اتركيني يا أميمة لهمي الذي يرهقني، واتركيني لليلي الطويل الذي أقاسي فيه الهموم ولا يكاد يمر.
2- تَطَاوَلَ حَتَّى قٌلْتُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ … وَلَيْسَ الذِّي يَرْعَى النُّجُومَ بِآيِبِ
تطاول: هي صيغة على وزن تفاعل والتي من معانيها الامتداد والاستطالة. تعطي دلالة زائدة على طول هذا الليل
منقض: منتهٍ.
يرعى النجوم: شبه نجوم الليل بقطيع من الحيوانات يرعاه صاحبه في الصحراء، وهو قطيع بطء الحركة ويتأخر في عودته.
آيب: بمعنى عائد.
ازداد طول هذا الليل حتى ظننا أنه لن ينتهي، وشبه الأمر براعٍ يرعى هذه النجوم، وكل راع يعود بحيواناته ثم يبيت بين أهله، أما هذه النجوم فكأنها حيوانات ثقيلة بطيئة الحركة ولن تعود مع راعيها قبل يطلع الصباح وينقضي وقت طويل.
وحاصل المعنى: أنه يبقى مستيقظا قلقا حتى الصباح ويمر عليه الليل طويلا كئيبا.
3- وَصَدْرٍ أَرَاحَ اللَّيْلُ عَازِبَ هَمِّهِ … تَضَاعَفَ فِيهِ الحُزْنُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
أراح: من الرواح الذي هو عكس الغدوة. الغدوة هي الذهاب صباحا، والرواح هو العودة من بعد الظهر إلى آخر اليوم.
عازب همه: العازب هو الغائب والمنفرد الشارد.
تضاعف: تزايد وأصبح أضعاف حجمه.
في النهار يتلهى المرء بمشاغل يومه فينسى همومه قليلا. لكنها تعود مرة أخرى ليلا لتجتمع في صدر الإنسان. حتى الشارد والبعيد منها، وهذا هو معنى البيت. يقول: إن الليل يرجع الهموم مرة أخرى إلى صدر الإنسان، حتى الشارد البعيد منها. ويتضاعف الحزن فيه ويحاصر قلبه من كل جانب.
4- عَلَيَّ لِعَمْروٍ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ … لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ
النعمة: هي المعروف وعمل الخير.
ذات عقارب: تشبيه أتى به لمن يمنون بنعمتهم. فهديتهم يعقبها من وأذى كأنها عقارب تلدغ بعد أن يحصل الإنسان على الهدية.
يقول أن علي نعما وأفضالا من الملك عمرو بن الحارث لا أستطيع أن أوفيه حقها. وذلك بعد نعم سابقة من أبيه الذي سبقه. وكلها هدايا ومكرمات خالصة ليس فيها منة ولا يريدون منها مقابلا. وشبه النعم التي يمن بها صاحبها بأن فيها عقارب تلدغ، يقصد الأذى الذي يلحق المتلقي من صاحب الأعطية إذا من عليه وأحرجه.
هذا هو سبب الهم الذي حدثنا عنه في الأبيات السابقة، فهو لا يعرف كيف يجازيهم على لطفهم معه وخيرهم الذي يغرقه.
وحاصل المعنى أن يرجو أن يواصلوا أفضالهم بالعفو عن أقاربه المأسورين لديهم.
ثم لدينا ثلاثة أبيات معناها مرتبط، لأنه سيقسم ثم يذكر جواب قسمه.
5- حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ …وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
ذي مثنوية: من الانثناء أي الرجوع في الحلف. أو لا ثاني لها، والمعنى حلفة لا يرجع فيها ولا يعود.
يقول أنه أقسم يمينا لا يرجع فيها أبدا، رغم أنه لا علم لديه على الحقيقة إلا حسن الظن والثقة بصاحبه. وهو الملك عمرو الذي يمدحه، على ماذا يقسم، أي ما هو جواب القسم؟ يكمله في البيتين التاليين.
6- لَئِنْ كَانَ بِالقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بِـجِلَّقٍ… وَقَبْرٍ بَصَيْدَاءَ الذِّي عِندَ حَارِب
جلق: يقال أنه الاسم القديم لدمشق، أو أنها قرية كانت قرب دمشق الحالية.
وصيداء هي صيدا الحالية الموجودة في لبنان.
حارب: قيل اسم رجل أو اسم موضع ولا يمكن تحديد ذلك بدقة.
وفي هذه المواضع قبور أب الملك وجده. ثم يكمل:
7- وَللِحَارِثِ الجَفْنِيِّ سَيِّدِ قَوْمِهِ … لَيَلْتَمِسَنْ بِالجَمْعِ دَارَ الـمُحَارِبِ
الحارث الجفني: الحارث بن أبي شمر أحد ملوك الغساسنة، والجفني نسبة إلى جفنة، جد الملوك الغساسنة.
يلتمس: يبحث عن، أو يذهب لها، والنون للتوكيد.
دار المحارب: أي موضع العدو الذي يحاربهم.
ومعنى الأبيات مجتمعة: أنه أقسم قسما مغلظا لا يرجع فيها. وبناه على حسن الظن والثقة فقط رغم أنه لا يعرف صاحبه. لئن كان الملك عمرو ابن هؤلاء الرجال والملوك العظام المدفونون في هذه المواقع. (وهو يعلم أنه ابنهم) ويسير على سيرتهم العظيمة، فإنه سيذهب إلى مواضع الحرب أيا كانت بجموعه ويضمن له النصر. لأن هذا هو ظنه بسليل هؤلاء وقد أقسم على هذا بسبب حسن ظنه فقط وثقته فيه.
ففي هذه الأبيات مدح النابغة الملك وأباءه مرة واحدة، وأعطاه ثقته المطلقة بالنصر على أي عدو.
8- وَثِقْتُ لَهُ بِالنَّصْرِ إِذْ قِيلَ قَدْ غَزَا … كَتَائِبُ مِنْ غَسَّانَ غَيْرُ أَشَائِبِ
كتائب: هي فرق الجيش وجماعاته، وتكون الكتيبة من مئة رجل إلى ألف.
غسان: قبيلة غسان الأزدية التي ينتمي لها ملوك الغساسنة.
أشائب: جمع أشابة وهي الأخلاط من الناس المتفرقين، من شابه الشيء أي اختلط به> ونحن نقول شوائب إذا كان العنصر غير نقي، وتطلق الكلمة على الرعاع والسوقة، فهم أشائب الناس. فغير أشائب تعني: كتائب خالصة من غسان.
يقول أنه تيقن له بالنصر على أعدائه عندما علم أنه خرج في كتائب خالصة من رجال غسان فقط. دون أن يخالطهم غيرهم.
وتحرير المعنى أنه يمدح قوة قبيلة غسان بأنها تقدر على نيل الانتصار بمفردها دون الاستعانة بحليف ولا غيره. وأن رجالها أقوى من غيرهم.
9- بَنُو عَمِّهِ دِنْيَا وَعَمْرُو بِنِ عَامِرٍ … أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبِ
دنيا: من الدنو، وهو القرب، أي أقارب الملك الأقربون وأولاد عمه وعشيرته.
عمرو بن عامر: ويلقب في التاريخ بمزيقياء، ملك كبير من ملوك اليمن القدماء، وهو الجد الأكبر لقبائل غسان والأوس والخزرج أيضا وكلهم ينتسبون له.
بأسهم: البأس هو الشدة والشجاعة في الحرب
يقول: هذا الجيش مكون من بني عم الملك الأقربين، وبني أعمامه الأبعد من أحفاد الملك القديم عمر بن عامر ميزيقياء، أي من غسان واخوتها، فهؤلاء القوم شدتهم مجربة وصادقة وموثوق بها، يشمل أقارب الملك معه بالمدح أيضا.
10- إِذَا مَا غَزَوا فِي الجَيْشِ حَلَّقَ فَوْقَهُمْ … عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
حلق: التحليق هو الارتفاع.
عصائب: جمع عصابة، وهي الجماعة من الناس ومن الطير وغيره.
تهتدي: أي تعرف الطريق.
يقول: إذا غزا بنو غسان بجيشهم ارتفعت فوقهم جماعات من الطيور الجارحة من النسور والعقبان ونحوه من الطيور الجارحة الكبيرة التي تأكل اللحم. لعلمها أن جيش بني غسان سيوفر لها طعاما كثيرا من جثث أعدائهم. وهي جماعات كبيرة جدا حتى أن أسراب الطيور تعرف موقع الجيش عندما ترى أسرابا تسبقها فتحلق بها.
11- يُصَاحِبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهُمْ … مِنَ الضَّارِيَاتِ بِالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ
يغرن: الإغارة هي الدخول عميقا، ومنها جرح غائر أي مخترق عميقا داجل جسد الضحية، فيعني: التوغل عميقا داخل أرض العدو.
الضاريات بالدماء: الضاري هو المعتاد على أمر والمولع به،.فيقصد أن النسور معتادة على منظر وطعم الدماء وفيها طمع لها.
الدوارب: المتدربة أي المعتادة على الأمر.
المعنى: تصاحب الطيور الجارحة الجيش حتى تغير مثله في الدماء، وهي الطيور المعتادة على هذا الأمر لكثرة مصاحبتها للجيش.
وأظن أن هذا البيت فيه تقديم وتأخير، فلكي نفهمه ونقدر معناه يكون: هذه الطيور من الضاريات بالدماء الدوارب، تصاحب الجيش حتى يغرن مغاره
فحاصل المعنى أن هذا الجيش كثيرة الإغارة والنصر حتى أن الجوارح اعتادت مصاحبته وأصبحت تلازمه.
12- تَرَاهُنَّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْرًا عُيُونُهَا … جُلُوسَ الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ
خزرا: الذي يضيق عينه وينظر بمؤخرة عينيه، وهي النظرة التي فيها مراقبة وتحفز.
المرانب: نوع الثياب لونها يضرب إلى الأسود ومفردها مرنبانية، وتوجد الآن أنواع من الثياب تسمى مربعانية، لا أعرف أهي نفسها أم نوع آخر.
والمعنى أنه شبه النسور في ضخامة جسدها ولون رشيها الأسود بالشيوخ الذين يرتدون المرانب. وهي تنظر من بعيد، تراقب وتنتظر جثث القتلى لتأكل.
13- جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ … إِذَا مَا الْتَقَى الَجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
جوانح: مائلات، تميل بجسدها وتمد رقابها تحفزا للانقضاض.
أيقن: من اليقين وهو التأكد والثقة.
قبيل: ما يقابله أي مما يلي جهته.
المعنى أن هذه النسور تقف مائلة بأجسادها متحفزة ناحية ميدان المعركة تنتظر ظهور الجثث لتنقض. ومن صفة هذه الطيور أنها جشعة تقف متحفزة لتسرع في خطف أي شيء. وهي موقنة أن المقابلين لهم من جيش ممدوحه سيغلبون.
14- لَهُنَّ عَلَيْهِمْ عَادَةٌ قَدْ عَرَفْنَهَا … إِذَا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فَوْقَ الكَوَاثِبِ
الخطي: هي الرماج التي تصنع من جريد النخل الخطي، أي من قرى الخط وهي قرى القطيف حاليا في شرق الجزيرة. وهذا إقليم يشتهر بكثرة النخيل إلى الآن. فتصنع منها الرماح القوية، وعرض الخطي، أي أن ينصبها الجنود في وجه العدو وتعد للطعن.
الكواثب: الكاثبة في اللغة هي المرتفعة البارزة ومنها كثبان الرمل لأنها تبرز عما حولها، وهي أعلى ظهر الفرس،
يؤكد أن هذه النسور لها عادة اعتادتها من هذا الجيش، وهي الأكل من الجثث كل مرة، عندما تبدأ المعركة وترتفع الرماح فوق أظهر الخيل البارزة، تعرف النسور أن الطعام قادم.
15- عَلى عَارِفَاتٍ لِلطِّعَانِ عَوَابسٍ … بِهِنَّ كُلُومٌ بَيْنَ دَامٍ وَجَالِبِ
عارفات للطعان: أي على خيل تعرف الطعن والحرب ومعتادة عليهما. ويجب أن تكون الخيول معتادة على صوت الحروب وقرعها أو تدرب على ذلك، وإلا فإنها تفزع وقد حذف الشاعر الموصوف التي هي الخيل وأبقى على الصفة وهذا كثير في الشعر العربي.
عوابس: جمع عابس: وهو المكشر الكفهر مقطب الوجه، يظهر عليه الغضب ونحوه. والخيل حيوانت لا يظهر عليها العبوس لكنها صورة أتى بها الشاعر لإظهار أجواء الحرب.
كلوم: جمع كلْم وهو الجرح، ونقول أم مكلومة بمصيبة أي تجرحها المصيبة وتؤلمها. والرجل الكليم هو الجريح، فالمعنى أن هذه الخيول عليها جراح كثيرة من معارها السابقة.
دام: أي جرح حديث ينزف الدم.
جالب: أي جرح قديم يابس قد علته القشرة من المعارك السابقة.
ومعنى البيت أن الفرسان يمتطون جيادا مدربة معتادة على الحروب. فتثبت فيها ولا تُذعَر ولا تهرب، تكشر في وجه الأعداء، كناية عن شراسة الجيش. على أجسادها جراح قديم وحديثة من المعارك الكثيرة التي دخلتها.
16- إِذَا اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ لِلطَّعْنِ أَرْقَلُوا … إِلَى المَوْتِ إِرْقَالَ الجِمَالِ المَصَاعِبِ
استنزلوا: الاستنزال هو طلب النزول إلى الميدان. بسبب الحاجة إلى المواجهة ومبارزة الأعداء ونحوه.
أرقلوا: الإرقال هو نوع من العدو السريع، الذي نسميه الآن الهرولة أو نحو ذلك. يريد أنهم يسرعون باتجاه عدوهم
المصاعب: هو الجمل القوي صعب الانقياد، ويتخذ أساسا كفحل للتزاوج، فهو غير معتاد أن يربط بالحبال ويقاد لهذا يكون عصيا لا يستجيب، كما أنه ينتقى للتزاوج وتحسين الذرية، فيكون أقوى ما في القطيع.
المعنى: أنهم إذا احتيجوا في ميدان المعركة وطلب منهم النزول، فإنهم يسرعون باتجاه الموت كما يتحرك الجمل الفحل، شبه حركتهم بهذا الجمال بالذات لأنه قوي جدا وليس معتادا على الانقياد، فلا يقدر أحد على التحكم فيه وهكذا الجنود في هجومهم،
وحاصل المعنى: أنهم لا يتوقفون ولا يمكن لأحد إيقافهم ويسرعون في اتجاه الموت لشجاعتهم.
17- فَهُمْ يَتَسَاقَوْنَ المَنِيَّةَ بَيْنَهُمْ … بِأَيْدِيهُمُ بِيضٌ رِقَاقُ المَضَارِبِ
يتساقى: على وزن يتفاعل أي يسقي بعضهم بعضا منها.
المنية: هي الموت.
بيض: يقصد السيوف، وسميت كذلك لبياض حديدها.
رقاق المضارب: المضرب موضع الضرف من السيف، يصف سيوفهم بأنها ذات شفرات رقيقة أي حادة عند الضرب بها.
يكمل المعنى: فهؤلاء الفرسان كالشاربين الذين يسقون بعضهم.
وشارب الخمر يقبل عليها بلهفة وبحب لأنه متعلق بها، فهؤلاء الفرسان يتسابقون ويقبلون على الموت بهذه اللهفة وهذا هو موضع التشبيه، وفي أيديهم سيوف بيضاء حادة الشفرات، يضربون بها أعداءهم.
18- يَطِيرُ فُضَاضًا بَيْنَهَا كُلُ قَوْنَسٍ … وَيَتْبَعُهَا مِنْهُمْ فَرَاشُ الحَوَاجِبِ
فضاضا: ما انفض وتكسر من الشيء عند الضرب
قونس: أعلى الرأس من الخوذة والإنسان، وأعلى رأس الحيوان أيضا.
فراش الحواجب: الحاجب معروف، هو شريط الشعر الذي فوق العين، وفراشه هو العظم البارز تحته، ويكون في الإنسان والحيوان.
يقول أن ضربات سيوفهم تُطير جبهات العدو فتنفض رؤوسهم وتتبعثر أجزاؤها بقوة الضرب، ثم يتبعها الحواجب وبقية الرأس متطايرا أيضا.
فحاصل المعنى أن سيوفهم القوية تفجر رؤوس أعدائهم فتتطاير أجزاؤها.
19- وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ … بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
عيب: هو النقص والخلل والخطأ.
فلول: بقايا أو آثار.
قراع: شدة الضرب على الدروع ونحوه.
الكتائب: مجموعات الجنود.
يقول أن هؤلاء السيوف لا عيب فيها إلا آثار من الضربات والعلامات من معاركهم القديمة واصطدامهم مع كتائب العدو. أي أن السيوف منبعجة وفيها علامات وليس جديدة تماما.
وهذا ليس عيبا أصلا، بل هو أجود المدح، لأن العلامات تخبر عن حروبهم السابقة وتتحدث عن خبرتهم، فحاصل المعنى: أن هؤلاء الجنود لا عيب فيهم وهم معتادون على المعارك، الواحدة تلو الأخرى.
الأسلوب الذي تكلم به النابغة في هذا البيت، سماه البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإنك عندما تقرأ البيت مرة أخرى يتبادر إلى ذهنك أنه سيعيبهم، بوجود العلامات والثلم، غير أنه في الحقيقة يلمح لمنقبة أخرى وهي خبرتهم بالحروب وانتصاراتهم الكثيرة السابقة، فهذه السيوف قد انبعجت بسبب تكسيرها لرؤوس الأعداء ودروعهم قبل ذلك وستفعل ذلك مرات أخرى، وهذا غاية المدح في الحقيقة.
20- تُوُرِّثْنَ مِنْ أَيَّامِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ … إِلَى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارُبِ
ثورثن: أي حصلوا على هذه السيوف عن طريق الوراثة.
يوم حليمة: يوم معركة حليمة، من أكبر معارك العرب يفخر بها الغساسنة، عندما انتصروا على خصومهم المناذرة انتصارا كبيرا وقتلوا ملكهم، وكان ملك الغساسنة يومئذ الحارث الأعرج والد الملك الذي يمدحه النابغة
يكمل حديثه عن السيوف، فيقول أنها موروثة من أيام انتصارهم وآبائهم في معركة حليمة، وهذه العيوب والثلمات التي ذكرها علامات تلك المعركة، جمع النابغة في هذا البيت مدح الجيل الحالي وذكر آبائهم، بما يدل أن مكانتهم موروثة وقوتهم مستمرة.
21- تَقَدُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ … وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الحَبَاحِبِ
تقد: تشق وتقطع.
السلوقي: الدروع المنسوبة للسلوقيين، وكانت أسرة رومانية حاكمة في منطقة الشام، وإليها تنسب دولة السلوقيين
المضاعف نسجه: أي الذين جعلت فيه الحلقات مضاعفة.
الصفحاح: هي صفائح الحديد التي تصنع منها الدروع:
الحباحب: هي حشرات صغيرة مضيئة، تبعث وهجا خفيفا في الليل.
يقول أن ضربات هذه السيوف تفكك الدرع السوقية المضاعفة شديدة القوة وتشقها، وهذا من المبالغة في وصف هذه الضربات، وإذا اصطدمت في الدروع بقوة ينبعث منها الشرر المضيء، مثل حشرات الحباحب، وهذا الشرر ينتج عندما تحتك الحديد ببعضه بقوة شديدة.
22- بِضَرْبٍ يُزِيلُ الهَامَ عَنْ سَكَنَاتِهِ … وَطَعْنٍ كَإِيزَاغِ المَخَاضِ الضَّوَارِبِ
الهام: الهامة هي الرأس أو أعلى الرأس والجبهة.
المخاض الضوارب: هي النوق التي تبدأ في الولادة، وعند الوادة يندفع الدم والسوائل بقوة كأنه ينفجر.
إيزاغ: هو الدفع والطعن.
يقول أنهم ضرباتهم تزيل الرؤوس من حيث تستقر، أي من فوق أكتاف أعدائهم، وطعنات تفجر الدم كما ينفجر من النوق الحوامل.
وقد نستغرب هذا التشبيه في أيامنا أو نتقزز منه، لكنه كان مشهدا طبيعيا معتادا في حياة العرب، فكانت كل تفاصيل الإبل معتادة ومعروفة لديهم، نحن الذين لا نعلم شيئا عن الإبل، ولهذا نستغربه في زمننا.
23- لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ … مِنَ الجُودِ وَالأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
شيمة: الصفة والطبيعة والخلقة.
الجود: الكرم.
الأحلام: هي العقول والتفكير الرزين.
عوزاب: هو الغائب المنعزل، وهو الفرد الذي لا جماعة له.
يقول أن الله اختصم بصفات لم يجعلها في غيرهم، فقد جمع لهم الكرم والعقل والسيادة بين الناس، فهم حاضرون متعايشون بين البشر في المركز منهم، ليسوا غرباء أو منعزلين.
يريد النابغة بهذا الوصف أن يحفز فيهم صفات الكرم للعفو عن أقاربه، فيذكرهم بما لهم حسن تفكير والتسيير للأمور، إضافة إلى صفات القوة والشجاعة التي تقدم وصفها.
24- مَحَلَّتُهُمْ ذَاتُ الإِلَهِ وَدِينُهُمْ … قَوِيمٌ، فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِبِ
محلة: مكان إقامتهم ونزولهم
ذات الإله: البلدة المنسوبة لله، البلدة المقدسة، ويقصد بها بيت المقدس، وهي مدينة القدس الحالية.
دينهم قويم: يمدح دينهم، وكان الغساسنة نصارى ويقدسون بيت المقدس.
ما يرجون غير العواقب: أي أنهم لا يرجون من من البشر شيئا إلا عواقب أعمالهم حسب دينهم.
وحاصل المعنى أنه يمتدح بلادهم ودينهم واستغنائهم عن البشر ورغبتهم فيما عند الله فقط.
25- رِقَاقُ النِّعَالِ طَيِّبٌ حُجُزَاتُهُمْ … يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ
رقاق النعال: نعالهم رقيقة، أي أنهم ملوك منعمون، فلا يرتدون نعالا سميكة مثل عامة الشعب الذي يسعون ويشقون، فهذا الوصف يدل على الراحة والترف.
طيب حجزاتهم: الحجزة هي موضع شد الإزار، أي موضع الحزام الآن في الملابس، أي أنهم أعفاء لا يصونون فروجهم.
الريحان: النبات العطري المعروف.
يوم السباسب: هو أحد الشعانين أو أحد السعانين، واحد من الأعياد المسيحية.
يمدحهم بطيب العيش والأخلاق، فنعالهم رقيقة وهذه صفة الإنياء والملوك، أعفاء عن الفوحش وكرماء، يحييهم الجمهور في أيام الأعياد ويلقى عليهم بالريحان.
26- تُحَيِّيهُمُ بِيضُ الوَلَائِدِ بَيْنَهُمْ … وَأَكْسِيَةُ الإِضْرِيجِ فَوْقَ المَشَاجِبِ
بيض الولائد: الفتيات الصغيرة الجميلات ذوات البشرة البيضاء.
الإضريج: أنواع من الكساء الملون.
فوق المشاجب: الدبابيس أو المشابك التي تثبت فوقها الملابس على الأكتاف.
تحييهم صفوف من الفتيات الجميلات يلقون عليهم الرياحين، وهم يرتدون الملاس الفخمة المثبتة بمشابك عند الأكتاف.
يتطابق هذا الوصف مع مواكب واحتفالات الرومان، وكانت طبيعة ملابس الرومان ومن تأثر بهم بهذا المنظر، فيثبتون أنواعا من الكساء الملون عادة بالأحمر الأرجواني بمشابك على الكتف، ويسيرون في مواكب بين الناس في أيام الاحتفالات.
27- يَصُونُونَ أَجْسَادَا قَدِيمًا نَعِيمُهَا … بِخَالِصَةِ الأَرْدَانِ خُضْرِ المَنَاكِبِ
يصون: يحمون.
قديما نعيمها: يريد أن عزهم قديم متوارث، ليس حادثا قريبا.
خالصة الأردان: الأردان هي كم القميص، ومعنى خالصة نظيفة ولامعة، يقصد ملابسهم.
خضر المناكب: المنكب هو أسفل الكتف وأعلى الذراع، واللون الاخضر عند العرب يقصد به الخير، لأنه رمز النبات الذي يعيشون عليه في البيئة الصحراوية.
وقد ورد في الحديث الشريف قول الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة خضراء الدمن، وصفا للمرأة الحسناء في المنبت السوء، الدمن هي آثار السواد والاحتراق كأنه منبت سوء، والمرأة الحسنة التي تخرج من الدمن كالنبات الأخضر يخرج من الرماد، فالأخضر يرمز للخير والحسن عند العرب.
فحاصل معنى البيت أنهم ملوك وقد نشأت أجسادهم في النعيم وعليكم آثار النعمة والخير.
28- وَلَا يَحْسَبُونَ الخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ … وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ
يحسب: أي يظن.
لازب: اللازب هو الثابت أو الملتصق الذي لا يتزحزح.
الجاهل عندما يرى الخير والنعيم يظن أنه سيستمر للأبد ،وألا شر يأتي بعده فيتمادى، والنابغة يقول أنهم أصحاب عقل، فهم ليسوا كذلك
والجاهل أيضا يظن أن الشر عندما يأتي فإنه يقيم ولا يتغير، فهو يقنط، وهم أيضا ليسوا كذلك.
فحاصل المعنى أن هؤلاء الملوك يعلمون تقلب الدنيا والأيام، وهذا من كمال عقلهم، يأتي الخير بعد الشر والشر بعد الخير، فيعملون لكل حسابا ولا يطغون إذا جاء الفرح ولا يقنطون إذا جاء الشر، ويقدرون ظروف الناس.
29- حَبَوْتُ بِهَا غَسَّانَ إِذْ كُنْتُ لَاحِقَا … بِقَوْمِي، وَإِذْ أَعْيَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي
حبوت: أكرمت أو أهديت، وحباه بكذا أي أعطاه هدية
أعيت علي: ضاقت علي، أي لا أعرف ما أفعل
المذاهب: هي الطرق
يقول: هذه القصيدة أقدمها لملوك بني غسان وأنا ذاهب الآن إلى بلادي وسألحق قومي، وقد فعلت كل ما أقدر ولا أعرف ما افعل بعد ذلك، أي أنه فعل كل ما يقدر عليه وخاطبهم ليخرجوا بني ذبيان الذين في حوزتهم، وبقية الأمر يتركه لحكمة هؤلاء الملوك، فلم يطلب منهم صراحة إخراج الأسرى احتراما لمكانتهم، لكنه يترك الأمر لكرمهم وعقلهم.