
كتاب “العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده” لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني، من أفضل ما كتب في معاني الشعر العربي ونقده والتعليق عليه، وعليه قامت شهرة صاحبه، وشاع اسمه وذاع صيته.
وقد حظي هذا الكتاب بانتشار واسع، وأصبح كالمعيار لصناعة نقد الشعر، وامتدحه العلماء كابن خلدون حيث قال: أن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.
اشتمل كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه على كثير من الأخبار التي تخص الشعراء والأدب، جمعها ابن رشيق من اطلاعه الواسع، كما اشتمل نقدا على الشعر، وتظهر قيمة الكتاب النقدية والبلاغية فيما ضمه ابن رشيق من موضوعات عن الشعراء ونقد الشعر وتركيبه وتاريخه وما يتصل به من مباحث الوزن والقافية، والصور الفنية، واللفظ والمعنى، حيث وازن بينهما، وذكر آراءه وترجيحاته بينها.
الكتاب مفيد جدا لمن يحب أن يتعرف على الشعر العربي بصورة أفضل، وينغمس في هذا العالم الجميل والثري ويقدره حق قدره، ويقدر الجهود العظيمة التي قام بها الأولون ليصل لنا التراث، وكلنا أمل أن يخرج منا من يسير على دربهم.
كما أن الكتاب ضروري لمن يريد أن يواصل الفن ويصبح شاعرا، وهو زاد للأديب وكل من يهتم بالأدب ومرجع أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في هذا المجال، سوف تتعرف فيه على أسماء كثيرة من الشعراء وقصصهم وتعيش تجاربهم، وتعتاد عليهم، حتى إذا قرأت لهم بعد ذلك فهمت سياق قصائد وعرفت كثيرا عنهم مع فهم أفضل للدوافع النفسية التي تدفع الشاعر للتعبير عن نفسه، وسوف تتعلم كثيرا من فنيات الشعر والمحسنات البديعية التي يمكن تطعيم أبياتك بها بشرط ألا تصبح متكلفة كي لا تفسد الحيوية الطبيعية وتحوله إلى كلام ثقيل لا يقبله الذوق.
التعريف بالكاتب
هو أبوعلي الحسن بن رشيق القيرواني، من علماء القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولد سنة 390 للهجرة في مدينة المسيلة التي تقع حاليا في دولة الجزائر، وفيها نشأ وتعلم تعليمه الأساسي، وكان والده مملوكا رومانيا لرجل ينتمي إلى قبيلة الأزد، أي أنه من موالي الأزد، ومنه تعلم صنعة الذهب والصياغة، لكن الابن كان مقبلا على العلم والأدب، وظهرت موهبته الشعرية باكرا، فرحل إلى مدينة القيروان الموجودة الآن في تونس، لأنها كانت حاضرة هذا الإقليم وأهم مدنه ومكان اجتماع العلماء ورجال الدولة، وفيها أكمل دراسة النحو واللغة والشعر على يد علماء عصره.
اتصل ابن رشيق بحاكم المدينة المعز بن باديس ومدحه، ثم اتصل برئيس ديوان الإنشاء بالقيروان، أبي الحسن علي بن أبي الرجال، وكان رجال الدولة يصلونه بالهدايا ويكتب لهم الكتب فيحصل على جوائز، ومنها هذا الكتاب الي بين أيدينا، فقد اهداه لرئيس ديوان الإنشاء على ابن أبي الرجال وحصل به على صلة وجوائز.
كان ابن رشيق القيرواني رجلا متدينا ذا سيرة طيبة، وعليه صفات العلماء وأخلاقهم، كان يتصف الهدوء والتواضع والعلم، يحب جلسات العلم، ولم تكن له عداوات مع الآخرين، ولم يكن من النوع الذي يسعى للوصول للمناصب ونيل الأموال.
ظل يعيش في القيروان إلى أن حدث غزو قبائل بني هلال لأقاليم أفريقية فرحل منها إلى المهدية، واتصل فيها بالأمير تميم بن المعز، وكان هذا العصر عصر اضطرابات سياسية فرحل عنها أيضا إلى مدينة مازرة أو مازر، وتقع الآن في جزيرة صقلية الإيطالية، وكانت في ذلك الوقت خاضعة للحكم العربي، ولبث فيها إلى أن توفي سنة 456 للهجرة.
ألف ابن رشيق عددا من الكتب ضاع أغلبها ولم يتبق إلا القليل، وله بعض الأشعار المتفرقة، وأهم ما كتب بالطبع هو الكتاب الذي بين أيدينا، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، وقد وضع ابن رشيق الكتاب لاختلاف الناس قبله في فنون الشعر ومحاسنه، ولم يكن يستحسن ما وضعوه من كتب، حيث لم يحسنوا تبويبه، ولا تسمية أنواعه، فوضعوا أسماء مبهمة، وكل واحد قد ضرب في جهة، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه، فوضع هذا الكتاب ليكون العمدة والأساس في هذا الباب.
استغرق تأليفه وجمع مادته ثلاث عشرة سنة، من عام 412 إلى عام 425 للهجرة، وهذا يدل على الجهد الكبير الذي وضع فيه، وستلاحظ بنفسك من كثرة أسماء الشعراء والقصص التي يوردها ودقة تحليله للأبيات، رجع فيه إلى كتب كثيرة منها ما ضاع الآن ولا نعرفها إلا بسبب ذكر ابن رشيق لها، وربما تظهر في المستقبل وتستخرج من المخطوطات المدفونة في المكتبات، كطبقات الشعراء لدعبل، والأنواء للزجاجي، ومنها ما ضاع قسم منها كالمنصف في سرقات المتنبي لابن وكيع والممتع للنهشلي، وبالطبع ضمن له كتاب العمدة تخليد اسمه حتى الآن، وهكذا فأحيانا كل ما يحتاجه الكاتب هو عمل واحد متقن يفيد الناس به ويجلب له حسن الثناء إلى إن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومر علينا مدح العالم الشهير ابن خلدون عندما قال: (وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يَكتب فيها أحدٌ قبله ولا بعده مثله)
وذكر كتاب العمدة لابن رشيق بحضرة القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني فقال:
هو تاج الكتب المصنفة في هذا النوع.
أبواب الكتاب ومحتوياته
يقع الكتاب في مائة وسبعة أبواب، تسعة وخمسون بابا في الشعر ونقد وتسعة وثلاثون في البلاغة وأقسامها، وبعض الأبواب الأخرى ورغم هذا العدد فهي قصيرة وممتعة ومركزة.
بدأ في أول الكتاب بذكر فضل الشعر ورد على من يكره الشعر ويزهد الناس في دراسته، وذكر اعتزاز القبائل بشعرائها، وذكر من كان شاعرا من الخلفاء والقضاة، وذكر من خفض الشعر مكانتهم ومن أعلى ذكرهم ومن تسبب في قتلهم، وعن مشاهير الشعراء، وذكر المقلين والمكثرين من الشعراء، والمغلبين، ومن كانوا يكثرون الهجاء ومن امتنعوا عنه، وكيف كانت القبائل تخاف الهداء وتدفع للشاعر الهجاء كي يكف أذاه عنهم، وكللها فصول في غاية المتعة والجمال.
ثم انتقل إلى المواضيع الفنية فذكر العروض والقوافي وأوزان الشعر، والقريحة والشعر المطبوع أي الذي يخرج سليقة والمصنوع الذي يصنعه صاحبه صناعة واستمر يذكر الأمور الفنية في الشعر حتى انتهى منها.
ثم انتقل إلى البلاغة التي يذكر هدفها، وهو توصيل المعاني إلى القلوب، والتأثير في نفوس المخاطبين، وذلك باختيار الأساليب البلاغية المناسبة والألفاظ الصحيحة، وتكلم عن المحسنات البديعية وذكر كثيرا منها مع أمثلة مفصلة ويذكر رأيه ورأي غيره ممن سبقوه من الكتاب، ثم تكلم عن نقد الشعر وأغراضه المختلفة والسرقات الشعرية وغير ذلك من المواضيع المختلفة.
الكتاب ممتع جدا لمن عرفه ويستحق الثناء الذي قيل فيه من العلماء، وأنا واثق أنه سينال إعجابكم الشديد، خاصة مع الأسلوب الذي يكتب به الشارح حيث لا يتورع أحيانا عن السخرية من بعض الأقوال أو إبداء غضبه منها أو وصف صاحب الأبيات بأنه ثقيل الروح، أي دمه ثقيل وسمج كما نعبر الآن، أو يقول أن الشاعر الفلاني كرر كلمة التصابي، على التصابي لعنة الله من أجله، إلى غير ذلك من الآراء الطريفة.
بعض المآخذ على الكتاب
رغم قيمة هذا الكتاب إلا أن فيه بعض الخصائص التي رآها البعض عيوبا، إلا أنني لا أراها كذلك إجمالا، بل هي خصائص أسلوب ابن رشيق، وربما تعجب بعض الناس ولا تعجب غيرهم.
مثلا، نقل فيه صاحبه بعض الأبيات الخارجة من الهجاء المقذع الذي لا نستطيع قوله أمام الناس، ولن أستطيع أن أقولها على القناة رغم أنها قليلة بالمقارنة بكتب أخرى.
ولم يجعل ابن رشيق للكتاب مقدمة، بل دخل مباشرة إلى الموضوع من الكلمة الأولى، فلم يجعل له ديباجة من حمد الله والثناء عليه والحديث عن الموضوع، ربما لأن هذه الديباجة أصبحت مكررة جدا وتقليدية ولا يلتفت لها القارئ أصلا، وفي الحقيقة فهذا الأسلوب قد أعجبني وأنوي السير عليه إذا وضعت كتابا في المستقبل، الدخول في الموضوع من أول كلمة.
الأمر الآخر أن صاحب الكتاب لا يسند كلامه، فلا يذكر المصادر بل يكتفي بقوله وحدثنا بعض الناس أو قيل كذا، وفي بعض الأحاديث يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر التخريج.
وفي رأيي فهذا لا يعد عيبا أيضا، بالنسبة إلى ذكر الناس فهو يذكر القول ويهمه المعنى الذي يناقشه موافقا أو مخالفا ولا يهمه نسبة القول لقائله، فليست هذه النقطة الأساسية، وبالنسبة لإسناد الأحاديث، فأيضا ليس هذا موضع البحث فيها ويمكن الرجوع لذلك في كتبه.
سوف نكتب عدة مقالات في محتوى الكتاب ونناقشها معا لنحقق أكبر استفادة ممكنة، يمكنك أن تتابع المقالات هنا على الموقع، أو تشاهد الحلقات المصورة على قناة مدرسة الشعر العربي على يوتيوب.