شرح معلقة زُهير بن أبي سُلمى – أَمِن أم أَوْفى دِمْنة لم تَكَلَّمِ.
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم.

شرح لمعلقة زهير ببي سُلمى، وهي القصيدة التي قالها تكريما لسيدين من العرب، هما الهرم بن سنان والحارث بن عوف لإنهائهما حرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان، وتحملهما في سبيل ذلك غرامات وديات دفعوهما من أموالهم الخاصة، دفعاها عن طيب خاطر لتنتهي الحرب، ويذم الشاعر الحرب ويشجع أطرافها على عدم العودة ويندد بمن يحاول خرق المعاهدة، وفي النهاية ويعطينا تأملا عن من الدروس المستفادة من حياته الطويلة عن الأخلاق ومنع أسباب الحروب.
___________________________________________________
الفصل الأول: وقفة طلليلة وتذكر للأحبة
___________________________________________________
1- أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ … بِحُوْمَانِة الدَّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
أَمن: الهمزة استفهامية. هل من أم أوفى.
أم أوفى: الاسم الذي اختاره الشاعر لتسمية محبوبته، كناية عن الوفاء المفقود في الحروب.
الوفاء: هو الأمانة والمحافظة على العهد.
دمنة: آثار الخراب وآثار وجود الناس، السواد وروث البهائم والركام الذي يدل على وجود الناس هنا سابقا.
حومانة الدراج: اسم موضع، الحومانة هي الأرض الغليظة المنقادة، أي المرتفعة قليلا عما حولها ويسير المرء عليها بلا مشقة، ويحوم الطائر أي يحلق ويدور حول المكان، والدراج هو طائر من صنف الدجاج صغير الحجم، له وجه وعنق أسود تتخلله نقاط بيض، أي هي أرض غليظة يحوم فيها طير الدراج.
والمتثلم: اسم موضع، وهو يعني ثلم الوادي أي حوافه وصخوره المكسرة.
حومانة الدراج والمتثلم مواقع، وقد اجتهد الباحثون في تحديد مواقعها الحالية فلم يصلوا لقول دقيق، لكنها توجد ما بين بلاد الشاعر حول المدينة إلى طريق العراق، وكما هي العادة في تعديد الأماكن يعطفها الشاعر بحرف الفاء التي تفيد الترتيب ثم التعقيب بسرعة.
المعنى: بدأ زهير بسؤال استنكاري، هل توجد دمنة أو يوجد موضع خراب لم يتكلم ويخبر عن الحرب في تلك الاماكن؟فكل الآثار في هذه المواضع تشير إلى الحرب وتخبر عنها.
ويتحسر الشاعر على ضياع الوفاء بين الناس وانعدام الامانة، فقد جعلت الحرب هذه المواضع دمنا وأهلكت فيها معايش الناس ولم تبق إلا آثارهم التي تتكلم وتنطق بما حدث.
2- دِيَارٌ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّهَا … مَرَاجِعُ وَشْمٍ فِي مَنَاشِرِ مِعْصَمِ
ديار: الديار عند قبائل العرب هي مواضع السكن والانتقال، ولا يقصد بها بيوت محددة كما نعيش الآن
الرقمتين: الرقمة في الأصل هي العلامة، وتسمى بها العلامة في الصحراء، كالصخرة أو الوادي أو حتى الروضة، كل ما تحدد به الأشياء
مراجع: أي المواضع من الجلد يُرَجَّع فيها الوشم ليظهر لونه بعد خفوته.
وشم: هو الرسم تحت الجلد بلون أزرق أو أسود، ويبقى سنوات طويلة.
مناشر: هي العروق في اليد.
معصم: الموضوع الذي تلبس فيه الساعة من اليد.
المعنى: هذه ديار أم أوفى بالرقمتين يتجدد فيها الإحساس بالألم كلما رأيت المنظر، كما تعيد الواشمة تجديد الوشم على عروق اليد.
ذكر الشراح مواضع للرقمتين فزعموا أن إحداهما عند المدينة والأخرى قرب العراق، وهذا بعيد جدا، ربما كان معاصرو الشاعر يعرفون ما يقصد لأنهم يعهدون الأماكن، أما الآن فيصعب تحديد الأماكن وتبقى الفكرة.
وحاصل المعنى أن أثر الدمار موجود في هذه المواضع، فلما وقف عليها عادت له الذكريات، كما يُعاد رسم الوشم القديم ليظهر مرة أخرى. وأن وقوفه على الآثار هيج شوقه.
3- بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً … وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
العين: هي غزلان المها، وسميت كذلك لاتساع عينها، وهذه صفة جمال فيها.
الآرام: جمع رئم أو ريم، وهو الغزال العربي الأبيض.
خلفة: يخلف بعضها بعضا، تسير هذه الحيوانات ثم تأتي هذه خلفها.
أطلاء: جمع طلا: وهو الصغير من كل شيء، يقصد أولاد الحيوانات.
ينهضن: نهض أي تحرك مستجيبا، يقصد أن الصغار قد قامت عندما رأت زهير.
مجثم: جثم الحيوان والإنسان أي التصق بالأرض، وقيل ألصق صدره بالأرض، ومجثم اسم مكان، الموضع الذي تجثم فيه الحيوانات وأولادها.
المعنى أن الحيوانات البرية من المها والغزلان قد اجتمعت في المكان وتكاثرت، فترى بعضها يمشي خلف بعض، يمشي قطيع من ريم في إثر المها، والمها في إثر الريم مطمئنة، وعندما اقترب زهير وجد صغارها الي كانت ترقد مطمئنة في مواضعها على الأرض تقوم من مواضعها الكثيرة.
فالحيوانات البرية قد تكاثرت في المكان واطمأنت فيه فانتشرت وتكاثرت.
وحاصل المعنى أن المكان قد خلا من البشر بسبب هذه الحروب حتى اطمأنت فيه الحيوانات البرية وأصبح مرتعا لها.
4- وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً … فَلَأْياً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمُ
حجة: يعني سنة، لأن الحج يكون مرة في السنة.
لأيا: اللأي هو البطئ ، فعل الأمر لأيًا أي فعله بعد جهد ومشقة وإبطاء، قال امرؤ القيس فلأيا بليء ما حملنا وليدنا ، يصف رفع الصبي على ظهر الحصان ببطء.
توهم: الوهم ما يقع في الذهن من الخاطر، أي أن المكان استشكل عليه فكأنه لم يميز بينه وبين أماكن أخرى.
يقصد أنه وقف بالمكان بعد مرور 20 سنة كاملة هي مدة استمرار الحرب حتى غيرت ملامح المكان، نبت فيه النبت وانتشر الحيوان وتداعت المباني، فاحتاج زهير وقتا ليتعرف عليه ويتأكد منه بعد وَهم ومراجعة للنفس.
5- أَثَافِيَّ سُفْعاً فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ … وَنُؤياً كَجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ
أثافي: هي أحجار ثلاثة توضع تحت القدر لتثبت فوقها.
سفعا: أي لونها مسود محترق.
معرس: الموضع، المكان الذي كان تعرس فيه القدور أي توضع.
مرجل: هو القدر أو الإناء الذي يطبخ فيه الطعام.
النؤي: هو حاجز ترابي كان يوضع أمام البيت كي يحجز الماء عنه وتكون أمامه قناة من التراب المرفوع تصرف الماء وتبعده، وكانت تجهيزا يصنعه العرب في الشتاء لحماية المنازل، ويحتاج أن يجدد كل عام لأنه مجرد تراب. واسمه مشتق من النأي أي الإبعاد لأنه ينأى بالماء عن المسكن أي يبعده.
الجذم: المقطوع.
حوض الماء: المكان الذي يجتمع فيه الماء، ويصنع له الناس حوافا من تراب ونحوه كي يجتمع.
يتثلم: يتثلم أن تنكسر حافته، ويكون في الإناء والحوض والسيف ونحوه.
المعنى أنه وجد الأحجار التي توضع في مواضع القدور، وهي علامات وجود البشر مرصوصة وقد اعتلاها السواد في موضع المرجل حيث كان الطعام يصنع، والسواد فيها يدل على حرق الحطب، فهذه آثار قديمة تدل على وجود بشر.
يصف ما يرى من آثار لناس وقد عمها الخراب الناتج عن طول الزمان، فقد وجد الأحجار التي يطبخ فوقها ومازال عليها لون السواد حيث كانت توضع قدور طعامهم، ورأى بقايا الحواجز الترابية التي كان يضعها الناس اتقاء للماء، كأنها قطعة من حوض ماء لم يذهب كله بعد
6- فَلَمَّا عَرَفْتُ الدَّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَا … أَلَا انْعَمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ وَاسْلَمِ
الربع: هم أهل المكان والأقارب، وما زالت تستعمل بنفس هذا المعنى، فنقول كيف حال رَبْعِك أي أهلك وأقاربك، وأصلها من الذي يتربع في المكان أن ينزل به وقت الربيع وهو وقت الخصب والنماء. والتربع أيضا يعني العزة لأنه مشتق من وقت الخير والخصب.
أنعم صباحا: كانت تحية العرب قبل الإسلام، فيقال أنعم صباحا أي لتأتيك النعم في الصباح، وأنعم مساء لتأتيك النعم في المساء.
فلما تأكد زهير من الديار وعرف أصحابها، ألقى عليهم السلام ودعى لهم بالعز والخير والسلامة حيثما كانوا، هذه السلامة المفقودة والتي يطلبها الناس الآن بشدة.
7- تَبَصَّرْ خَلَيلِي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعَائِنٍ … تَحَمَّلْنَ بِالعَلْيَاءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ
تبصر: البصيرة هي قوة الإدراك والفطنة، يعني تخيل أو انظر ببصيرتك، أي فكر فيهم لأنهم غير موجودون
خليل: يا خليلي والخليل هو أشد درجات الحب، كأن الحبيبين يتخللان بعضهما.
ظعائن: الظعائن هي النساء المسافرة، وأصل الكلمة هوادج النساء ثم توسعوا في إطلاقها على النساء مسافرات وغير مسافرات.
تحملن: حملوا أغراضهم وسافروا.
العلياء: الأرض العالية، وعلياء نجد هو جانبها الغربي من جهة الحجاز، حيث تعلو الأرض.
جرثم: في الأصل هو التراب المجتمع حول أصول الشجر، وهو التراب الذي تسفه الريح أو يجمعه النمل.
وحاصل المعنى أنه لما رأى فراغ المكان وقد عرفه سأل عن سكانه، أين ذهبوا وأي طريق سلكوا؟ ويدعو رفيقه ليفكر معه ويتأمل في الحرب ومألاتها وكيف هرب الناس منها.
تأثر زهير بوضوح ببيت امرئ القيس الذي يقول فيه: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن … سوالك نقب بين حزمي شعبعبِ
8- جَعَلْنَ القَنَانَ عَنْ يَمِينٍ وَحَزْنَهُ … وَكَمْ بِالقَنَانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمحُرْمِ
القنان: هو موضع معروف، ويسمى الآن الموشم، وهو مجموعة هضاب أو جبال صغيرة متصلة يغلب عليها السواد، تقع قرب القصيم الحالية، وذكر في شعر العرب في مواضع عدة.
وقد مر علينا قول امرئ القيس: ومر على القنان من نفيانه … فأنزل منه العصم من كل منزل.
الحَزْن: هو الأرض المرتفعة المجاورة للجبل، والسير فيها صعب أيضا، فهي ليست أرضا سهلة منبسطة.
كم: استفهامية، يطلب فهم أهل القنان وربما يستنكر أفعالهم.
مُحِل: المحل هو الذي في أشهر الحل أو من يستحل القتال لنفسه
المُحْرم: هو الذي دخل في الأشهر الحرم التي لا قتال فيها، أو من يحرم القتال على نفسه.
يقول: أن المغادرات جعلت جبال القنان ومرتفعاتها على يمينهن وساروا، ويتساءل عن سكان القنان كأنه يعيبهم، فكم منهم العدو الذي يستحل لنفسه الحرب وكم منهم الصديق، وقد اختلط أمر الناس.
فكأن زهير يتحسر على حال الناس وسكان القنان، فالمسافرات تتجنبه لأنه خطر، ومن سكانه المحارب والمسالم، والعدو والصديق.
9- وَعَالَيْنَ أَنْمَاطاً عِتَاقاً وَكِلَّةً … وِرَادَ الحَوَاشِي لَوْنُهَا لَوْنُ عَنْدَم
عالين: عالى الشيء أي رفعه أو جعل فوقه.
أنماطا: النَّمط ثوب من صوف ملون له خمل رقيق يوضع كالستارة فوق الهودج.
عتاقا: العتيق هو الكريم الشريف الذي يدل على الأصل من كل شيء.
كلة: غطاء رقيق مرقش يوضع لحجب البعوض ونحو ذلك، وقطعة من صوف أحمر كان يكلل بها الهودج، أي توضع على رأسه.
وراد الحواشي: لون حاشيتها أي بطانتها وردي محمر.
عندم: شجر أحمر يتخذ منه صبغ بلون يشبه الدم، وهو الأيدع أيضا.
أثناء مغادرتها، رفعت النسوة على هوادجها أثوابا حمراء وزينة وعلامات وستائر حمراء، ذكرت زهير بن أبي سلمى بلون الدم المسفوك في الحروب.
10- ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبَانِ ثُمَّ جَزَعْنَهُ … عَلَى كُلِّ قَيْنِيٍّ قَشِيبٍ وَمُفْأَمِ
السوبان: هو اسم واد، وقعت عنده معركة شهيرة للعرب قبل الإسلام (ويسمى الآن معرج السوبان)
جزعنه: جزع النهار أو الوادي أي قطعه بالعرض. قطعن الوادي بالعرض.
قيني: قان الشيء أي صنعه، قيني معناها مصنوع، يشيد إحكام صنعة الهوادج.
قشيب: هو الجديد والنظيف، حديث العهد بالجلو والصناعة.
ومفأم: موسع ومزيد.
يقول: أن القافلة ظهرت في وادي السوبان ثم قطعته بسرعة، ويشيد بفخامة القافلة وإحكام صنع هوادجها، يبدو عليها النظافة والاتساع وإحكام الصناعة، ذهبت مظاهر الحياة وبقي الخراب، وهو يعني أن الخير وأهله الخير يغادرون ولا يبقى إلا الخراب.
11- وَوَرَّكْنَ فِي السُّوبَانِ يَعْلُونَ مَتْنَهُ … عَلَيْهِنَّ دَلُّ النَّاعِمِ المُتَنَعِّمِ
ورك: في الوادي أصعد فيه وذهب، أصلها ركب أوراك الإبل أي سافر عليها.
متنه: ظهره.
دل: دلالة وعلامة.
يواصل وصف رحيل الفتيات والجمال معهن، فقد اعتلين حافة وادي السوبان وسوف يخرجن منه، كل هذه الصفات الجميلة في الفتيات التي يذكرهن من زمن قديم، هي كناية عن الجمال الذي كان سائدا قبل هذه الحرب القبيحة، والذي غادر الأماكن ولم يترك فيها إلا الخراب.
12- كَأَنَّ فُتَاتِ العِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ …. وَرَدْنَ بِهِ حَبُّ الفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ
فتات العهن: ما تفتت من الصوف.
منزل: موضع نزلن فيه.
وردن به: أي أتين إليه.
حب الفنا: نبت له حب أحمر رقيق، يتكسر ويقع إذا مسه الماشي.
يتساقط من الكلة الحمراء فتات من الصوف في كل منزل يسيرون فيه، كأنه نبت الفنا الرقيق وكأنه قطرات الدم النازفة، يشير إلى توسع الحرب في كل مكان، ففي كل مكان نزيف أحمر وعلامات الحرب.
13- بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ … فَهُنَّ وَوَادِ الرَّسِّ كَاليَدِ لِلْفَمِ
بكرن: من وقت البكرة وهو الصيباح الباكر.
بكورا: تأكيد.
استحرن: تحركن وقت السحرة، وهي آخر ساعة في الليل.
بسحرة: أيضا للتأكيد.
وادي الرس: موضع.
اليد للفم: تشبيه يدل على اقتراب حدوث الأمر الأكيد، فكما تتحرك اليد باتجاه الفم وتقترب منه ولا شيء يوقفها، فهؤلاء قد اقتربن من وادي الرس فأصبحوا يقفون على أكنافه وقد أصبحوا بمنأى عن الخطر.
أي أنهن يتحركن بسرعة هربا من هذه الحرب، في وقت البكور صباحا ووقت السحرة ليلا بلا توقف، يواصلن الليل بالنهار ولا يتوقفون لخطورة المكان، حتى أصبحوا يتأكدن أنهم وصلوا للأمان عند واد الرس، وهو مكان آمن لم تطله الحرب.
14- فَلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقاً جِمَامُهُ … وَضَعْنَ عِصِيَّ الحَاَضِر المُتَخَيِّمِ
ورد: دخان على المكان.
زرقا جمامه: ماء عميق نقي أزرق، كناية عن الأمان.
الحاضر: الذي حضر إلى الأمان ووصل.
المتخيم: وضعوا خيام تنقلهم، فقد آن لهم أن يستريحوا.
فلما وصلن إلى الأمان عن وادي الرس، توقفوا ووضعوا عصي الترحال، فقد آن لم أن يستريحوا.
15- وَفِيهِنَّ مَلْهَىً لِلَّطِيفِ وَمَنْظَرٌ …. أَنِيقٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ المُتَوَسِّمِ
ملهى: شكل يتلهى به الإنسان ويستمتع.
اللطيف: الذي يقدر الجمال ويفهم.
أنيق: منظر يعجب الناظرين.
المتوسم: الذي يبحث عن علامات الخير.
منظر النسوة وهي تصل للأمان لطيف يعجب الرجل إضافة إلى جمالهن وصفاتهن الرفيعة، كل هذا يعرفه الرجل الذي يفهم ويقرأ العلامات، فاكتمل جمال المنظر عندما وصلن إلى الأمان.
وحاصل معنى القسم الماضي أن الناس يهربون من آثار الحرب والخراب ويذهبون حيث الأمن، وعبر ذلك بوصف الدمن والديار المهجورة ووصف ارتحال الجميلات ومظاهر الرقي، ثم استقرار المسافرات حيث الماء والخير والامن، ودعا رفيقه ليتبصر ويفكر في ذلك.
__________________________________________
فصل: يمدح المصلحَين الذين أوقفا الحرب.
__________________________________________
16- سَعَى سَاعِيَا غَيْظِ بنِ مُرَّةَ بَعْدَمَا … تَبَزَّلَ مَا بَيْنَ العَشِيرَةِ بِالدَّمِ
الساعي: اسم فاعل، من يسعى أو يسير في الإصلاح والخير، يقصد الرجلين محل المدح وهما الهرم بن سنان والحارث بن عوف، كلاهما من بني غيظ بن مرة.
غيظ بن مرة: من قبيلة غطفان، وكل أطراف الحرب والمصلحين ينتمون إلى قبائل غطفان، فكلهم أولاد عم.
تبزل: بَزل : أي خرج من شق ، كما يخرج الناب من اللثة. وتبزل بتاء التعدية.
العشيرة: العشيرة هم الأقارب الأقربون، وسمى زهير طرفا الحرب عبس وذبيان كذلك ليذكرهم أنهم أقارب وأولاد عم.
يتحدث عن هَرم بن سنان والحارث بن عَوف، وهما من بني غيظ بن مرة والذين تحركا لإنهاء هذه الحرب بعدما تفسخت العشيرة وانفجر الدم منها، فهم كالجسد الواحد لأنهم عشيرة واحدة فكل جرح بينهم كأنه يخرج من جسد واحد.
17- فَأَقْسًمْتُ بِالبَيْتِ الذِي طَافَ حَوْلَهُ … رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهَمِ
القسم: حلف بالله.
البيت: يقصد بيت الله الحرام الذي كان كل العرب يقدسونه.
طاف حوله: يشير لطواف العرب حول الكعبة والحج الذي كان يقدسه كل العرب.
قريش وجرهم: قريش هي القبيلة المعروفة التي تسكن في مكة حول الحرم، وجرهم هي القبيلة التي كانت تسكن حول الكعبة قبلها.
فأقسم زهير يمينا بالبيت المقدس وهو الكعبة، يشير له بأهل الحرم من قبيلة قريش وجرهم قبلها، وكانت العرب قبل الغسلام تقدس الكعبة أيضا فهي من بقايا دين إبراهيم عليه السلام.
على ماذا يقسم؟ هذا ما نعرفه في البيت التالي
18- يَمِينًا لَنِعْمَ السَّيِّدَيْنِ وُجِدْتُمَا … عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيلٍ وَمَبْرَمِ
اليمين: توكيد للقول بذكر شيء معظم.
نِعم: فعل مدح.
سحيل: هو الثوب المبسوط، كناية عن السهل من الأمور.
مبرم: الخيط المفتول المشدد، كناية عن كل أمر عسير.
أقسم يمينا وحلف أنهما نعم السيدين والرجلين الكريمين في كل وقت وكل حال، في الشدة والرخاء، وقت الأمن ووقت الحرب، فكنى عن السلم والأمن بالسحيل وهو اثوب المبسوط، وعن الحرب بالمبرم وهو المفتول المشدد.
19- تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبِيَانَ بَعْدَمَا … تَفَانَوا وَدَقُّوا بَيْنَهَمْ عِطْرَ مَنْشَمِ
تدارك: لحق به أو حال دون حدوثه، وتدارك على وزن تفاعل، الذي يفيد استمرار حدوث الفعل.
عبسا وذبيان: لمن لم يقرأ المقدمة ولا يعرف قصة المعلقة، فهما القبيلتان أولاد العم اللتان تحاربان بعضهما في حرب داحس والغبراء.
تفانوا: كادت كل واحدة منهما تفني الأخرى، أي تنهيها كناية عن كثرة التقتيل.
دقوا العطر: هو سحق أعواد العطور او المسك في مطحنة تسمى المداك لتفوح رائحته.
عطر منشم: ذكرت فيه تفاسير كثيرة، وهو مثل يقال للتشاؤم العرب منها. ويقال أنها امرأة عليها رجال فدقت لهم العطر ثم قتلوا جميعا.
يقول للسيدين أنكما لحقا قبيلتي عبسا وذبيان وأوقفوهما قبل أن تفني كل مهما الأخرى تقتيلا في هذه الحرب البشعة، وضرب مثلا لشدة المقتلة بينهما بأنهم كمن دقوا هذا العطر الذي تشاءم منه العرب، أي أن التقتيل بينهما وصل إلى المنتهى.
20- وَقَدْ قُلْتَمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا … بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأَمْرِ نَسْلَمِ
واسعا: كاملا يشمل الجميع كما نريد.
معروف من القول: الكلام الطيب، المعروف هو كل ما يدرك حسنه بالعقل أو الشرع.
نسلم: نأمن من العيب ونحفظ دماء الناس.
يمدح زهير قول المصلحين وصنيعهما، بأنهما يسعيان لإدراك السلم الشامل، بأن يدفعوا المال لأهالي الضحايا وبذل الكلام الطيب الذي يهدئ القلوب، حينها سيسلمون من الذم وينتهي الأمر على خير.
فهما يبذلان مالها رخيصا مع القول الطيب الذي يهدأ الأنفس ويطفئ الاحقاد، لأن المال في هذه الحالة لا يكفي، فكل فريق يحمل حقدا وأحزانا على أحبته المفقودين ولا يوجد مال في العالم يعوض ذلك، فليزم تطييب خاطر الناس بالكلام واحتمال الاستماع إلى الشكوى، وبل ما يجرح من الكلام، ولأجل كل هذا استحق هاذان السيدان المدح الجزيل.
21- فَأَصْبحْتُمَا مِنْهَا عَلَى خَيْرِ مَوْطِنٍ … بَعِيدَيْنِ فِيهَا مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَمِ
منها: أي من العشيرة.
العقوق: العصيان والجحود.
المأثم: موضع الإثم والذنب.
يقول أن نتيجة فعلكما أن أصبحتما في العشيرة على خير موضع وفي أفضل مكان منها، ينظر لكما الناس بالإجلال وبعيدان عن العقوق والإثم، فلا شيء عليكما، ولكما كل الخير.
22- عَظِيمَيْنِ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ هُدِيتُمَا … وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزًا مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ
مَعَد: هو معد بن عدنان الذي تنسب له قبائل العرب
عليا معد: يقصد الموضع الأعلى وموضع الشرف أمام القبائل.
هديتما: يدعو لهما بالهداية.
يستبح: يطلب الأمر مباحا أي حلال، أي بحقه وعلى وجهه السليم.
أصبحتما عظيمين في عيون كل قبائل العرب وفي المرتبة العليا أمام الجميع، وقد اهتديتما للخير، أو هو يدعو لهما بمزيد من الهداية، ومن يطلب المجد على وجهه السليم ويحصل عليه بحقه يعظم.
يحصل الإنسان على العظمة والمكانة المستحقة عندما يسعى لها بحقها، وهذا ما فعله السيدان، فقد سعيا للكلام والإصلاح بين طرفي الحرب، ثم دفعا ديات المقتولين من أموالهما الخاصة رغم أنه ليس فرضا عليهما، ولهذا فقد استحقا العظمة التي حصلا عليها.
23- وَأَصْبَحَ يُحْدَى فِيكُمُ مِنْ إِفَالِهَا … مَغَانِمُ شَتَّى مِنْ إِفَالٍ مُزَنَّمِ
يحدى: أي تقاد الإبل، والحادي هو قائد القافلة.
إفال: هي النعم والإبل وأولادها، من الأفول أي العودة من المراعي.
مغانم: مكاسب.
شتى: مختلفة منوعة.
إفال مزنم: إبل لها علامات بقطع جزء من أذنها على شكل محدد، وكانت كل قبيلة تضع علاماتها على الإبل لتعرف ملكيتها، أي أنهم يدفعون من إبلهم التي عليها علاماتهم.
يقول: وأصبح حداة الإبل يقودون جماعات كثيرة مختلفة من الإبل المعلمة بعلاماتكم، يسيرون بها إلى أهالي الضحايا في الحرب يدفعونها من خالص أموالهم.
24- تُعَفَّى الكُلُومُ بِالمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ … يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ
تعفى: تمسح ويذهب أثرها.
الكلوم: الجراح، يقصد جراح الحرب.
بالمئين: بالمئات من الإبل.
ينجمها: يفرقها ويرسلها، وهذا دلالة على كثرتها، وسميت النجوم كذلك لأنها مبعثرة في السماء.
مجرم: المذنب.
يقول: تمحي الجراح بين المتحاربين وأهالي الضحايا ويذهب أثرها من نفوسهم بدفع المئات من الإبل، يفرقها بين أحياء العرب ويدفعها هذان السيدان الذين لم يجرما ولم يذنبا شيئا، لكنهما يدفعان كل هذا عن رضا وطيب خاطر كي تنتهي الحرب.
25- يُنَجِّمُهَا قَوْمٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً … وَلَمْ يُهْرِيقُوا مِنْهَا مِلْءَ مِحْجَمِ
ينجمها: يفرقها.
غرامة: ما يلزم دفعه تعويضا أو عقابا.
يهريقوا: يسيلوا أو يصبوا، ومنها الدم المراق أي المسال.
محجم: الوعاء الصغير في الحجامة، وهو يحمل قدرا قليلا من الدم.
يرسلها هؤلاء القوم لقوم آخرين هم من أقارب أهل الحرب، كأنها غرامة ألزموها أنفسهم وليست كذلك، مع أنهم لم يتسببوا في إراقة قطرة دماء ولا ملء محجم، لكنها طيبة أنفسهم وحبهم للخير.
____________________________________________
فصل: يخاطب أطراف المعاهدة ليثبتوا
____________________________________________
26- أَلَا أَبْلِغْ الأَحْلَافَ مِنِّي رِسَالَةً … وَذْبْيَانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُوا كُلَّ مُقْسَمِ
الأحلاف: يقصد قبيلة عبس وحلفائها، فقد أقامت عدة تحالفات مع قبائل مختلفة خلال الحرب.
ذبيان: الطرف الآخر للحرب.
يخاطب طرفي الحرب، عبس وحلفاءها وذبيان، ويشدد عليهم هل أقسمتم بكل المقدسات على أن تحفظوا العهد، فهو يشدد على الجميع أن يحفظوا العهد وألا يخرقوا هذا الصلح.
27- فَلَا تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي صُدُورِكُمْ … لِيَخْفَى، وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
تكتمن: يخفي ويطمس، وفيها نون التوكيد، يؤكد عليهم ألا يفعلوا ذلك.
يدعوهم لعدم كتمان شيء في نفوسهم ولا يخفون، فإن أخفوا الكذب أمام الناس وأضمروا الشر فإن الله سيعرف، ومهما حاول الله الكتم على الله فسيعلم.
وقال الشراح أنه يعني فئة لم تكن راضية بالصلح وكانوا عازمين على الانتقام لأنفسهم، فهو يقصد هؤلاء وأمثالهم.
فائدة:
ادعى البعض أن القصيدة فيها نفس إسلامي بسبب وجود هذا البيت وما بعده، وهذا يدل على جهل الناقد الشديد بإيمان الجاهليين، فلم تكن مشكلة العرب أبدا هي إنكار الله وعدم التصديق به، فعلامات إيمانهم بوجود الله والحساب كثيرة، لكن الجاهليين تطاول عليهم الزمن وخلطوا الإيمان بعادات وأمور أخرى وعبادة الأصنام يشركونها مع الله. وكانت معرفتهم بالله مستمدة من بقايا دين إبراهيم عليه السلام، لكن ضاع منه كثير واختلط بشرك.
والأمر الثاني أن بعضا من هذا الخلط سيظهر في كلام زهير نفسه في باقي القصيدة كما سيأتي.
ومن شواهد اختلاف زهير عن دين الإسلام أن ابنه كعب بن زهير كان يهجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل لأخيه بجير بن زهير قائلا أنه خرج عن دين زهير، ولو كان دينهم الإسلام ما قال ذلك، وهذا في قصة بردة كعب المشهورة.
وهكذا فمن يقول أن بها نفسا إسلاميا لا يعلم دين العرب قبل الإسلام ولا يعلم كيف تغير بعد ذلك ولم يتمعن في قراءة القصيدة نفسها، وهذه صفات الأجانب البعيدين عن ثقافة العرب ولا يعرفون إلا قشورا ومن ينقلون منهم بلا علم، وصفات من يقرأ بسرعة بلا تثبت ثم يخرج بالأحكام العريضة.
28- يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ … لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
يدخر: يحفظ لك لحين الحاجة.
يعجل: يسرع فيه وينفذ باكرا.
ينقم: يُدفع ثمنه بالعقاب.
يقول لهم، يقد يسجل الله عليكم أعمالكم، ويحفظ عليكم في كتاب ويحاسبكم الله عليه في الآخرة، ويعاقب عليه يوم القيامة أو يعجل الله في العقاب فينتقم منهم في حياتهم.
__________________________________________
فصل: يذم زهير الحرب لينفرهم منها
__________________________________________
29- وَمَا الحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ … وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
ما الحرب إلا: أسلوب استثناء، يخخص المعنى ويؤكده في أذهانهم.
الحديث المرجم: الرجم هو الكلام بالظنون، يقصد لا يعرف كنهه ولا حقيقته.
يحذرهم من العودة إلى الحرب، فليس فيها خير يرجى، وليس فيها إلا الموت والخراب الذين يعرفونهم جيدا وذاقوا ويلاتها عيانا، فلا يحتاجون أحدا ليذكرهم بفظاعة الحرب، وحديث زهير عنها ليس كلام بالظنون ولا تهويلا، بل حقيقة اختبروها بأنفسهم، فعليهم أن يعقلوا وألا ينجروا لها ثانية لأنها تحرق الجميع.
30- مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً … وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
متى: هنا هي أداة شرط، بمعنى في أي وقت تبعثوها.
تبعثوها: تثيروها مرة ثانية.
ذميمة: مكروهة قبيحة.
تضر – ضريتموها: ضري الكلب أصبح شرسا ومولعا بالدم.
تضرم: كلها من نفس الجذر: تشتعل.
إذا أشعلتم الحرب مرة أخرى تبعثوها قبيحة كريهة، وتشتعل بسرعة إذا أشعلتموها، وتصبح شرسة كالسباع الشرهة لأكل اللحم، أي أن الأمر في أيديكم، فإذا اتفقتم ستقف الحرب، وإذا هيجتموها ستشتعل مرة أخرى قبيحة كريهة.
31- فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا … وَتُلْقِحْ كِشَافًا ثُمَّ تُنْتِجْ فَتُتْئِمِ
تعرك: هو الضغط الشديد والطحن، وسميت المعركة بهذا الاسم لأن الرجال يطحنون فيها حتى يكادون أن يطحنوا، وورد علينا كلمة تعترك في معلقة طرفة.
الرحى والثفال: ستمر علينا أيضا في معلقة عمرو بن كلثوم، الرحى هي الحجر الثقيل الذي تحن به الحبوب، والثفال هو قطعة الجلد التي توضع تحت الرحى لتستقبل الدقيق المطحون.
تلقح: لقح الحيوان أي حمل بصغير في بطنه
كشافا: الكشاف أن تحمل الناقة كل سنة، ما إن تضع وليدا حتى تحمل بغيره.
تتئم: أي تأتي بتواءم، والتوأم هو الإثنان يولدان معا في بطن واحدة.
عندما تشتعل الحرب تطحن الرجال كما تفعل الرحى وثفالها، فتدمركم تدميرا، ثم تأتي بمعارك متتابعة وتكثر وتزداد كالإناث التي تلد التواءم، شبه المعرك المستمرة في الحرب بالمرأة التي لا تتوقف عن الولادة.
فالمعنى أن الحرب شديدة على الناس وأنها تزداد كلما اشتعلت، وتأتي المعركة تلو الأخرى كالناقة التي تتابع الولادة وتتضاعف كالتي تأتي بالتواءم، لأن كل معركة تولد أحقادا جديدة وتخلق المعركة التي تليها ولا ينتهي هذا الأمر.
32- فَتثنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمُ كُلُّهُمْ … كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطُمِ
غلمان: الغلام هو الصبي قبل أن يصل للبلوغ.
أشأم: من الشؤم، النحس وعلامات وقوع الشر.
أحمر عاد: ضرب مثلا في التشاؤم ومن يجر الويلات على أهله، كمن عقر الناقة فجلب على أهله العذاب.
تفطم: تقطع عنه اللبن أي يشب ويكبر ويدخل إلى المعارك.
يقول أن الحروب يخرج فيها أولاد وجههم وجه الشر، لأنهم يولدون وقد قتل أباؤهم وذاقوا شدة الحرمان و اعتادوا القسوة وتشربوا الحقد لأنهم لم ينشؤوا نشأة طبيعية، فهم يطلبون الانتقام ويخوضون الحروب.
وقد تكلم الشراح كثيرا عن قوله أحمر عاد، فإن المقصود في الحقيقة هو أحمر ثمود، فهو من قتل ناقة النبي صالح وسبب العذاب على قومه، وقال الشراح أن العرب تسمي عادا عادا الأولى، وثمود عادا الثانية وهي من يقصد، وقال الآخرون أنه أتى بعاد كي يستقيم الوزن، وهو يقصد ثمود.
33- فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا … قُرًى بِالعِراقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ
تغلل: تأتي بالغلة، وهي المحصول والناتج.
قفيز: مكيال قديم تكال به الحبوب، أي وزنا معروفا من الحبوب، يعادل الآن ستة عشر كيلو جراما.
درهم: أي الأموال.
يتهكم عليهم ويقارن قراهم الخربة بفعل حروبهم بقرى العراق الآمنة المنتجة، فبضدها تتميز الأشياء.
تنتج لكم الحرب شيئا آخر خير قرى العراق التي تخرج بأنواع الخير والغلال والأموال، فالحرب تنتج لكم الموت والدمار والفقر.
___________________________________________
فصل: ينتقد من كاد يفسد الصلح
___________________________________________
34- لعَمْـرِي لَنِعْمَ الحَـيِّ جَرَّ عَلَيْهِـمُ … بِمَا لاَ يُؤَاتِيْهِم حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَـمِ
لعمري: يقسم الشاعر بحياته.
جر عليهم: جلب لهم المصائب والعيب.
يؤاتيهم: لا يأتون من قبله، ولا يلامون على أفعاله. أي أنهم غير مسؤولون عن جرائم هذا الشخص.
حصين بن ضمضم: رجل من ذبيان، لم يعترف بالصلح وقام ليأخذ ثأره بيد فكاد يفسد الصلح كله.
يمدح قبيلة ذبيان ويبرؤهم من أفعال حصين بن ضمضم، لأنه لم يعترف بالصلح وأصر أن يأخذ ثأره بيده، وبهذا فقد شق وحدة القبيلة وعكر صفوها وجر عليهم اللوم، فيمدحهم الشاعر ويؤكد أن ما فعله لا يعيب بقية القبيلة.
35- وَكَانَ طَوَى كَشْحاً عَلَى مُسْتَكِنَّـةٍ … فَـلاَ هُـوَ أَبْـدَاهَا وَلَمْ يَتَقَـدَّمِ
طوى: هو أن يلف ألشيء في غلاف ونحوه، أي أخفى شيئا داخله.
كشحا: الكشح هو الصدر، أي أنه يخفي نية في قلبه.
مرت علينا في معلقة امرئ القيس: وكشح لطيف، وفيه معلقة طرفة: فآليت لا ينفك كشحي بطانة، وهكذا ترى أن المفردات تتكرر، وأن الاعتياد على الكلام الفصيح يجعله سهلا متيسرا.
مستكنة: أي فكرة مستقرة في ذهنه.
أبداها: أظهرها.
وكان حصين بن ضمضم قد أسر في قلبه خطة بأن ينتقم لنفسه وكتم خططه في نفسه ولم يعلن عنها، وهكذا يبرئ زهير قومه لأنهم لم يشاركوه في مخططاته ولم يكونوا يعلمون.
36- وَقَـالَ سَأَقْضِي حَاجَتِي ثُمَّ أَتَّقِـي … عَـدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرَائِيَ مُلْجَـمِ
يقضي حاجته: يفعل الأمر، الذي يفكر فيه، وهنا حاجته أن يقتل رجلا من عبس، وسيمر علينا التعبير في معلقة عنترة (يقضي حاجة الملتوم)
أتقي: أحمي نفسي.
ملجم: حصان وضع له اللجام، واللجام قطعة من حديد توضع في فم الفرس ليتحكم به قائده.
نوى حصين أن يقتل عدوه بنفسه ثم سيحمي نفسه من الانتقام بألف فارس يأتمرون به على أحصنتهم، أي أن معه قوة كبيرة تتبعه.
37- فَشَـدَّ فَلَمْ يُفْـزِعْ بُيُـوتاً كَثِيـرَةً … لَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَـمِ
فشد: أي هاجم، ووجه حصانه نحو عدوه.
لم يفزع بيوتا كثيرة: بمعنى أنه تسلل سرا، يسخر منه زهير لأنه لم يخرج علانية كالرجال،
لدى: عند.
أم قشعم: كناية عن الموت، والقشعم هو النسر الكبير الذي يأكل الجثث.
أي أنه خرج سرا ولم يفزع بيوتا كثيرة، فلم يعلم أحد أنه خرج أصلا لأنه تسلل سرا ولم يخرج علانية كالرجال، ذهب حيث يحل الخراب والنسور التي تأكل الجثث.
38- لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِلاحِ مُقَـذَّفٍ … لَـهُ لِبَـدٌ أَظْفَـارُهُ لَـمْ تُقَلَّــمِ
أسد: يشبه الضحية المقتول بالأسد لقوته
شاكي السلاح: عليه سلاحه
الشكة هي السلاح: ذكرها علقمة بشكته لم يستلب وسليب
مقذف: الغليظ القوي.
لبد: لبدة الأسد شعره المتلبد، وهو رمز القوة، ومنه اشتق اسم لبيد بن ربيعة، صاحب المعلقة التالية.
أظفاره: أنيابه.
تسلل حصين بن ضمضم بقوته إلى هذا الرجل القوي كالأسد، وهجم عليه بغتة.
يمدح زهير العبسي الذي قتله حصين بن ضمضم، ولا يعيبه أنه قتل غدرا، فلم يكن يحسب حساب الخيانة، وكان ملتزما بالصلح ولم يكن يعلم أن حصين ينوي الغدر، وربما استقبله بأيد مفتوحة، وقتله بهذه الطريقة لا يعيبه ولا ينفي شجاعته.
يمدحه زهير بهذه الطريقة كي يطيب خاطر أهله ويهدئ غضبهم، فهذه الحدث الأحمق من حصين كاد يدمر الصلح.
39- جَـريءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقَبْ بِظُلْمِـهِ … سَرِيْعـاً وَإِلاَّ يُبْدِ بِالظُّلْـمِ يَظْلِـمِ
جريئ: شجاع.
متى يظلم: إذا اعتدي عليه فإنه يعاقب بقوة.
يواصل زهير مدح القتيل فيقول أنه كان قادرا على الظلم والرد سريعا.
40- رَعَـوْا ظِمْئهُمْ حَتَى إِذَا تَمَّ أَوْرَدُوا… غِمَـاراً تَفَرَّى بِالسِّـلاحِ وَبِالـدَّمِ
رعوا: شبه حصين وجماعته بالقطيع الذي يرعى.
ظمئهم: عطشهم للدماء.
أوردوا: ذهبوا إلى موارد الماء، ويقصد ذهاب حصين إلى منزل القتيل.
غمارا: دركات الحرب ومواقفها الشديدة.
تفرى: تتشقق كناية عن شدة العطش.
يشير إلى جماعة حصين بتشبيه من قلب البيئة العربية، شبههم بالقطيع شديد العطش، لكنهم عطشى إلى الدم، ظلوا يرعون ثم ذهبوا للشرب من دم الرجال الذين صالحوهم، وذهبوا وافتعلوا معركة ورفعوا السلاح وسفكوا الدماء.
41- فَقَضَّـوْا مَنَايَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ أَصْـدَرُوا … إِلَـى كَلَـأٍ مُسْتَـوْبَلٍ مُتَوَخِّـمِ
قضوا منايا: المنيية هي الموت، أي تسببوا في ميتات.
أصدروا: خرجوا من المرعى.
كلأ: ما تأكله الحيوانات.
مستوبل: من الوبيل التي مرت علينا في معلقة طرفة.
متوخم: أي له عواقب ثقيلة.
يقول أن هذه الجماعة تسببت في سفك الدماء ثم عادوا مرة أخرى للصحراء كما تعود الإبل للمرعى بعد شربها.
42- لَعَمْرُكَ مَا جَرَّتْ عَلَيْهِمْ رِمَاحُهُـمْ … دَمَ ابْـنِ نَهِيْـكٍ أَوْ قَتِيْـلِ المُثَلَّـمِ
جرت عليهم: أي جلب على نفسه ومنها الجريرة
ابن نهيك: وقتيل المثلم، رجال من عبس قتلهم حصين في غارته.
يعود للكلام عن ذبيان، فلم تتسبب رماحهم في سفك دم ابن نهيك ولا قتيل المثلم، بل إن هذا هو فعل حصين وجماعته.
43- وَلاَ شَارَكَتْ فِي المَوْتِ فِي دَمِ نَوْفَلٍ … وَلاَ وَهَـبٍ مِنْهَـا وَلا ابْنِ المُخَـزَّمِ
يواصل تبرئة ذبيان من التسبب في دم هؤلاء الناس الذين سماهم.
44- فَكُـلاً أَرَاهُمْ أَصْبَحُـوا يَعْقِلُونَـهُ … صَحِيْحَـاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْـرِمِ
يعقلونه: أي يدفعون ديته.
صحيحات مال: المال هنا هو الإبل، وصحيحات أي لا عيب فيها.
مخرم: فتحة أو طريق في الجبل.
يواصل مدحهم: فإنهم لم يشاركوا في قتل هؤلاء، ومع ذلك التزموا بتأدية دمائهم، وتخرج إبلهم السليمة في طريقها بين الجبال لأصحابها.
45- لِحَـيِّ حَلالٍ يَعْصِمُ النَّاسَ أَمْرَهُـمْ … إِذَا طَـرَقَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَـمِ
حي: الجماعة الكبيرة من الناس
حلال: جمع حلة: وهي نحو مائة بيت، فيقصد حيا كبيرا من الناس وهم عبس.
يعصم: يحفظ ويصون.
طرقت: أس جاءت بالليل، ويقصد غارة أو مصيبة.
معظم: مصيبة يستعظمها الناس.
يرسلون الأموال إلى عبس الذين يمدحهم أيضا، فهم كثيرون في العدد وقادرون على حفظ الناس وحماية الناس إذا جاءتهم مصيبة بالليل، وكانوا قادرون على دفع حصين لو واجهوه، لكنهم لم يحسبوا حساب غدره.
فزهير يمدح القبيلتين معا ليسترضيهم ويبرد قلوبهم، وليتجاوزوا جميعا عن فعل حصين وجماعته.
46- كِـرَامٍ فَلاَ ذُو الضِّغْنِ يُدْرِكُ تَبْلَـهُ … وَلا الجَـارِمُ الجَانِي عَلَيْهِمْ بِمُسْلَـمِ
ذو الضغن: صاحب الأحقاد.
تبله: الترة والثأر.
الجارم: صاحب الجرم المعتدي.
مسلم: لن يسلم منهم.
يقول أنهم كرام، يحثهم على أن يتكرموا ويقبلوا الدية لتنتهي الحرب، فلا يقدر الحقود أن ينال منهم ثأره، ومن يجني ويعتدي عليهم لن يسلم من انتقامهم. فهو يسترضي قبيلة عبس لتتجاوز عن هذا الحدث.
_________________________________________________________________
فصل: الحكمة والدروس المستخلصة من الحرب والحياة.
_________________________________________________________________
عاش زهير ابن أبي سُلمى كثيرا، ورأى كل شيء في الحياة، فهم دوافع البشر وأسباب حروبهم، حتى تكونت له رؤية استلمهمها وبثها في هذه الأبيات لعل الأجيال الجديدة تتعظ فلا يقيموا حروبا أخرى.
والحكمة: هي القدرة على الحكم على الأمور، وهذا لا يأتي إلا بعد تجارب كثيرة ثم التأمل فيها ليصل منها إلى نتيجة.
47- سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشُ … ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمَ
سئم يسأم: من الملل لكثرة ما رأى وتكراره وإعادة الناس لنفس الأخطااء مرارا.
تكاليف: ما تكلفه الحياة من أعباء وتضعه على كاهل
حولا: عاما.
لا أبا لك: أي عدمت أباك، تعبير يدل على الضيق من تطاول العمر وعيش كثير من مواجع الحياة وأمثال حصين بن ضمضم، (ومثله موجود في كل زمان)، ولهذا يجمعت عنده خبرة سيخبرنا بها.
48- وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ … وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ
عمِ: أعمى، لا يعرف ما سيأتي به الغد.
يقول أنه رأى كثيرا في الماضي القريب والبعيد، ويعلم بما حدث ومر عليه، ورغم ذلك لا يستطيع أن يجزم بما سيحدث، لكنه سيقدم ما عنده لعل الناس تتعلم من أخطاء الماضي.
49- رأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ … تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ
المنايا: ميتات الناس، مفردها منية وهي الموت.
الخبط: هو الضرب على غير قصد، يتخبط أي يسير بلا نظام.
العشواء: ضعيفة البصر التي لا ترى، ومذكرها الأعشى. يقصد ناقة لا ترى ما أمامها.
يعمر: يعيش عمرا طويلا.
يهرم: كبر في السن.
رأى أن الموت يضرب الناس بلا نظام، كالناقة ضعيفة النظر التي لا تبصر ما أمامها، فتضرب هذا فيموت طفلا وتترك هذا حتى يكبر ويهرم بلا نظام، فهو لا يدرك الغاية من ذلك ولا يفهمها. وشبههم بالناقة العمياء التي لا تبصر، فمن تضربه تقتله في وقته، ومن تخطئه يبقى إلى حين.
وفي هذا البيت دلالة أن زهير غير إسلامي، لأنه قوله يختلف عن الإيمان بالقدر الذي جاء به الإسلام. وهذا رد واضح على من قال أن زهير تأثر بالنفس الإسلامي.
50- وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ … يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ
يصانع الناس: يعرف كيف يسايسهم، فيأخذ منهم ما يريد ويعطيهم، وضده العنيف الذي يدخل في مشاكل، لا يقصد المنافق، بل حسن السياسة والتدبير.
يضرس بأنياب: يطحن تحت الضروس والأنياب، أي يأكله الناس.
يوطأ بمنسم: المنسم طرف خف البعير، أي تدوسه الأرجل.
أي أن من ياخذ الامور بالشدة مع الناس فإنه يلاقي منهم الشدة أيضا فيطحن ويقع تحت الأرجل، فلابد للإنسان أن يتعلم كيف يسايس الناس يوعاملهم، فيرخي مرة ويشتد معهم مرة.
51- وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ … يَفِـرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْـمَ يُشْتَـمِ
من دون عرضه: أي أمامه كأنه درع يحميه، يجعل المعروف كالحاجز يحمي عرضه، وسيحميه
والعِرض: هو الشرف.
يفره: يحفظه
يتقي: يحمي نفسه.
الشتم: القبيح من الكلام.
على الإنسان أن يحمي نفسه وعرضه بعمل المعروف مسبقا، فيكون له كالدرع يحميع من ألاذى ويحفظ له شرفه وسمعته، فالمعروف يطرح البركة في الحياة ويكون كالجمائل يسبق بها الناس، فإذا وقعت له أزمة تداعى له الناس بالمساعدة لأنه قدم لهم كثيرا قبل ذلك، وإذا كان بخيلا أنانيا لا يقف مع أحد فلن يقف معه أحد عندما يحتاج وسيفتضح.
كيف تتقي الشتم؟ لا تفعل ما تعاب عليه، وتقف في موضع الشبهات، افعل الصواب دائما والتزم بالمبدأ، واسبق دائما بالخير.
52- وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْـلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِـهِ … عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْـنَ عَنْـهُ وَيُذْمَـمِ
يك: يكون
عندما يضعك الناس في منزلة كبيرة فلابد أن تعمل بها وأن تكون أهلا لها، وإذا بخلت بما عندك وقت احتياجهم تسقط من نظرهم، ويستغنون عنك ويذمونك.
53- وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُـهُ … إِلَـى مُطْمَئِـنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَـمِ
يوف: يوفي بما عيه.
يذمم: يعاب ويهجى.
البر: هو الإحسان وصلة الناس.
يتجمجم: يضطرب في أمره ويتلعثم.
ومن يقم بما عليه ويوف حقوق الناس ويلتزم عهوده لا يذمه الناس ولن يجد له حاسده سببا للذم، ومن وفق إلى عمل الخير والإحسان فإنه يرزق الطمأنينة وراحة البال، ولا يضطرب، فالمضطرب المتردد هو من يخفي شرا يحوك في صدره ويكتمه، أما البر فيجعل صاحبه هادئا، فلا شيء يخفيه عن الناس.
54- وَمَنْ هَابَ أَسْـبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَـهُ … وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّـمِ
هاب: خاف.
أسباب المنايا: أسباب الموت.
ينلنه: يأخذنه.
يرق: يصعد.
ومن خاف أسباب الموت فإن الموت سيصيبه، ولو صعد إلى السماء بسلم ليهرب، فلا مهرب من الموت، ولهذا فليعش الإنسان شجاعا وليفعل ما يمليه عليه ضميره لأنه ميت في كل حال.
55- وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ … يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْـدَمِ
على الإنسان أن ينتقي من يقدم له المعروف، فإن كثيرا من الناس لا يحفظون الجميل، وسيردون لك المعروف بالإساءة، وسيندم.
ويحتمل البيت أيضا أن مساعدة المسيئ هي إعانة له على ظلمه وإساءته للناس، فيرجع ذلك بالندم على من قدم المعروف، لأنها أعان على خطأ وإن لم يقصد، فيصيبه الندم.
56- وَمَنْ يَعْصِ أَطْـرَافَ الزُّجَاجِ فَإِنَّـهُ … يُطِيـعُ العَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْـذَمِ
يعني هناك شر أهون من شر، أو أنك إذا أجلت مواجهة المشكلة فإنها تكبر
57- وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِـهِ … يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ
يذد: يدافع ويحمي.
الحوض: الحوض الذي يبنى لجمع الماء من البيئة العربية، كناية عن الممتلكات والأموال.
يقول أن القوة هي ما تحمي الحق، ولو لم يدافع الإنسان عن حيازته وحقه بقوة سلاحه فيسهدم حوضه، وأن الناس تخاف من الظالم المعتدي فلا تجرؤ على ظلمه، لا يعني وصفه أنه يوافق على ذلك، لكنه يصف حقيقة، وهذا أغلب ما يفعله الناس على كل حال.
58- وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَـهُ … وَمَنْ لَم يُكَـرِّمْ نَفْسَـهُ لَم يُكَـرَّمِ
يغترب: يبتعد عن بلاده.
التغرب عن البلاد يعطي صورة خادعة بفعل الحنين الذي يشوش الفكر السليم، وقد يظن العدو صديقا وهو ليس كذلك، وإنم الشوق لأهل بلاده هو ما يخدعه.
من لا يكرم نفسه لا يكرم: معنى واضح ومتداول، فإن الإنسان هو من يهين نفسه وينزل بمكانته أمام الآخرين بأفعاله، وإذا لم يقم بصيانة نفسه فلا ينتظر من الناس أن يعاملوه باحترام وتوقير.
59- وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ … وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ
خليقة: أي الأخلاق والصفات.
خالها: ظنها وحسبها.
يعني أن إن الإنسان قد يخدع الناس فترة بأخلاق مدعاة غير أخلاقه الحقيقية، لكن مهما حاول إخفاءها وظن أنه سيخدع الجميع ويدعي حقيقة غير حقيقيته ستظهر أخلاقه الحقيقة في زلات لسانه وأفعاله.
ومن هذا نفهم أن على الإنسان أن يكون صادقا وحقيقيا ولا يخدع أحدا بصفات غير موجودة فيه، لأنه وإن تمكن من خداع البعض لفترة من الوقت، فلن يخدع كل الناس ولن يستمر خداعه طوال الوقت.
60- وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِـبٍ … زِيَـادَتُهُ أَو نَقْصُـهُ فِـي التَّكَلُّـمِ
كا إن: كم من.
صامت: أي إنسان صامت لا يتكلم.
معجب: يعجبك شكله وهيأته.
قال لبيد: وكائن رأيت من ملوك وسوقة … وصاحبت من وفد كرام وموكب
يقول: كم من إنسان يعجلك شكله أو هيأته وهو صامت لا يتكلم، لكنك تعرفه حقا عندما يتكلم، هذه قيمته الحقيقية، فإن تكلم حسنا وعقلا اجتمع له جمال الشكل والجوهر وهو الأهم وازداد اعجابك به، وإذا تكلم سوءا وسفاهة سقط من نظرك ونقص، فجمال الشكل لا يغني عن حسن الكلام.
61- لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ … فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ
نصف قيمة الإنسان في حسن حديثه في المجالس ومعاملة الناس، والنصف الآخر في صفاته القلبية وأخلاقه.
أما الباقي فما هو إلا صورة يتشكل بها لحم الإنسان ودمه، ولا يهم إن كان معجبا أو طويلا أو قصيرا، فما هي إلا صور.
62- وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّـيْخِ لا حِلْمَ بَعْـدَهُ … وَإِنَّ الفَتَـى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُـمِ
سفاه: قلة العقل.
الشيخ: الرجل الكبير في السن.
حلم: العقل.
يقول إذا رأيت رجلا كبيرا سفيها وغير عاقل فانفض يدك منه، لأن الرجل الكبير لا يعقل، فقد فات أوان ذلك وثبتت أخلاقه فلن تتغير، وكثيرا ما يعاند الشيوخ على أفكارهم الخاطئة واختياراتهم لأنهم لن يعترفوا أنهم كانوا خطأ طول سنين.
أما الشاب الصغير فإن كان سفيها قليل العقل فهو يتعلم ويتغير وكثيرا ما يعقل بعد سفاهة الشباب.
63- سَألْنَـا فَأَعْطَيْتُـمْ وَعُدنَا فَعُدْتُـمُ … وَمَنْ أَكْـثَرَ التّسْآلَ يَوْماً سَيُحْـرَمِ
سألنا: يقصد نفسه وهو يمدح الهرم بن سنان.
التسآل: على وزن تفعال، يعني كثرة السؤال والطلب.
يشير هنا إلى كرم الهرم بن سنان، فقد كان لا يرى زهير إلا أعطاه أموالا، وحتى إذا سلم زهير في مجلس فإن الهرم يعطيه، حتى استحى زهير من ذلك، ولهذا يقول البيت، يشكر الهرم وينوه بكرمه المتواصل، لكنه يعتذر بلطف ويشير أنه اكتفى وأحرج من كثرة الهدايا.


