مقالات

صحة القصيدة اللامية المنسوبة لأبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

القصيدة أبي طالب في مدح الرسول

قصيدة أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم التي قالها في مدحه هي واحدة من القصائد المطلوبة عند الجمهور العربي. بسبب شرف موضوعها ومحبة الناس للرسول صلى الله عليه وسلم.

وهي قصيدة طويلة، تزيد على 100 بيت، يدور موضوعها حول مدح أبي طالب لسيدنا محمد ونصرته له ووقوفه ضد أعداءه من قريش بالقوة والسلاح. كما يلومهم على موقفهم ويستعيذ ضدهم بمقدسات العرب من الكعبة ومشاعر الحج. ويندد بمواقف رجال من قريش يسميهم بالاسم.

لكن تدور أسئلة حول أصالتها، أو أصالة بعض أبياتها. وتظهر أسباب تدعو للشك في صحة هذه القصيدة، تدفع المرء للتساؤل. هل قال أبو طالب فعلا هذه الأبيات؟  أذكرها لكم سريعا ثم أفصلها

وقبل أن أبدأ لابد من تنبيه مهم، الحديث حول صحة القصيدة هو  حديث علمي بحت أعرض له أسبابا تقبلها أو ترفضها، ولا علاقة له بالمذهبية واعتقادات فرق المسلمين السنة والشيعة، وكيف ينظرون إلى شخصية أبي طالب، لأن هذا الموضوع شديد الحساسية وأنا لا أريد أن ينجرف المقال إلى اختلافات المذاهب.

نذكر الأسباب جملة ثم نفصلها:

أولا: لم يذكر رواة الشعر المعروفون كالأصمعي وابن الأنباري والمفضل الضبي (الذي ستكون لنا معه وقفة خاصة). هذه القصيدة ولن تجدها في المصادر الشعرية المعروفة التي نعتمد عليها لمعرفة أشعار تلك الفترة. فهذا سبب قوي لا دخل له بالعاطفة.

السبب الثاني: لم يرو في كتب السيرة النبوية وما نعرفه عن قريش أن أبا طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان شاعرا. بل ذكر العكس، أنه لم يكن من أقارب الرسول شعراء إلا ابن عم له.

السبب الثالث: تتناقض بعض المعاني في القصيدة تناقضا واضحا لا يمكن الجمع بينه مع الأحداث التي نعرفها في السيرة النبوية. فلا يمكن أن يقول أبو طالب هذه الأبيات، على نحو ما سأوضح لكم بعد قليل.

 

حديث عن القصيدة ومحتواها ومستواها الفني.

لا شك أنكم تعرفون بعضا من أحداث السيرة النبوية. وفيها كما يعرف الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم واجه معارضة شديدة  في بداية دعوته في مكة. وكان المسلمون مستضعفين بشدة طوال الفترة المكية من الإسلام.

وكان أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رباه صغيرا وتكفل به بعد صغيرا، أكبر مدافع عن الرسول في تلك الفترة. وكانت لأبي طالب مكانة دينية موروثة في قريش حيث كان خادما للحجيج والكعبة، رغم أنه لم يكن صاحب أموال، ما مكنه من توفير الحماية للرسول، صلى الله عليه وسلم.

وفرت هذه حماية أبي طالب متنفسا للرسول وحمته من فتك قريش رغم التضييق الشديد. وعندما ضجرت قريش من الرسول وحماية أبي طالب له قررت مقاطعتهما ومقاطعة بني هاشم. فحوصروا  في شعب أبي طالب، منعت التجارة معهم ومنع الزواج بهم ومخالطتهم ومجالستهم. واستمر هذا الحصار ثلاث سنوات،  لاقى المسلمون فيهم ومن تعاطف معهم من بني هاشم مشقة هائلة ونقص عندهم الطعام حتى أكلوا أوراق الشجر. وحتى كانت قريش تسمع صوت بكاء أطفالهم، وكان أبو طالب معهم في هذا الحصار وكان شيخا كبيرا لاقى المشقة في هذا الحصار حتى تأثر به ومات بعده بشهرين أو في نفس العام على اختلاف الأقوال.

قصة بداية الدعوة ودور أبي طالب هو أمر شهير جدا ويمكنكم الرجوع إلى كتب السيرة للتفاصيل. لكن ما أريد التأكيد عليه هو أنه كان رجلا شريفا وله مكانة في قومه. لكنه لم يكن رئيسا غنيا ولا قائدا حربيا ورجل معارك، وأنه تأثر جدا بالحصار حتى مات بعده بقليل.

قصيدة أبي طالب في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)

والآن نتكلم عن القصيدة: هي قصيدة طويلة تقع في أكثر من 100 بيت. تدور حول مناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتأييده ومدحه بصفات الرحمة على الضعفاء والنساء، ومدح أخلاقه الكريمة وعلو مكانته في قريش. وفيها نصح لبني عبد مناف بالتآخي والبعد عن الخلاف، وفيها الاستجارة بالمقدسات عند العرب خاصة الحج الذي تكلم فيه ثم بالكعبة وما حولها من أصنام. وفيها تعريض بمن يقف ضد الرسول صلى الله عليه وتهديد لبعضهم بالاسم.

القصيدة طويلة بشكل غير معتاد بالنسبة للقصائد الجاهلية. فنادرا ما تصل قصيدة جاهلية لمئة بيت، إلا بعض المعلقات والقصائد التي تعد على أصابع اليد. كما أنها ليست على درجة عالية من الشاعرية من حيث قوة التشبيهات والبلاغة، بل هي سرد لوقائع وذكر لأشخاص. ولو فرضنا أنها قيلت لشخص آخر غير الرسول صلى الله عليه وسلم لما لفتت الانتباه، إلا بعض أبيات منها. فأهم ما فيها هو ارتباطها بشخصه الكريم، ولولا هذا ما ذكرت لأنها لا تحتوي على عناصر الجودة الشعرية.

ولعل هذا التأثر بموضوعها هو ما جعل ابن كثير العالم والمؤرخ الشهير يمدحها ويرفع قيمتها حتى فوق المعلقات. وربما يكون السبب هو التأثر بالعاطفة ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم. وابن كثير رحمه الله رغم قيمته التاريخية والعلمية إلا أنه ليس من نقاد الشعر، والشعر له معايير أخرى يعرفها نقاده ورواته.

الأسباب التي تدعو للشك في هذه القصيدة.

أولا: لم ترد قصيدة أبي طالب عند رواة الشعر المتقدمين.

لم ترد القصيدة في مصادر حفاظ الشعر القدماء. وهم من كانوا قريبين من عهد العرب الأوائل وسمعوا الشعر عن العرب ودونوه ثم نقلوه للأجيال التالية. مثل الأصمعي وحماد الراوية والمفضل الضبي وغيرهم، وهذا يلقي شكوكا كبيرة على القصيدة. فلم أجدها على حد علمي برواية أحد من هؤلاء.

ولنا وقفة خاصة مع عدم ذكر المفضل الضبي لهذه القصيدة. فالمفضل هو راوية شعر موثوق، هو الذي جمع عددا من القصائد العربية وضمها في ديوان سمي المفضليات نسبة له. وقال عنه محمد بن سلام الجمحي: أعلم من ورد علينا بالشعر وأصدقه المفضل الضبي، مكانته لا شك فيها.

ولد في عصر الدولة الأموية وعاش حتى الدولة العباسية. وفي أوائل الدولة العباسية خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المعروف في التاريخ بمحمد النفس الزكية على حكم ابن عمه أبو جعفر المنصور. وكان معه أخوه إبراهيم ابن الحسن، وكان المفضل مناصرا لهم.

وكان إبراهيم يختبا في بيت المفضل الضبي. وفي إحدى المرات أراد المفضل الخروج من بيته لبضعة أيام فقال له إبراهيم: إنك عندما تخرج يضيق صدري فأخرج لي شيئا من كتبك أتفرج به. فأخرج له المفضل كتباً من الشعر والأخبار، وكانا يتدارسان هذه الكتب وأخرجا منها القصائد التي جمعت فيما بعد وسميت ديوان المفضليات، أحد أهم مصادر الشعر العربي.

ورغم ذلك لم يحتو هذا الديوان على قصيدة أبي طالب، جد إبراهيم، ولم يروها المفضل الذي كان مناصرا لهم. وهذا يلقي شكوكا كبيرة على القصيدة. فإذا كانت قصيدة كبيرة ولم يروها أهم راوية للشعر العربي والذي كان مناصرا لأحفاد أبي طالب نفسه ومتعاطفا معهم وكاد يقتل بسببهم فمن الذي رواها؟

السبب الثاني: لم يعرف أبو طالب في السيرة النبوية على أنه شاعر.

أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية معروفة في التاريخ. عرف عن حياته الكثير لارتباطه بمرحلة مهمة جدا من تاريخ الإسلام. لكن لم تذكر المصادر له قصائد ولم تكن له أخبار في ذلك، إلا خبرا واحدا نقل دون تعليق، والسيرة النبوية وأحداث هذه الفترة موثقة بشكل جيد ولم يكن هذا الأمر ليفوت عليهم. حتى أن ابن رشيق القيرواني قال عندما ذكر أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أما أبو طالب ومن شاكله فلم أذكر لهم شيئاً، أي أنه نفى أن يكون له شعر.

ولو كان أبو طالب من الشعراء الكبار لنصر النبي بقصائد قوية تسير بين العرب وتؤثر على قريش، كعادة الشعراء الكبار. لأن الشعر كان قويا جدا في ذلك العصر، وكانت قبائل العرب تخاف الهجاء جدا، لكن لم تصل لنا أبدا أخبار عن ذلك في كتب التاريخ والشعر. كما وصلت أخبار شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه وشعره الذي أمره به رسول الله بنفسه. وكما وصلت قصة الأعشى عندما أراد أن يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم فخافت قريش من ذلك وذهبوا إليه وأقنعوه أن يعود ولا يمدح الرسول.

وأما قول الرجل البيت والبيتين فأمر معتاد عند العرب قديما، ولا يسمى شاعرا لأجل ذلك. فقد كانت البلاغة عندهم عالية، وكم من رجل تقرأ له أبيات مفرقة يقولها في موقف لكن هذا لا يجعله شاعرا. فالشاعر هو من أكثر من القصائد الطويلة واشتهر كذلك بين الناس. وهكذا نفهم قول محمد بن سلام الجمحي، أن أبا طالب كان شاعرا جيد الكلام، واكتفى هذه الكلمة ولم يعلق عليها، وذكر له بيتا واحدا فقط في كتابه.

 

أقوال القدماء في شاعرية أبي طالب.

 

أيضا، ذكر له أبو الفرج الأصفهاني صاحب الكتاب المعروف والكبير الأغاني سبعة أبيات فقط. رغم أبا الفرج كان شيعي المذهب، وبالتالي منحازا أو متعاطفا مع أبي طالب وذريته. وذكر له ابن عبد ربه بيتا واحدا فقط في كتاب العقد الفريد على طول هذا الكتاب وضخامة حجمه. وذكر له الجاحظ بيتا واحدا فقط في كتاب البيان والتبيين، وكل هذا يبين قلة الشعر المنسوب لأبي طالب في الكتب الأدبية المعروفة، أما الكتب التي تهتم بها فغالبا ما تحمل صفة دينية، لأن شخصية أبا طالب لها اهتمام خاص عند المذهب الشيعي.

السبب الثالث: هو أن كثيرا من معاني القصيدة يتعارض بوضوح مع ما نعرفه من السيرة.

القصيدة تظهر أبا طالب رجلا يحمل السلاح ويتجهز لقتال قريش إذا آذوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فيقول في أولها:

وَلَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لَا وْدَّ عِنْدَهُمْ …. وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى وَالوَسَاِئلِ

وَقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ وَالأَذَى … وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ العَدُوِّ المُزَايِلِ

وَقَدْ حَالَفُوا قَوْماً عَلَيْنَا أَظِنَّةً … يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ

صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بَسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ … وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المُقَاوِلِ

المعنى أنه لما رأى عداوة قريش وقطعها للمودة ومحالفة الأعداء ضدهم. وقف لهم بالرمح الأسود والسيف الأبيض القاطع، أي وقف لهم وقفة سلاح. ونحن نعلم أن هذا لم يحدث في السيرة النبوية، ولم تكن هذه شخصية أبا طالب.

وفي موضع آخر يقول:

وَإِني لَعَمْرُ اللِه إِنْ جَدَّ مَا أَرَى … لَتَلْتَبِسَنْ أَسْيَافُنَا بِالأَمَاثِلِ

بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلِ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ … أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ

يقول إن حدث ما أتوقعه من العداوة فإن سيوفنا سوف ترتطم بسيوفهم ويحملها منا فتيان أقوياء أسهب في وصفهم. هذه الأبيات تصف جنودا تجهز لحرب، وهو ما لم يحدث أبدا من أبي طالب وبني هاشم في الفترة المكية. بل إن أبا طالب كما قلت كان رجلا قائما على السقاية يستمد مكانته الموروثة من سقاية الحجيج  وخدمتهم.

وقد تكرر معنى استعمال القوة في القصيدة في عدة مواطن أخرى. رغم أننا نعلم أن أبا طالب وبني هاشم حوصروا في الشعب ولاقوا مصاعب كبيرة جدا ماتت على إثرها السيدة خديجة وأبو طالب نفسه، ولم تقع حروب أو مواجهات مسلحة.

وقد يقول قائل: إن هذا من كلام ومبالغات الشعراء ولا يلزم أن يصف الحقيقة تماما بل ينطق بمشاعره. فأرد عليه أن المشاعر يجب أن تستند على قدر من الحقيقة وأن تصف بعضا منها. والواقع أن الأبيات تتعارض مع الحقيقة نحو ما ذكرت.

في القصيدة أيضا بيت يتكلم عن بلاد بعيدة لم يكن العرب كما أظن يعرفونها في ذلك الوقت، عندما قال:

يُطَاعُ بِنَا الأَعْدَاءُ وَوَدُّوا لَوْ أَنَّنَا … تُسَدُّ بِنَا أَبْوَابُ تَرْكٍ وَكَابُلِ

المعنى أنهم يتمنون أن نرحل عن مكة ونذهب إلى هذه البلاد. وأنا لا أظن أن العرب كانوا يعرفوا مدينة كابل التي تقع في أفغانستان في تلك العصور المتقدمة وكذلك أراضي الترك. كل هذه البلاد عرفها العرب بعد ذلك في عصر الفتوحات. وطبعا هذا ظن من عندي لا أستطيع أن أجزم به، لكنه يثير الشك أيضا.

خلاصة القول.

أعتقد أن أبا طالب كان رجلا سيدا موقرا له مكانة دينية في قريش، وبليغا يستطيع أن يقول البيت أو البيتين على عادة سادة العرب وبلغائهم. مثل البيت الذي يقول، وأبيض يستسقى الغمام بوجهه … ثمال اليتامى عصمة للأرامل، لكنني لا أعتقد أنه ينشد القصائد الطويلة الكثيرة. ولم يعرف أبو طالب في السيرة النبوية بذلك ولم تصل لنا أخبار كهذه. وفي القصيدة ما يتعارض بوضوح مع أحداث السيرة النبوية التي نعرفها.

وفي النهاية هذا رأي توصلت له وعرضت أسبابي وقد أكون مخطئا، وأنا لا أحمل عليه أحدا ولا أجبره.

ومرة أخرى أؤكد أن هذا النقد لا علاقة له بالمذاهب وما يعتقده الناس في أبي طالب من الناحية الدينية، أنا فقط أتكلم على نقد أدبي للقصيدة، وأرجو أن يكون هذا فقط محور النقاشات والتعليقات.

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي