امرؤ القيس، هو الشاعر صاحب المعلقة الجاهلية الأولى وصاحب التأثير الكبير على الأدب العربي واللغة العربية، نتحدث عن ظروف حياته المتقلبة، والتي ألهمته الشعر الجميل الذي قاله، ونعرف لماذا وُضع في هذه المكانة العالية، بحيث يعتبر أهم شاعر عربي، وكيف أثر على كل الشعر العربي من بعده.
امرؤ القيس هو أمير عربي من دولة كندة العربية القديمة، التي بسطت نفوذها على وسط الجزيرة، وهو ابن الملك الأخير لتلك المملكة، وكان الملك يُتوارث بين أجداده، وكندة في الأصل هي قبيلة يمنية تحركت شمالا وحكمت أجزاء من وسط الجزيرة العربية، وحافظت على علاقتها مع أقاربها في اليمن، كما دخلت في منافسة مع المناذرة، ملوك الحيرة العربية التي كانت تقع شمالها.
اسمه ونسبه:
هو امرؤ القيس ابن حجر بن عمرو الكندي، كلمة امرؤ القيس هي لقب وليست اسما، تعني رجل القيس أو شيئا من هذا القبيل، وكان القيس صنما من أصنام الجاهلية، لهذا يوجد الكثير من العرب ممن حمل هذا اللقب، وربما يكون هذا سببا في تداخل بعد أخباره مع آخرين يحملون نفس اللقب، أما اسمه الحقيقي فقيل عمرو وقيل حندج، وقيل غير ذلك ولكنه لم يشتهر باسمه إلا بلقبه، امرؤ القيس.
نسبه من جهة أمه: تذكر بعض كتب الأدب أن المهلهل التغلبي الشاعر والفارس هو خاله، فالشاعر لم يذكر خاله مرة واحدة في شعره، كما لم يذكر المهلهل أي شيء عن الأمير امرئ القيس، وقصة حياة كل واحد منهما معروفة ولم يحدث بينهم تداخل، كما أن هناك اختلافا كبيرا في أسلوب الشاعرين يظهر أنهما لم يتقابلا ولم يتأثرا ببعضهما، وربما يكون سبب هذا اللبس تشابه لقب امرئ القيس مع غيره، وقد ذكر امرؤ القيس خاله في إحدى قصائده يعتز به أمام منافس له عندما قال: خالي ابن كبشة قد علمت مكانه…
نشأ الشاعر في غنى كامل وحياة مترفة، كما يعيش أولاد الملوك، وتمتع بنفوذ والده وبمكانته كأمير إلى أقصى درجة، كل ما يعرف عن حياته الأولى هو أنه كان غنيا مدللا ، ولاهيا تماما، يعيش للمتعة واللهو والنساء والغناء والإنفاق من أموال أبيه والتنقل في سبيل ذلك مع أصحابه في بلاد العرب مواصلا مجونه ومحتميا بمكانته كأمير لا يقدر أحد على إيذائه، فصنع لنفسه سمعة كشاب فاسق، ولم يكن يشغل باله بأي شيء من شؤون الملك، حاول والده إصلاحه فلم ينصلح، ثم غضب عليه وأبعده من مجلسه.
وبالغ في حفلات المجون حتى أن أباه ارتاع من هذا الشاب الذي لا يصلح لأي شيء، والذي سيجلب العار عليه، ولهذا قام بإبعاده، لم يزده هذا النفي إلا حرية أكبر في فعل ما يريد بدون مضايقات أبيه، وازداد لهوه ومجونه.
في هذا الوقت كانت الدولة تعيش وقتا عصيبا وتراجعا أمام منافسيهم المناذرة بسبب تمرد القبائل عليهم وبسبب الحروب الداخلية بين أعمام امرئ القيس، لكنه لم يهتم بكل هذا، انتهت هذه المرحلة عندما تمردت قبيلة بني أسد على حكم أبيه، وقد كان ملكا قاسيا على كل حال، واستطاعوا قتله.
التحول الكبير في حياة امرئ القيس.
كان هذا إيذانا بتغير كامل في حياة الأمير الذي لم يكن قبل هذا الوقت على علم بأي أمر من أمور السياسة، كشفت له الحياة عن وجه آخر تماما بعدما فقد حماية أبيه وأصبحت حياته نفسها في خطر، ووقع على عاتقه هو مهمة استعادة ملك أبيه وإنقاذ مملكة كندة من الضياع، فقد تقاعس إخوته الأكبر، وهم الذين كان ينتظر منهم أن يكملوا سيرة الحكم، فقام الصغير المستهتر الذي كان بعيدا عن أمور الحكم بهذه المهمة.
لم يقل شعرا مهما في هذه المرحلة من حياته، يمكننا تخمين هذا من استقراء ما بين أيدينا، وهذا طبيعي لأن تجربته كانت مازالت قليلة، ولكن هذه الفترة أثرت تماما على شخصيته فيما بعد، فقد أكسبته الذوق الملكي الراقي في الحياة، وأخلاق الملوك وأساليب حياتهم، وجعلته يمتلك الشخصية القوية والأنفة العالية، ومعرفة بأمور وصفها بعد ذلك.
شخصيته بعد قتل أبيه.
سعى امرؤ القيس أولا للانتقام ممن قتل أباه ثم ثانيا لاستعادة ملك آبائه، وأظهر في هذا حزما وشخصية قوية لم تكن منتظرة من شاب له سمعته، عاونته بعض قبائل العرب مع حلفائه من جموع اليمن في مطلبه الأول لأنه بدا مطلبا مشروعا، فأعد عدته وبعث عيونه خلف بني أسد، الذين حلوا عند بني كنانة، فباغتهم امرؤ القيس بهجوم، لكن بني أسد كانوا قد ارتحلوا ليلا فأعمل السيف في بني كنانة، وهذه غلطة تدل على قلة خبرته وستكلفه غاليا، ثم انتقم من بني أسد انتقاما شنيعا قال فيه أشعارا، منها القصيدة التي أولها: يا دار سلمى دارسا نؤيها … بالرمل فالخبتين من عاقلِ.
ثم أراد تحقيق هدفه التالي وهو استعادة الملك، ولكن قبائل العرب وحلفاؤه لم يعاونوه فيه، لأن سمعته كفاسق عربيد كانت تملؤ الآفاق، وأخبار قتله لبني كنانة بلا ذنب ما زالت حديثة، ومع أنه قد أفاق من لهوه بفعل هول الصدمة إلا أن الوقت قد فات، ولم يشأ العرب أن يصبح هذا الشاب ملكا عليهم فيعيد سيرة أباءه التي كانت سيئة في الحكم على كل حال، وكانت بينهم حساسيات عرقية، فملوك كندة يرجعون بأصولهم إلى اليمن، وتربطهم العلاقات بأقيال حمير، وكان الكنديون يسيطرون على هذه القبائل العدنانية التي لا تريد أن يحكمها ملك يرجع أصله إلى اليمن، أو أي ملك على الإطلاق، وقد أدت كل هذه العوامل مجتمعة لانفضاض العرب عنه ولم يسانده أحد في هذا المسعى.
وقد أشار لهذا عندما قال:
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت… مرابطها من بربعيص وميسرا ، يشير إلى أنه حلفاءه قد تركوه لأنهم حنوا لمواطنهم ولأن الخيل تريد العودة لمرابطها، فلم يجبن لكن لم يكن معه جنود.
كذلك لم يشأ المناذرة أن تقوم دولة الكنديين مرة أخرى، وسعوا للقضاء عليها في لحظة ضعفها، بأن يقتلوا الأمير الوحيد الذي ما زال يرغب في الملك، لهذا أطلقوا حملة مطاردة شعواء، وهددوا كل من يؤوي هذا الأمير الضال، فأصحبت حياته مهددة بشدة، فكان امرؤ القيس يستجير بشيخ أو قبيلة لمدة قصيرة ثم لا يستطيع البقاء فينتقل لغيرها، وذاق من أهوال الحرب ما ذاق، حتى أن صديقا له يدعى السموأل عوقب على إيواء بعض أهل امرئ القيس بأن قتل اثنان من أولاده.
لم يجد امرؤ القيس مخرجا إلا أن يستعين بملك قوي من الخارج يعينه بجيش ويكون حليفا له،
ومن الواضح أنه قد تعرض لتجارب قوية في هذه المرحلة من حياته، وهي التي خلقت عنده الحافز القوي لإنشاد الشعر، وربما قال المعلقة، قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، وهي أشهر شعره في هذه المرحلة، فهي مزيج من البكاء على الحاضر الكئيب مع الحنين إلى الماضي المبهج.
شخصيته في النهاية.
ذهب امرؤ القيس إلى قيصر الروم للقيام بتحالفات جديدة، ذهب في رحلة يائسة لم يعد منها، بقي عند قيصر لفترة، ثم أمده بالجيش، لكن صحته كانت قد تأثرت بشدة، وعاد له مرض جلدي قديم كان عنده في شبابه، فأصيب بقروح جلدية، لعله أحد الأمراض البكتيرية التي نعرفها الآن، ولم يستطع إكمال الرحلة، وقد أنشد في هذا قائلا قصيدة منها: تأوبني دائي القديم فغلسا… أحاول أن يرتد دائي فأُنكسا.
ولكن البعض أقنع قيصر أن يتراجع عن مساعدته، فاحتالوا له، بأن أرسلوا له حلة من حلل الملوك ليرتديها امرؤ القيس أمام الناس كعلامة على أنه في صف قيصر، وما لم يعلمه أنها قد طليت سما من الداخل، وعندما لبسها بدأ السم يتغلغل إلى جسده حتى قتله في النهاية، ولهذا سمي ذو القروح، بسبب القروح التي شققت جلده، وذكرها عندما قال، وبدلت قرحا داميا بعد صحة… فيالك من نعمى تحولن أبؤسا.
ذكر تفاصيل من قصة خروجه إلى قيصر، وشعوره بالوحشة عندما خرج من بلاده في قصيدة سما لك شوق بعدما كان أقصرا، وصف فيها غربته واشتياقه لأهله، كما وصف الضغط الذي يتعرض له صاحبه وجزعه من هذه الرحلة المتهورة فقال : بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه … وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما … نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
بكى صاحبه، وهو الشاعر عمرو بن قميئة التغلبي، لما رأى نفسه قد تجاوز بلاد العرب، ولم يكن امرؤ القيس يرى سببا يوقفه من طلب ملكه الذي يراه حقه إلا أن يموت، فيعذره الناس.
عندما خرج امرؤ القيس لاستعادة المملكة، لم يكن يدرك أن بدأ حرب هو أمر أسهل كثيرا من إنهائها، في البداية عندما قتل بني أسد، كان ثملا بأحلام العودة والانتصارات غير المعقولة، فقال أشعارا تدل على طموحه الذي لا حدود له، مثل الأبيات التي ذكرتها منذ قليل وأبيات أخرى، كما قال:
فلو أنما أسعى لأدنى معيشة … كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل … وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
أي لو كان هدفه مجرد معيشة عادية دنيا كما سماها، لكفاه قليل من المال، وهو لم يطلب المال من أحد أصلا، ولكنه يسعى لمجد راسخ أصيل ثابت، ومن يعلم ربما يحصل أمثاله من الطموحين على ما يريدون.
ولكن عندما تعقدت الأمور، أدرك أنه قد وصل إلى نهاية المجد، وأدرك متأخرا جدا امتيازات البساطة، حتى أنه يرضى أن يعود فقط كما كان، بلا أمجاد وبلا ملك.
قال: وقد طوفت في الآفاق حتى … رضيت من الغنيمة بالإياب
يقول أنه طاف كثيرا وحل وارتحل وكل ما أصبح يريده هو أن يعود فقط سالما ويعد ذلك مكسبا و غنيمة له.
كما أنه اعترف أن سلوكه السابق وسمعته أضرا به حتى عند حلفاءهم من أقيال حمير
فقد قال لعمرك ما إن ضرني بين حمير … وأقيالها إلا المخيلة والسُكُر
وله قصيدة أولها ألما على الربع القديم بعسعسا … كأني أنادي أو أكلم أخرسا
اشتكى فيها من تبدل أصحابه عليه بعدما كان ملأ السمع والبصر، واشتكى من شدة مرضه الذي يفتك به وكان يعلم أن النهاية قريبة.
فقال وبدلت قرحا داميا بعد صحة … لعل منايانا تحولن أبؤسا
وبسبب هذه القروح القاتلة الذي أصابته سمي ذو القروح
وله مقطوعة أخرى قصيرة في هذه الفترة يتكلم فيها عن أنه بذل كل ما يستطيع وأنه في النهاية رجل عادي سيموت كما يموت الرجال، لأنه لم يخلق من الحجارة أو الحديد
فقال:
ألا أبلغ بني حجر بن عمرٍو . . . وأبلغ ذلك الحي الحَرِيدا
بأني قد بقيت بقاء نفس . . . ولم أخلق سلاما أو حديدا
يعني أبلغ أقاربي من بني حجر بن عمرو، وأبلغ الأحياء البعيدة، أي أبلغ كل العرب، السلام هي الحجارة: يعني أنني مخلوق من لحم ودم وتحملت بقدر ما يتحمل البشر، فلم أخلق من الحجارة أو الحديد.
فلو أني هلكت بدار قومي … لقلت الموت حقا لا خلودا
ولكن هلكت بدار قوم … بعيدا عن دياركم بعيدا
وعندما أتعبه المرض بشدة طلب من أصحابه أن يتوقفوا به، ووجد قبرا عند جبل يسمى عسيب، خارج جزيرة العرب بكثير، في نواحي مدينة انقرة في بلاد الأناضول، فطلب أن يدفن بجانب هذا القبر وأنشد آخر أبيات قالها يخاطب صاحبة القبر الذي سيدفن بجواره
أجَارَتَنا إِنَّ الخُطُوبَ تَنُوبُ … وَإِنِّي مُقِيمٌ مَا أَقََامَ عَسِيبُ
أجارتنا إنا غريبان هَاهُنا … وَكُل غَرِيبٍ للغريبِ نَسِيب
فإن تصلينا فالقرابة بيننا … وإن تصرمينا فالغريب غريب
وليس غريبا من توارت بلاده … ولكن من وارى الترابُ غريب.
يناديها: يا جارتنا إن المصائب تصيب كل منا بنصيبه، وإني سأقيم في هذا المكان طالما أقام جبل عسيب، أي للأبد، يا جارتي: أنا وأنت غرباء هنا في هذه البرية، فلتكوني قريبة مني وتؤنسيني، فإن وصلتيني، فبيننا قرابة الغربة، وإن أبعدتيني كما أبعدني الآخرون، فالغريب يظل غريبا حقا.
وليس الغريب بالفعل من ابتعد عن بلاده، هذه درجة خفيفة من الغربة، أما الغريب فعلا، الغريب عن كل شيء هو من أصبح تحت التراب.
وهكذا توفي الأمير العربي خارج بلاده ولم يقدر على فعل شيء في النهاية، ولكن يحسب له أن حاول بجد، ولأنه ضل في البلاد وطاف فيها، فقد لقب أيضا الملك الضليل.