المعلقات هي مجموعة خاصة من أجمل وأشهر ما قاله العرب الجاهليون من شعر، هي ذروة القصائد التي جمعت جمال اللغة وروعة التشبيهات وأجمل قصص الحب والحرب والحياة، وخير ممثل لحياة العرب الأقدمين.
وتنتشر بين الناس فكرة أنها سميت كذلك بسبب تعليقها على الكعبة في مكة المكرمة، علامة على عظم شأن هذه القصائد عند عرب الجاهلية، فقيل إنها كتبت بماء الذهب وعلقت على الكعبة.
في هذا المقال سوف نناقش أصل تسمية المعلقات ونناقش فكرة تعليقها على الكعبة المشرفة، وعلى الرغم من أن هذا الخلاف اسمي، ولا يوجد خلاف حول قيمتها الفنية وبروزها بين القصائد العربية، إلا أنه من الضروري تبيين هذه المسألة.
شيوع القصائد بين العرب.
بين أيدينا أخبار تدل على أن هذه القصائد كانت شديدة الانتشار بين العرب ويعرفها حتى الصبيان.
1- قال أبو الفضل أحمد ابن طاهر وهو يعلق على قصة أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عندنا أمر بجمع القصائد لتعليم ابنه، أنهم جمعوا اثنتي عشرة قصيدة منها السبع المشهورات، وعلق قائلا: ولولا شهرة هذه القصائد، وكثرتها على أفواه الرواة وأسماع الناس، وأنها أول ما يتعلم في الكتاب لذكرناها، أي أن هذه القصائد شهيرة جدا ويعرفها حتى الأطفال في عصره، لدرجة أن الكاتب لا يجد حاجة لكتابة اسمها مرة أخرى.
2- في كتاب (الزهرة) ذكر أبو بكر محمد بن داوود الأصفهاني، بعد أن أورد أبياتا للحارث بن حلزة، قال: وهذه القصيدة وإن كانت من السبع الجارية على ألسنة الصبيان والمبتدئين،
الاختلاف حول معنى المعلقات
في مسألة تسميتها بالمعلقات قولان: الأول وهو الأشهر والمتبادر إلى ذهن الناس أن كلمة المعلقات مشتقة من كتابتها وتعليقها على الكعبة لشرفها وقيمتها.
والرأي الثاني: أنها لم تعلق، وأن هذه القصائد هي اختيارات من الشعر الجاهلي، اختارها رواة من العصر الإسلامي الأول، وأن كلمة المعلقات مشتقة من التعلق القلبي والمحبة، لجمالها وإعجاب الناس بها.
أول من قال بتعليق القصائد على الكعبة هو ابن الكلبي المتوفى سنة 206 للهجرة، ونقل عنه وتبعه على ذلك علماء متأخرون أشهرهم ابن خلدون المتوفى سنة 808.
لكن ابن الكلبي من الذي دار حولهم كلام كثير في مسألة صحة نقولاته، فقد ذكر هذه الكلمة دون عزوها إلى مصدر فهو رجل حكاء صاحب سمر، لا يؤخذ منه تحقيق علمي.
قال عنه الإمام أحمد بن حنبل في ( ميزان الاعتدال ) ( 4 / 304 ): ( إنما كان صاحب سمر ونسب ، ما ظننتُ أن أحداً يحدِّثُ عنه )، وقال الدارقطني في نفس المصدر : ( متروك ) . وذهب الى ذلك الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وابن العماد، ورماه ابن الجوزي بالكذب، وقال السمعاني: ( يروي الغرائب والعجائب والأخبار التي لا أصول لها ) .
وقد أخذ معظم مروياته عن أبيه ، وعن محمد بن سعد كاتب الواقدي، وعن الهيثم بن عدي، فأبوه محمد بن السائب الكلبي، قال عند الإمام البخاري: تركه القطان، وابن مهدي، وقال الحافظ ابن حجر: مُتَّهم بالكذب، وقال النسائي: متروك الحديث .
أما الهيثم بن عدي الطائي، فقال عنه الإمام البخاري : ليس بثقة، كان يكذب، وقال يحيى: ليس بثقة، كان يكذب، وقال أبو داود : كذَّاب، فهو مثل ابنه رجل متهم في صدقه.
وكما يتبين من حديث الثقات فحديث ابن الكلبي لا يجاوز كلام السمر والجلسات، ولا يعتبر مصدرا علميا لأنه لا يستند إلى أي شيء، وهو المصدر الوحيد للعماء والمؤرخين الذين نقلوا عنه.
ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون رحمه الله لم يكن من رجال الأدب، فلم يمحص كثيرا، ولم يحط بالقضية من أطرافها، ولم يدقق في الأمر، فقد ذكر أنهم سبعة ثم قال وغيرهم، دليل على الخلاف الحاصل، بل وعد علقمة الفحل ضمن أصحاب المعلقات، ووهو ما لم يقم به أحد من قبل.
لكن كلمته اشتهرت لأنها تجسيد لكلمة التعليق، وبهذا تصبح أقرب لذهن وخيال الناس الذين لا يعرفون كثيرا ولا يقرؤون للأسف فيستسهلون التسمية، كما تعطي هيبة للقصائد لارتباطها بقيمة الكعبة، وربما يكون الحماس هو الدافع لهذا القول، لكنه محل نظر كبير، فلا تستند القصة على أي دليل منقول كما ذكرنا، ولوجود كثير من الاعتراضات المنطقية عليها.
الأسماء التي عرفت بها المعلقات:
اسم المعلقات ليس الاسم الوحيد لهذه القصائد، فعندما جمعت أول مرة على يد حماد الراوية كانت تسمى: السبع الطوال، وجمعها ابن الأنباري في شرحه تحت مسمى (السبع الطوال الجاهليات).
وجمعها أبو زيد القرشي في كتاب جمهرة أشعار العرب، وسماها (السَّمُوط) من العقود والقلائد، وهي تسمية أخرى تدل على نفاستها.
وسماها ابن طيفور: (القصائد السبع الطٌّوَل)، وجمعها أبو جعفر النحاس في شرحه وسماها (شرح القصائد التسع المشهورات)
كثرة الأسماء التي أطلقها عليها الأولون أمر يدل في حد ذاته على أن صفة التعليق لم تكن معروفة لديهم، وإلا لالتزموا بها ولما أطلقوا هذه المسميات الكثيرة.
الأسباب التي تضعف فكرة التعليق:
1- لم يذكر أصحاب المعلقات أنفسهم ولا أحد من أولادهم ولا قبائلهم في العصورالأولى أن قصائدهم قد علقت على الكعبة، ومن عادة العرب أن يذكروا مثل هذه الأحداث إن وقعت لأنها مصدر فخر وعلو مكانة، لكن هذا لم يحدث أبدا.
2- إن القرآن نفسه لم يعلق ولم يجمع في صحيفة واحدة إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الحديث لم يدون إلا بعد ذلك، فمن باب أولى أن تجمع هذه النصوص وتعلق.
3- لم يذكر في كتب السيرة أبدا في أي موقف خبر تعليق شيء من القصائد، ولا في وقت الفتح عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتنظيف الكعبة من الأصنام والصور، لم يذكر أن هناك قصائد معلقة، مع أن الكعبة قد وصفت بدقة هي والأصنام التي كانت حولها، ولو وجدت لذكرت لأهميتها، ولم يذكر شيء عن قصائد معلقة عندما هدمت قريش بناء الكعبة ثم أعادت بناءها قبل البعثة، كما لم يذكر شيء عن وجودها وقت حريق الكعبة.
4- ولم يذكر خبرها أي صحابي ولا تابعي من الذين رووا الشعر، مع كثرة ما ورد عن ذكرهم لهذه القصائد وأخبار شعرائها، فقد تكلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن امرؤ القيس وزهير، وتكلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عن امرؤ القيس وكثير غيرهم من الصحابة والتابعين، ولم يذكر أحد منهم أبدا خبر تعليق شيء منها، إنما كانوا يحكمون على القصائد من حيث جودتها ومعانيها.
5- لم يذكر الرواة الثقات الذين نأخذ عنهم الشعر العربي هذه القصيدة، رجال كألأصمعي، والمفضل الضبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأبو عمرو الشيباني وابن قتيبة وابن سلام الجمحي وهذه الطبقة التي هي المصدر الأساسي لما نعرف من شعر، وكل من أتى بعدهم أخذ منهم، وإغفال كل هؤلاء لقصة التعليق سبب للشك فيها بشكل هائل.
6- يفهم من بعض النصوص الواردة أن العرب القدماء لم يجمعوا القصائد قط في مجموعة، وإنما هذا من عمل العلماء في عصر الإسلام، روي عن الحرمازي أنه قال: ذكر لي غير واحد من العلماء أن القصائد السبع التي سبعها عبد الملك بن مروان وجمعها، ولم يكن قد جمعها أحد في الجاهلية قط … إلى آخر كلامه.
7- من طبيعة العرب في ذلك الوقت أنهم كانوا أمة تحفظ ولا تكتب إلا قليلا، وهذا هو السبب الرئيس لاختلاف الروايات، ولو كانت مكتوبة لما اختلف الناس عليها وعلى تسميتها، ولا على روايات أبياتها، فلو كانت مثبتتة على الكعبة لرجعنا للمكتوب ولما حدث اختلاف، وإنما حدث الاختلاف لأنها مرويات محفوظة رويت شفاهية وكتبت بعد فترة، وحدث اختلاف في اختياراتها لأنها أذواق.
8- لم يكن العرب في ذلك الوقت وحة سياسية واحدة، بل كانوا مفككين سياسيا، لا يخضعون لدولة واحدة، وهذه نقطة في غاية الأهمية، وكانت الكعبة خاضعة لقريش، ولم تكن قريش لتعلق أمجاد قبائل أخرى على بيتها المعظم، وهذا أمر يفهمه من عرف طبيعة حياة العرب وقت الجاهلية، وقاس البعض على تعليق قريش لصحيفة المقاطعة، فقالوا إن العرب يعلقون ما يهمهم على الكعبة، لكن هذا أمر خاص بقريش، فتعلق أمرا يخصها على كعبتها، لكنها لن تعلق قصيدة لأمير من كندة أو رجال من بني بكر وتغلب وعبس، فهي أمور لا تخص قريش.
كما أن تعليق هارون الرشيد ولاية عهد أولاده على الكعبة في زمن الخلافة، لا يصح أن يقاس عليه، لأن الكعبة وسائر بلاد العرب كانت تحت سلطانه ويقدر أن يعلق عليها ما شاء، ولم يكن هذا وضع العرب وقريش قبل الإسلام.
9- كثرة الروايات والاختلافات بين أبيات القصائد أمر معروف بين القراء، ويدل على أنها لم تكن مكتوبة، فلو حفظت مكتوبة لانتهى الخلاف حول أبياتها وعددها وترتيبها، بل حول بعض الاختيارات، لأننا رأينا اختيارات مختلفة بين حماد الرواية والمفضل الضبي وأبي زيد القريشي والخليفة عبد الملك بن مروان وغيرهم.
كل هذه أسباب كثيرة لا تدع مجالا للشك في أن هذه القصائد لم تعلق على الكعبة، وعلى هذا فانتشار هذه الفكرة حدث فقط لأنها تفسير حرفي لكلمة المعلقات وتصورها سهل للذهن ، والإنسان يميل إلى التصوير لربط المعلومة، فتصوروها معلقة فعلا، كما أن ربطها بالكعبة يعطيها ولا شك هيبة في أعين الناس، وربما كان الحماس هو السبب، فقالها أحدهم ونقلها عنه الرواة، وكل شيء في المنقول والمعقول ينفي أنها حدثت.
الاختلاف في معنى الكلمة لا يؤثر على مكانة القصائد
مما ينبغي التأكيد عليه، أن الاختلاف في تفسير كلمة المعلقات هو خلاف لفظي فقط، ولا يؤثر إطلاقا على أهميتها ولا قيمتها ولا إجماع العرب على هذه القصائد، ونرجو أن يعي الناس الأهمية البالغة لهذه القصائد في تدوين التاريخ العربي وحفظ اللغة الغالية على قلوبنا، وحفظ ثقافتنا وطريقة حياتنا العربية الأصيلة.