مقالات

عينية سُوَيد بن أَبِي كَاهِل اليَشْكُرِي – القصيدة المفضلية التي توازي المعلقات.

تحليل قصيدة: بَسَطت رَابِِعَةُ الحَبْلَ لَنَا

بين أيدينا قصيدة توازي أو تقترب كثيرا من منزلة المعلقات الشهيرة، من ناحية الطول والجودة وشهادة الأقدمين لها، قصيدة: بسطت رابعة الحبل لنا … فوصلنا الحبل منها ما اتسع، لسويد بن أبي كاهل اليشكري، وهي القصيدة رقم (40) في ديوان المفضليات وأطول قصيدة فيه، سوف نعرف بها وبشاعرها في هذا المقال، ثم نتناولها بالشرح في المقالات القادمة.

هي من جميل الأدب العربي التي لا يعرف عنها الناس كثيرا للأسف، ولهذا، سوف نسلط الضوء عليها، يجب أن ندرك أهمية هذه القصائد، فالأدب يمثل سجل حياة لكل أمة، به نفهم تاريخها وطريقة تفكيرها، ويجب أن تستمر طريقة حياتنا العربية وتصل للأجيال الجديدة في ظل منافسة شديدة من الثقافات الأخرى، ليتكون عندهم هذا الحس بالانتماء لأمتهم، ولن يفهم الجيل الحالي الأساس الذي قامت عليه ثقافتنا العربية الأصلية إلا بالتأمل في الأدب وطريقة تفكير الأقدمين.

كما أن هذه القصائد الرفيعة مفيدة جدا من الناحية الأدبية، ورفع مستوى الذوق عند الإنسان، ومن الناحية اللغوية، فهي تساعد على تعلم الفصاحة والملكة اللغوية العربية عن طريق الاستماع ومحاكاة اللغة العربية في أجمل نصوصها، ولهذا فدراسة هذه القصائد كللها فوائد من جميع النواحي.

اليوم نتعرف على الشاعر سُويد بن أبي كاهل اليشكري وقصة حياته وما جمعته عن مكانة قصيدته العينية ثم سنتكلم عنها في المقالات القادمة، والقصيدة تقدم أيضا على القناة مسجلة ومشروحة.

 

التعريف بالشاعر

 

 الشاعر هو سُوَيد ابن أبي كاهل اليشكري البكري، من بني يشكر وهم فرع من قبيلة بكر بن وائل، فهو يجتمع في النسب مع طرفة بن العبد والأعشى والحارث بن حلزة، كللهم شعراء من بني بكر بن وائل، وهو شاعر مخضرم، عاش زمنا في الجاهلية قبل الإسلام ثم عاش 60 سنة تقريبا في الإسلام، أي أنه كان معمرا، إلا أنه كان من الشعراء المقلين ولم يحتفظ لنا التاريخ إلا بقصيدته العينية اليتيمة التي بين أيدينا، ورغم أنها قصيدة واحدة، إلا أنها ضمنت له المكانة العليا في الأدب العربي بسبب جودتها البالغة وما حوته من ألفاظ جميلة ومعانٍ لطيفة وقدرة عالية على التشبيه.

 

وكما ندر شعره، فقد ندرت أخباره، فلا يعرف عن حياته الكثي، ومما نعرفه عنه وجود اختلاف في نسبه، فينسب أحيانا إلى قبيلة بكر، إلا أنه أحيانا أيضا ينسب إلى قبيلة غطفان، والسبب أن أمه وهي من بني غُبر، كانت متزوجة رجلا من غطفان فمات عنها ثم تزوجها أبو كاهل وكانت فيما يقال حاملا فولدت سويد بعدما تزوجت أباه مباشرة، فهذا سبب اللغط، وقيل أن أمة تزوجت أبا كاهل ومعها سويد طفل رضيع، فرباه أبو كاهل وتكفل به وتعلم منه قول الشعر، فقد كان أبو كاهل شاعرا، وربما يكون هذا من كلام أعدائه بعد ذلك، وسويد نفسه يزيد هذه البلبلة بسبب انتسابه مرة لبني يشكر ، لكنه إذا غضب عليه انتسب لبني غطفان، وإذا رضي عن بني يشكر، أثبت نسبه لهم، فهو من بني يشكر بن بكر ابن وائل.

 

والمتأمل للقصيدة التي بين أيدينا يرى انعكاس هذا الأمر، فهو يمدح قومه ويذكر شدة اشتياقه لهم ثم يذكر حزنه واضطراره إلى مغادرتهم رغم كراهية ذلك، بسبب إساءة بعضهم، ثم تراشقه مع الخصوم له وهجاءه لإثبات حقه.

 

ومن أخباره التي يبدو أن لها علاقة مباشرة بالقصيدية العينية، أنه سكن بادية العراق بعد الإسلام، وهي قريبة من مواطن بكر على أي حال، وجاور بني شيبان فأساؤوا إليه فهجاهم، وهم أولاد عمه يلتقون معه في نسبه لبكر، فاشتكوه إلى الوالي عامر بن مسعود الجمحي، الذي كان واليا في عصر الدولة الأموية وهذا يدل على طول عمر سويد، وهدده الوالي بالحبس إن لم يكف عن هجائهم، وكف عنهم فترة ثم عاد إلى هجائهم، ورد عليه شاعر منهم فأخذهما صاحب الصدقة وحبس الاثنين، وهذا في ولاية عامر ابن مسعود الجمحي مرة أخرى، وأمر ألا يخرجا من السجن إلا بعد أن يدفع كل منهما مائة من الإبل غرامة، فدفع أقارب الشيباني غرامته، وأما سويد فخذله أقاربه فبقي في السجن، فأرسل إلى أخواله من بني غبر فخذلوه أيضا، ولم يزل في السجن حتى توسط له أناس من بني عبس وذبيان كان قد مدحهم، فخرج دون غرامة، ومن الواضح أن القصيدة التي بين أيدينا تتكلم عن هذا الموقف.

 

مكانة القصيدة وشهادة الأقدمين لها.

وضعه ابن قتيبة صاحب كتاب الشعر والشعراء في نفس مرتبة عمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة، والثلاثة كما تعلمون أصحاب معلقات.

ووضعه محمد بن سلَّام الجُمحي صاحب كتاب طبقات فحول الشعراء مع عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة بن شداد، وعنترة أيضا صاحب معلقة.

هذا رأي قدامى نقاد الشعر العربي فيه، وضعوه جنبا إلى جنب مع أصحاب المعلقات من ذوي القصيدة الواحدة، فما يجمع بين هؤلاء الشعراء جميعا أنهم أصحاب قصيدة واحدة متميزة جدا عن بقية شعرهم أو أنهم لم يقولوا إلا هذه القصيدة.

أما الأصمعي فقال عن هذه القصيدة، كانت العرب في الجاهلية تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمها، وكانت في الجاهلية تسميها اليتيمة، وربما يكون سبب هذا اللقب أنها وحيدة، فلا توجد لسويد قصائد أخرى تقريبا.

ولا يعرف لسويد قصيدة أخرى مع هذه القصيدة إلا أبيات متفرقة لا تمثل شيئا، فهو في هذا مثل عمرو بن كلثوم تماما.

وتمثل الحجاج بن يوسف يوم معركة رستقباذ بأبيات من قصيدة سويد على المنبر، وهي التي تقول:

رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً قَلْبَهُ … قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ

وَيَرَانِي كَالشَّجَا فِي حَلْقِهِ … عَسِراً مَخْرَجُهُ لَا يُنْتَزَعْ

مُزْبِدٌ يَخْطِرُ مَا لَمْ يَرَنِي … فَإِذَا أَسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ

لَمْ يَضِرْنِي غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِي … فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَمَا يَزْقُو الضُّوَعْ

 

مصدر القصيدة الرئيسي هو ديوان المفضليات، هذا الرافد الأساسي للشعر العربي القديم، وهو لمن لا يعلم، لمن لا يعلم هو ديوان انتقاه المفضل الضبي من أفضل القصائد القديمة وجمعها في ديوان سمي باسمه، والمفضل هو عالم من أهل الكوفة وكان عالما بالعربية وراوية للشعر وأيام العرب، عاش في أواخر الدولة الأموية وصدر العباسية، وجمع هذا الديوان الذي سماه المفضليات، وترتيب قصيدة سويد فيه  هو الأربعون، وهي أطول قصيدة في الديوان، وقد قام ابن الانباري بشرح قديم لديوان المفضليات وهو المصدر الرئيسي الذي يعتمد عليه.

تقع القصيدة في 108 بيت، فهي من مطولات الشعر العربي، وهي أطول قصيدة في ديوان المفضليات.


وما دام لسويد هذه المكانة، لماذا لم يعد من أصحاب المعلقات؟

 

أولا، نحن لا ننازع علماء العربية اختياراتهم، ولا تهم التسمية كثيرا، لكنني أؤكد فقط على مكانة هذه القصيدة وكونها من قصائد الصف الأول في التراث العربي، وعندي تفسير شخصي لعدم إدراجها، وهو أن سويد بن أبي كاهل يعتبر شاعرا حديثا زمانيا بالمقارنة مع أصحاب المعلقات، فهذه القصيدة أحدث عمرا منهم، قيلت في عصر صدر الإسلام الأول، أما المعلقات فهي اختيارات جمعها حماد الراوية لشعراء الجاهلية الأقدمين، اختار أشهر شعراء ما قبل الإسلام واختار لكل واحد أجود قصيدة له، وهذه هي المعلقات الشهيرة التي تعلق بها العرب، فالمعلقات  هي اختيارات من عصر قبل الإسلام، بينما كانت هذه القصيدة أحدث عهدا منها، حتى لبيد بن ربيعة الذي أسلم وعمر طويلا قال قصيدته المعلقة واشتهرت وحاز مكانته كشاعر كبير قبل الإسلام، وأتى عليه الإسلام وقد تجاوز سبعين سنة.

 

لكن بالنسبة لنا في زماننا هذا، فذلك الفارق الزمني الصغير لا يهم كثيرا، ما يهمنا هو أن القصيدة قديمة ومن عصر اللغة العربية الأول، عصر النقاء اللغوي والفصاحة وقبل اختلاط العرب مع الشعوب الأخرى وتغير الألسنة، فهي تمثل روح العرب الأولى وعصر الاحتجاج اللغوي، وتنطبق عليها شروط المعلقات من الجودة والطول وشهادة الأقدمين بمكانتها.

 

وهناك سبب آخر في رأيي، وهو أنني لاحظت أن اختيارات شعراء المعلقات تخضع لشروط معينة، منها أنهم من البارزين المعروفين في قبائلهم، وظلت قبائلهم تفاخر بهم بعد موتهم بكثير ولم يتغير الحال بعد قيام الإسلام، وهذا ما ستراه منطبقا على كل شعراء المعلقات، فقد كانت هذه الاعتبارات الاجتماعية مهمة عند العرب في ذلك الوقت واستمرت لما بعد الإسلام، أما سويد بن أبي كاهل فلا تنطبق عليه هذه المعايير تماما، فهناك مسألة الشك والتنازع في نسبه، ولا يمكننا أن نحكم فيها الآن لقلة ما نعرفه عنه، ولم يكن رأسا مبرزا في قبيلته، بل إنه قد سجن كما رأينا، وتدور هذه القصيدة حول هذا الخلاف والهجاء، وذكر عنه الأصمعي إشارة أنه كان مغلبا، أي تعرض لنوع من الهزيمة مع خصومه، ولا يقلل هذا من مكانته كشاعر شديد الرقة والعذوبة كثير التشبيهات ولا من مكانة قصيدته، وربما لنفس هذه الأسباب الاجتماعية لم تضم لامية الشنفرى للمعلقات.

وكما قلت فهذا تفسيري الشخصي، وربما أكون مخطئا.

 

أغراض القصيدة وتلخيص أفكارها

 

لم تذكر مناسبة معينة لسبب إنشاد سويد لهذه القصيدة، لكن من تأملها مع تأمل ما ورد من قصته، يمكن أن أقول إن دافعه لإنشادها هو الخلاف الذي قام بينه وبين خصوم له وإجباره على الرحيل من أرضه، الخلاف الذي سجن على إثره في ولاية عامر بن مسعود الجمحي، ثم ترك أرضه بعد إطلاق سراحه، فهذه القصيدة باختصار تحكي مشاعر رجل أجبر على ترك موطنه، وسوف يتضح هذا مع شرح الأبيات إن شاء الله.

سوء الفهم الذي حدث في تفسير قصيدة سويد بن أبي كاهل اليشكري

 

إذا قرأت عنها ستجد سوء فهم لهذه القصيدة عند بعض ممن تناولها من أهل العصر الحديث، فقد ظنوها قصيدتين على نفس الوزن، بسبب وجود أبيات غزل في المنتصف، وما هذا إلا نتيجة القراءة المتسرعة وعدم التأمل الكافي، ولم يرد مثله عن أحد من الرواة القدماء، وأنا أدعوك للتأمل في هذا الحكم بنفسك عندما ننتهي من قراءة الأبيات، القصيدة كللها وحدة واحدة، تأخذك من البداية إلى أن تعلم لم ترك أرضه، كل فصل فيها يبث فكرة ويسلمك لمعنى ما بعده حتى تفهم الصورة كاملة في النهاية.

أغراض قصيدة سويد بن أبي كاهل وموضوعاتها.

 

تشمل هذه القصيدة معظم أغراض الشعر الجاهلي، من جميل الوصف، الذي هو روح الأدب، وهو ما يضفي العمق والألوان والتفاصيل للنص، وقد أبدع سويد في هذا الباب أيما إبداع، واشتملت القصيدة على مشاعر الغزل، والفخر بنفسه، وبقبيلته، والهجاء، كل هذا بلغة جميلة وممتعة جدا.

 

تبدأ بجزء غزل طويل رائق يظهر صفاء نفسه ورقة طبعه، يبين فيه جمال محبوبته، ويصف سهره وطول ليله وأرقه، وهي كناية عن حياته أو قبيلته، فالشاعر العربي يتخذ البداية بالغزل سبيلا إلى غرضه، ويحمل هذا الفصل نفس المشاعر التي يريد التعبير عنها، يتكلم عن لهفته إلى الذهاب للحبيبة رغم الأخطار، ورغم ندرة الماء وحرارة ريح الصحراء التي تنضح لحم الناس، تقتل من يسير فيها كمن يضرب على أم رأسه، لكن ذهب مندفعا رغم عدم معرفة الطريق، ليذهب إلى أحبته من قبيلته أهل بكر، التي يحبها ويمتدحا بصفات السيادة والعقل ، لكنه حزين إذا لا يقدر على نيل حبيبته (التي هي أرضه وبلاده) فيبدأ في فصل آخر من الغزل، لكنه هذه المرة محمل بالأسى، كناية عن عدم قدرته على البقاء وضرورة فراقه، من أول البيت الذي يقول أرق العين خيال لم يدع،  ويذكر أنه لا يمكنه البقاء في هذه الأرض لأنه حر كريم.

 

فصل الغزل الحزين الثاني واندفاع حبيبته مع الحادي بعيدا عنه هو كناية عن عدم قدرته على البقاء وحزنه على ذلك، فأيامه عصيبة مثل ثور المها الذي يقاسي ألم الصيد وهجوم الكلاب الضارية والصياد عليه، سويد هنا هو ثور المها الذي يريد الصيادون وكلابهم صيده، كلما اقتربت منه الكلاب ضربها وابتعد عنها قليلا.

 

ثم يشرع في مدح نفسه وبيان العداوة والحقد الذي يكنه خصومه له، وعلو كعبه على حساده، وأنه فوقهم مما فعلوا، ولا يملكون إلا يحقدوا عليه، وأنهم لا يقدرون على فعل شيء له، وأن لسانه الحاد وهجاءه اللاذع سوف يسلخ جلدهم، وحسب اعتقاد العرب، يذكر أن شيطانه يلهمه قول الشعر اللاذع المقذع، لكنه في النهاية سيرحل لأنه لا يمكن أن يجد متسعا مع مثلا هؤلاء، لن يساكنهم في مكان، سيرحل عن الأرض لأنه مثل أسد غاب مهيب شرس، ابتلت الأرض تحته وأصبحت غير مريحة فانتجع لغيرها، عزيزا مكرما مثلما كان دائما، لكنه سيذهب ويغير هذه الأرض لأنه لا يجد فيها الاحترام الذي يستحقه.

 

القصيدة طويلة ورائعة وقد أبدع فيها سويد وأسهب في الوصف الجميل للبيئة العربية وللمشاعر التي يكنها تجاه محبوبته وقبيلته ومشاعر الكره لأعدائه.

 

كان هذا تعريفا سريعا بواحدة من أهم قصائد الشعر العربي القديم، وأنا واثق أنها ستعجبكم عندما تتعرفون عليها في المقالات القادمة.
شكرا لكم، ونلتقي في المقال القادم. 

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى