شرح القصائد

شرح معلقة امرئ القيس – قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ

شرح معلقة امرئ القيس مع معاني الكلمات

معلقة امرؤ القيس هي أهم قصيدة في تاريخ الشعر العربي وجوهرته، تجمع بين الحنين إلى الماضي الذي يشتاق له والحاضر الذي يهجم عليه بالحزن، وقد اشتملت على كثير من التشبيهات الرائعة والأبيات الخالدة التي علقت في ذهن الناس، فيها قوة فريدة على التصوير والتنسيق بين الأفكار والجمع بين المتناقضات، ما يجعل قراءتها متعة أدبية بالغة ورصيدا لغويا لا ينتهي.

 

نقدم لكم المعلقة برواية ابن الأنباري بشرح مبسط مع معاني الكلمات لتفمهما ولتستمتع بها.

 

1- قَفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمْنِزلِ … بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

 

منزل: نزل المكان أي حل به، والمنزل هو مكان نزول الناس وتوقف قوافلهم.
سقط اللِّوى: اللِّوى هي الكثبان الرملية التي تتلوى كثعبان، ولا يمكن النزول عندها، وسقط اللوى هو طرف الرمال وآخرها، وعندما تنتهي الرمال تظهر الأراضي الصلبة، فتجتمع قوافل الناس ليقيموا خيامهم بعيدا عن الكثبان الرملية التي لا تصلح لشيء.

الدَّخول وَحَوْمَل هي أسماء أماكن في بلاده نجد، في وسط الجزيرة العربية.

 

يعد هذا الاستهلال واحدا من أفضل بدايات الأدب، دون مقدمات ولا شكليات، بدأ بإظهار الحزن والشجن، دعا الأمير رفاقه ليتوقفوا في سيرهم وأن يشاركوه البماء، لما وجده من حزن عندما رأى منازل أحبته واجتاحته الذكريات. فاحتاج أن يخرج ما تراكم في صدره.

وجه النداء على عادة العرب القدماء بصيغة المثنى، وهو يقصد عددا غير محدد، ربما تكون كتبية كاملة،  لهذا قال قفا بالمثنى، قالوا لأن الرجل لا يسافر في الصحراء منفردا، فأقل الجماعة يكون ثلاثة، المتكلم وصاحبان معهأضف كثبانا رملية إلى المشهد 

 وهذه الطريقة كثيرة في كلام العرب، وربما يكون لهذه القصيدة دور في هذا

قال لبيد ابن ربيعة: ألا تسألان المرء ماذا يحاول … أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

وقال مجنون ليلى: خليلي إلا تبكياني ألتمس … خليلا إذا أنزفت دمعي بكى ليا

وقال عبد يغوث الحارثي: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا … وما لكما في اللوم خير ولا ليا

والأمثلة كثيرة غيرها، تكفي لتدل على أنها كانت طريقة شائعة في كلام العرب القديم، ولا يقصد بها اثنان تحديدا.

 

 مر امرؤ القيس مع صحبه على آثار أطلال كان يعرف أهلها،  في بقعة يلتقي الناس فيها على الطريق، لم يحدد من هم الأحبة، أي حبيب، أو كل الأحبة الذين كنا نعرفهم، ، فطلب من رفاقه الوقوف وأن يشاركوه البكاء معا على ذكرى الأحبة الذين شتتهم الحرب، وعلى ذكرى الأماكن، القصيدة هي حزن بسبب الحاضر وتشبث بذكريات الماضي التي تفرج همه قليلا، ففي كل مكان ذكرى تلح عليه، يحتاج الإنسان أن يشارك ما في قلبه ليخفف مصيبته، ومع أنه أمير وفي خضم حرب، فقد طلب منهم صراحة أن يبكوا معه.

 

حدد المكان بشكل واسع بأنه في المنطقة التي تنزل فيها القوافل بين الدخول وحومل، وهي أماكن متباعدة كما ذكر الشراح، فكل هذه المنطقة كانت منازل أحبته التي رأى بعضها الآن فهيجت في قلبه البكاء.

ثم يكمل:

2- فَتُوضِحَ فَالمِقْرَآةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا … لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

 

توضح والمقرآة: أسماء أماكن أخرى.
يعف: يمحى، نقول عفا عليه الزمن، أصبح قديما وتجاوزته الاحداث، أي صار قديما باليا، عفت الرياح الأثر: أزالته.
رَسْم: هيئة المكان، وما بقي منه ما آثار البشر.
نسجتها: النسج، هو تعاقب الحركة شمالا وجنوبا مثل مغزل القماش الذي يتحرك جيئة وذهابا، يقصد حركة الرياح.
جنوب وشمأل: يقصد رياح الجنوب ورياح الشمال.

 

في البيت الثاني يكمل تحديد المكان، أي أن سقط اللوى الذي وقف عنده، ورأى الأطلال بجانبه، يقع بين هذه المواضع الأربعة، الدخول وحومل وتوضح والمقراة، وما زال يعدد مواضع ديار أحبائه، له ذكرى في كل مكان، يعددها كأنه يستأنس بذكرها ويتحسر على حجم خسارته.

وقال الشراح أن هذه أماكن بعيدة عن بعضها، كأنه يحدد إقليما كاملا وأجزاء واسعة من بلاده، له ذكريات في كل منها، ويحن إليها جميعا.

يقول إن ملامح الأماكن لم تذهب كلها وما زال قادرا على تمييزها، وهو ما يزيد ألمه أكثر، ولو أن الريح المتوالية جنوبا وشمالا على مر السنوات، أزالتها لكان قد ارتاح، لكن بقاء صورتها يهيج الذكريات.

كما قال شاعر آخر: ألا ليت المنازل قد بلينا …  فلا يرمين على شزن حزينا، يتمنى الشاعر أن آثارهم قد اختفت تماما لأن بقاءها يرمي على قلبه الأوجاع ورؤيتها يعذبه.

ويمكن أن نفهم من البيت أنه يستعجب من بقاء ملامحها رغم مضي السنين والرياح التي تهب جنوبا وشمالا وتزيل آثار الناس.

وقال بعض الشراح: يقصد أن آثارها لم تنمح من قلبي مع أنها ممحية في الحقيقة بفعل الرياح التي تتوالى عليها، وهو معنى جميل أيضا.

توالي حبوب الرياح الشمالية والجنوبية على المكان يدل أن الأمر قد مر عليه سنوات، لأنه تهب في مواسم من السنة من الجنوب وقت الأمطار ثم تهب من الشمال في الشتاء، وشبه حركة الرياح جيئة وذهابا بشكل ذكي كحركة النسج جيئة وذهابا.

 

3- تَرَى بَعْرَ الآرْامِ فِي عَرَصَاتِهَا … وَقِيعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

 

البعر: هو فضلات الحيوانات وروثها.
الآرام: هي الظباء البيضاء، وهي من الحيوانات الصحراوية العربية الجميلة.
العرصات: هي ساحات البيوت، وهي أيضا المساحات الفارغة بين البيوت، وسميت كذلك: لأن الأطفال يعرِصون فيها أي يلعبون.
القيعان: هي الأرض المستوية المنخفضة حيث تتجمع المياه.
حب الفلفل: يقصد به حب الفلفل الأسود المعروف، الفلفل هو البهار.

 

يصف تحول البيوت إلى مكان موحش خال من البشر وآثارهم، فقد بعثرت الحيوانات البرية فضلاتها في أحواش البيوت وساحاتها، وبدلا من أن يرى آثار سكن الناس ويسمع أصواتهم كما كان يتمنى، إذا به يجد روث الغزلان البرية متناثرا كأنه الفلفل الأسود.

 

هذه الحيوانات برية وتخاف من الإنسان، وهذا أمر يجب أن تعمله لتفهم معنى البيت، لا يمكن أن تتواجد وتنتشر مطمئنة حتى يتناثر روثها بهذه الطريقة إلا إذا خلى تماما من البشر لمدة طويلة، وهذا هو المعنى الذي يريده، خلو المكان من البشر تماما لعدة سنوات وتحوله إلى أطلال مهجورة تسرح فيها الحيوانات البرية.

 

4- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا … لَدَى سَمُرَاتُ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

 

غداة: الغداة هي ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، الساعات الأولى من النهار.
البين: هو الفراق والابتعاد.
تحملوا: أي حملوا أغراضهم ورحلوا.
سمرات: جمع سَمُرَة، هي شجرة كبيرة، تعرف الآن باسم السنط، وهي شجرة كبيرة لها ظل.
ناقف: ينقف يعني يستخرج الشيء، الجذع المنقوف، هو المنخور.
الحنظل: نبات صحراوي له ثمرة تشبه البطيخ، يستعمل للعلاج، وعندما تقشر الثمرة ليستخرج ما فيها، تخرج منها رائحة حريفة شديدة تسبب تدميع العين بشكل إجباري، كما يحدث مع البصل ونحو ذلك.

 

معنى البيت: تذكر يوم فراقهم،  صبيحة ذلك اليوم الذي رآهم يحملون أغراضهم ويذهبون، وكيف كان يبكي بحرقة كمن يقشر ثمرات الحنظل، أي أنه كان يبكي بكاء شديدا رغما عنه ولا يستطيع أن يتوقف.

 

5- وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ … يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسَى وَتَجَمَّلِ

 

 المطي: الحيوانات التي تمتطى أي يركب ظهرها، وهي حيوانات الركوب، من الجمال والأحصنة.
الأسى: الحزن.
وقوفا بها صحبي: أي وقوفا في تلك البقعة من الأرض، كانوا واقفين فوق مطاياهم حول الأطلال، ولكنه هو الذي نزل.

 

وقوفا بها صحبي، بها تعود على الأطلال، أي أنهم يقفون بموضع الأطلال أو بحذائها ينظرون، ولكن أصحابه لم ينزلوا لأنه قال: علي مطيهم، أي أن مطيهم فوق رأسي، كانوا فوق الرواحل في مستوى أعلى، أما هو فقد نزل يتفقد المكان، ثم دعاهم ليقفوا ويبكوا.

 

معنى البيت: استجاب له أصحابه عندما طلب منهم الوقوف بقوله في أول بيت، قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، فتوقفوا ولكن دون النزول، أما هو فنزل يتجول ويشبع نفسه من المكان الذي يعج بالذكريات.

نلاحظ هنا أنه يذكرهم بصيغة الجمع، فقال وقوفا وقال يقولون، وهذا يدل أن المنادي بالمثنى في أول القصيدة لا يقصد به اثنان حرفيا، بل تقال إلى جماعة أيضا.

 أشفق عليه رفاقه لما رأوا شدة بكاءه، فطلبوه منه ألا يهلك نفسه من الأسى وذكروه أمير أنه لا يليق أن يبكي هكذا، فينبغي أن يتجمل ويحافظ على مكانته، وعليه ألا يبكي بهذا الشكل.

وفي رأيي أن تعبير امرئ القيس عما في نفسه ببساطة واعترافه ببكائه مع أن أمير في حرب، يضفي عليه طابعا إنسانيا، ما  يجعل شعره محببا وحقيقيا وغير مصطنع، لأنه يقول تماما ما في قلبه وما يشعر به حتى لو بدا محرجا، وهذا أمر لا يقوم به أحد تقريبا.

 

6- وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ … فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

 

العَبرة: هي الدمعة المحبوسة في العين قبل أن تفيض، أي الدموع المترقرقة في العين.
مهراقة: يعني مصبوبة.
الرسم: هو الآثار المتبقية.
دارس: يعني منمحٍ.
معول: أمر يعتمد عليه.

 

يبرر البكاء فيقول أن الدموع الذي يذرفها هي التي تشفي صدره، يشفي صدره بالبكاء ليخرج ما فيه ويرتاح، مع علمه بقلة فائدة البكاء وأنه لا يعول عليه، فقط ترويح للنفس، فيتساءل مستنكرا هل توجد أي فائدة من البكاء عن هذه الأطلال الدارسة؟ لن يعيد الغائب ولن يعيد الحياة كما كانت.

أو أن المعنى إن مدة شفائي قصيرة مثل وقت هذه ذرف الدموع، فهل يوجد ما يعول عليه عند هذه الأطلال؟

 

7- كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ … قَبْلَهَا، وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبِابِ بِمَأْسَلِ

 

الدأب: هي العادة، وهي ملازمة الأمر والاعتياد عليه.
مأسل: هو اسم مكان.

أم الحويرث وأم الرباب هما امرأتان من وسطه الاجتماعي، ومن معارفه، فهو لا يذكرهن على أنهن حبيبات، بل يذكرهم بالكنية.

هو يبكي هنا في موقع الأطلال، كعادته سابقا في البكاء عندما تذكر هاتين المرأتين في مكان آخر يدعى مأسل، المواقف التي تدعوه للبكاء كثيرة، كلما قابل شخصا كان يعرفه أو مر على مكان، هيج ذلك بكاءه.

فيكون المعنى: لقيت من الحزن عندما وقفت على هذه الأطلال كما لقيت في مأسل عندما تذكرت أم الحويرث وأم الرباب.

 

8- إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا … نَسِيمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

 

تضوع: تضوعت الرائحة، طابت واشتد انتشارها، وتضوع المسك يعني فاحت رائحته.
نسيم: هي الريح اللينة اللطيفة التي لا تحرك شجرا ولا تعفي أثرا.
الصبا: الصبا بفتح الصبا: هي الريح الشرقية التي تهب على الجزيرة العربية وتكون لطيفة عليلة.
ريا: هي الريح المشبعة بالرائحة الطيبة.
والقرنفل: النبات العطري المعروف.

 

يصف طيب رائحة هذه النسوة، وهن من معارف امرئ القيس من علية القوم، كانت تنتشر منهن ريح المسك الطيبة عندما يقمن، لطيفة عليلة كنسيم الريح الشرقية اللطيفة التي تأتي عابقة برائحة أزهار القرنفل.

 

9- فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً … عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي

 

صبابة: هي حرارة الشوق.
النحر: أسفل الرقبة وأعلى الصدر، موضع وضع القلادة.
المحمل: هو السير الجلدي الذي يعلق عليه السيف ويحمله، يكون معلقا بحزام جلدي على الصدر.

 

عندما اجتمعت عليه كل هذه الذكريات لم يتحمل، انفجرت دموعه من شدة شوقه إلى كل من أحبهم وكل الذين يشتاق لهم، بكى بشدة حتى فاضت دموعه كعين الماء الفوارة، إلى أن انحدرت وبللت رقبته ثم بللت الحزام الجلدي الذي يربط به السيف عند صدره، ولنا أن تخيل هذه الدموع، فقد أطلق كل ما في نفسه في زفرة واحدة قوية.

وهنا ينتهي القسم الأول الذي وصف فيه حاضره الكئيب وبكاءه بجانب الأطلال وشدة حزنه.

 

فصل الغزل في المعلقة.

 

في مجموعة الأبيات التالية يتذكر الشاعر ماضيه الجميل الذي كانت تغلب عليه المغمرات الغزلية ليتعزي به ويصبر نفسه على الحاضر الكئيب، قيمة هذه الأبيات ليست في الغزل على جماله، بل في أنها الماضي الذي يتذكره ويحزن عليه.

 

10- أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ … وَلَاسِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ

 

رب: هي حرف من حروف الجر، تجر الاسم الذي يأتي بعدها، وهي بمعنى ربما، تفيد احتمالية حدوث الفعل أو رجحانه، بمعنى يمكن أن يحدث كذا، أحيانا تفيد التقليل من احتمالية حدوث الفعل، وأحيانا التكثير حسب السياق.
لاسيما:  هي كلمة مركبة من لا و سي و ما، وتعني خاصة ، أو تحديدا.
دارة: الجمع دور ودارات، هي أراض مستوية بيضاء تنبت ما طاب ريحه من النبات، يعني هي المكان الجميل كالحديقة، وتكون مميزة عما حولها، يوجد منها الكثير في بلاد العرب ومنها دارة محددة تسمى جلجل وهي التي حدثت فيه القصة المقصودة ، وتسمي ديرة أيضا.

 

 البيت هو الأول في القسم التالي، الذكريات السعيدة التي يحن لها، يقول: لم تكن أيامي كللها بهذا السوء، فقد كانت عنده أيام جميلة سعيدة، خاصة اليوم الذي حدث له عند دارة جلجل، يذكر هذه الأيام الجميلة ليصبر نفسه ويعددها في مجموعة الأبيات التالية ، فهذه المعلقة هي صراع بين الحاضر الكئيب وبين ماضيه الجميل الذي يحن إليه.

 

عندما يحزن الإنسان بسبب كثرة مصائبه، فإنه يبحث عن العزاء في لحظات حياته السابقة التي كانت أفضل من حاضره، ويشتد حنينه إليها، يفكر في لحظات مجده، في نجاحاته، في أيامه السعيدة الماضية قبل أن يتبدل حال الدنيا، يصبر نفسه بهذه الذكريات، ويعوض بها خيبة أمله، وهذا بالضبط ما فعله امرؤ القيس في الأبيات القادمة.

 

يُذكر عادة أن دافع إنشاء معلقة امرئ القيس هو المغامرة التي خاضها في مكان يدعى دارة جلجل، عندما حاول مغازلة بعض الفتيات فأخرهن عن السفر، ثم صالحهن بإقامة وليمة، وهذا خطأ، فالقصيدة أوسع من هذا المشهد الضيق الذي هو واحد فقط من ذكرياته.

 

11- وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلعَذَارَى مَطِيَّتِي … فَيَا عَجَباً لِرَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ

 

عقرت: العقر هو القطع، وعقر الجمل أي ذبحه، والعقر أيضا هو قطع أرجل الحيوان، عندما يضرب الحيوان في قدمه بالسيف فيسقط ثم يذبح، وهذه طريقة ذبح غير شرعية، ولكنها كانت تحدث، وفي الحديث لا عقر في الإسلام.
العذارى: تعني فتيات شابات قبل سن الزواج، وهم اللاتي كان يغازلهن.
مطيتي: الحيوان الذي يمتطى ظهره، أي يركب، ويجب أن تعرف أن الجمل أو الناقة الذي يتخذ للركوب والأسفار يكون مختارا بعناية من بين عدد كبير، لأنه يجب أن يكون الأقوى والأكثر تحملا، كي يثق فيه العربي لقطع الصحراء ويستأمنه على حياته، أما أغلب الجمال فلا تقدر على ذلك، فترعى فقط للأكل والحليب والوبر.
الرحل: هو ما يأخذه المسافر من الأثاث في رحلته، من ثياب وأغراض، ويحملها فوق ناقته.

 

وفي يوم آخر كانوا على سفر، فغازل امرؤ القيس بعض الفتيات بألاعيبه، سرق أغراضهن وتعمد تأخيرهن عن القافلة، فغضبت الفتيات، ولكي يتصالح معهن عرض أن يقيم وليمة يذبح فيها ناقته النفيسة التي كان يركبها، فيحتفلون على أكلها، وربما كان كل هذا افتعالا منه ليجتمع مع الفتيات، هذه نوع التصرفات التي يقدم عليها أمير غني يحب اللهو ولا يهتم إطلاقا بالمال، لأنه يعلم أنه سوف يحصل في الغد على مطية أخرى.

وبعدما ذبح الناقة، تبقت حمولتها من أغراضه، فوزعها على الفتيات، تحمل كل واحدة جزءا من الرحل على ظهر جملها، فيقول فيا عجبا لرحلها المتحمل، فكر في ناقته المسكينة التي قتلها بطيشه، وتعجب من حالها ومن حمولتها التي توزعت هنا وهنا، كيف كانت وكيف أصبحت، لا شيء.

 

12- فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا … وَشَحْمٍ كَهُدَّابٍ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

 

هداب: هي الخيوط التي تكون في طرف الثوب أو الستائر، متدلية غير منسوجة.
الدمقس: هو نسيج منقوش، يكون لونه أبيض في العادة، غني بالزخارف الدقيقة، يصنع من الحرير أو الكتان.
المفتل: المغزول، أو الذي تظهر في نقوشه فتلات النسيج.

 

يصف بهجة الوليمة، وأجواءها الطيبة، الفتيات ظلت تقذف بقطع  طرية من لحم ناقته، مع شرائح الشحم الأبيض التي أكد على بياضها ونعومتها كأنها من القماش الحريري الأبيض المزخرف، وهي تنتقل من يد ليد.

لاحظ أن الشاعر يختار الصور من بيئته ومن الأشياء التي اعتاد رؤيتها في حياته، وهنا يتحدث عن الستائر الحريرية اللينة والمزخرفة، وهو يعرفها لأنه أمير وكان يملك هذه الرفاهيات.

 

13- وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ، خِدْرَ عُنَيْزَةٍ … فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلَاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي

 

الخدر: كل ما يؤوي أو يخفي من بداخله، من خيمة أو بيت، المقصود به هنا  الهودج الذي تركب المرأة داخله فوق الجمل.
عنيزة: اسم أو لقب الفتاة التي يتغزل فيها.
ليك الويلات: الويل هو الفضيحة، أو الهلاك والحسرة، تدعو عليه بالفضيحة أو بما يسوؤه.
مرجلي: أي ستجعلني أمشي راجلة على قدمي.

 

بعدما أكل مع الفتيات من لحم ناقته، ووزع أغراضه لتحمل كل واحدة منهن جزءا، واصل مرحه وافتعاله للمواقف، فقال أنه يريد أن يركب، فهو أمير ولا يسافر راجلا كالفقراء، ولابد أن تحمله واحدة، واختار عامدا أن يركب مع التي تسمى عنيزة، ومواصلا عبث الشباب، ذكر كيف كان يدخل رأسه إلى داخل خدرها ليغازلها ويتملى من محاسنها، فيما كانت هي تبدي الضجر من تصرفاته الطائشة التي ربما تسبب لهم فضيحة، لهذا تدعو عليه بالويلات والحسرة وتهدده أنها ستنزل من الجمل وتتركه وتترجل إذا استمر في مضايقتها.   

 

14- تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعاً … عَقَرَتْ بَعِيرِي يَا امْرَأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

 

الغبيط: هو أساس الهودج الذي يثبت فوقه على ظهر الجمل، ويصنع من الأخشاب، ويطلق أيضا على الأرض المستوية التي يرتفع طرفاها، ويطلق أيضا على الوعاء من الجلد يحمل فوق الدابة يوضع فيه التراب من الحقل أو إليه، والجرابات التي يكون لها فتحتان، كل فتحة على جانب الحيوان، وربما كان أساس الهودج مستويا ويرتفع من الأجناب فسمي بهذا الاسم، وطبعا هناك اختلاف في تحديد شكل الغبيط الذي كان يقصده امرؤ القيس، فالأسماء تتغير مع الزمن ولأنها أمور لم تعد تستعمل الآن، ولكن على كل حال، نحن نعرف المعنى العام.

 

في تهوره مال عليها امرؤ القيس، ليجلس بجانبها، فاختل توازن الغبيط الذي يثبت الهودج فوق الجمل، أو أن الوزن أصبح في جهة واحدة، فهدد بسقوطهما معا وتكسير رقابهم، وحينها تصرخ به الفتاة أن الجمل لن يتحمل هذا، وستنكسر قوائمه، وأنه بهذا في حكم من يقتله، وتناديه باسمه تحببا أو تلطفا كي يستجيب وينزل.

 

15- فَقُلْتُ لَهَا سِيرِي وَأَرْخِي زِمَامَهُ … وَلَا تُبْعِدِينِي عَن جَنَاكِ المُعَلَّلِ

 

زمام: هو الحبل أو السير الجلدي الذي يشد به الحيوان من فمه لقيادته، ويرخي الزمام أي أن يمد له الحبل فيترك الحيوان ليمشي بطيئا على هواه.
جنى: ما يجنيه المرء، أي يحصل عليه، جنى الثمار، ما يحصل عليه من محاصيل الثمار، ويقصد به هنا ما يجنيه منها من الوقت الطيب.
المعلل: العلل هو شرب الخمر مرة بعد مرة، حتى يسكر ويشعر بنشوتها، فيشبه حضوره معها كالشعور الذي تبعثه لذة شارب الخمر، الذي يسكر من الخمر المعللة.

 

فقال لها واثقا من نفسه، هوني عليك، لا تشغلي بالكِ بكسر قوائم البعير، واتركيه يمشي مسترخيا متباطئا، يريد أن يطيل الوقت معها، يغازلها ويترجاها بلطف ألا تبعده عن جمالها الساحر الذي يدير رأسه كالخمر.

 

16- فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ … فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

 

طرقت: الطرق هو الزيارة ليلا.
تمائم: هي ما كان يعلقه العرب على الأطفال والحيوانات طلبا للحماية وإبعادا للحسد حسب ما كانوا يعتقدون، وذو تمائم معناها الطفل الصغير، الذي تعلق له أمه هذه السلاسل والخزف.
محول: قالوا في الكتب أنه الذي أتم حولا أي سنة من العمر، والمعنى أيضا أنه الذي يجعل المرؤ يحول انتباهه إليه، فالأم تحول نظرها إلى طفلها لأقل هاجس، فلا تهتم إلا بغيره.

وقد استعمل امرؤ القيس كلمة محول أيضا في موضع آخر لنفس هذا المعنى، وهو تحويل الانتباه، عندما قال (مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ .. مِنَ الذَّرِّ فَوْقٌ الِإْتبِ مِنْهَا لأَثَّرَا) ، سمى النمل الذي يقف على الكتف بأنه محول، لأنه يحول الانتباه بلدغه.

 

بعدما غازلها وقال لها كلاما جميلا، غير طريقة الحديث وبدأ يتفاخر أمامها كي لا تتمادى عليه، يذكرها بقيمته وأن هذا الذي تتمنع عليه وتريد إنزاله، هو رجل محبوب ترغب فيه النساء، حتى المرأة الحامل والمرضع، عندما تكون المرأة غير راغبة بالغزل، يقول إن هذه تتعلق به لدرجة أنه ينسيها ابنها الذي علقت له التمائم للحماية، والذي في العادة يكون شغلها الشاغل، والذي تحول نظرها إليه اهتماما لأدنى حركة يصدرها، ولكن امرؤ القيس يتبجح بجاذبيته، يقول هذا استعراضا على الفتاة وتذليلا لها، أو ربما شعر أنها أهانته لما رآها تريد إنزاله.

 

17- إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ … بِشِقٍّ وَعِنْدِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ

 

بلغ إعجابه بنفسه في هذا البيت حد النرجسية، يقول عندما يبكي الطفل من خلف أمه، فإنها تنصرف بناحية من وجهها أو جسدها تجاه الطفل، لكنها تبقي نظرها على امرئ القيس لولعها به، فهي لا تدير ظهرها بالكامل حتى لبكاء طفلها، وهو المحول الذي من المفترض أن يستحوذ على نظرها وانتباهها بالكامل، وهذا من أشد المبالغة التي يطلقها لإظهار ولع النساء به أمام الفتاة التي تريد صده، وهذا يبين جانبا من حياته القديمة أيضا، ويروى البيت أيضا بصور أشد فحشا من هذه، بطريقة تؤكد السمعة المتعهرة لامرئ القيس.

 

يتفاجأ البعض عندما يتكلم العرب القدماء بهذه الطريقة الغزلية المتبجحة، وهي طريقة تخالف الصورة الذهنية التي يضعها البعض في أذهانهم.

الجمهور العربي الحالي يرسم صورة ذهنية عاطفية عن العرب القدماء، لأن ذاكرة الإنسان تميل إلى رسم صورة مثالية كالفردوس للماضي، وللفترة التي يحن إليها، فيقلل العيوب إلى أدنى حد أو يتجاهلها تماما، ويبالغ في ذكر المزايا، كالشجاعة والكرم والوفاء، ويركز عليها، وهكذا يكون في ذهنه صورة فردوس مثالي بلا أخطاء، أو يصور الماضي كأنه مجتمع ملائكي.

 

لا ننس أن العرب رغم أنهم فعلا كانوا يمتلكون كثيرا من المزايا، التي أقرها الإسلام، إلا أنهم بشر ممن خلق الله، وقبل أن تأتيهم الرسالة، كانوا يفعلون كثيرا من الأمور التي سيفعلها البشر إذا تركوا لأنفسهم بدون إرشاد، هكذا خلق الله بني آدم، يفعلون نفس الأشياء إذا وضعوا في نفس الظروف وإذا تركوا لأنفسهم. ولهذا كان يوجد عندهم الأخلاق التي ندعوها أخلاق الجاهلية، شرب الخمر والسكر وكل ما يترتب على ذهاب العقل، والعلاقات مع النساء والقتل واستحلال الدماء.

 

ويمكن أن تلاحظ هذا الحنين العاطفي في حياتك الشخصية،  فكل منا يميل إلى تذكر أيام طفولته أو بلدته القديمة أو مدرسته الابتدائية بصورة مثالية، لأن الذاكرة تبالغ في تصوير الذكريات السعيدة وتمحو السيئة أو لأنك كنت حينها صغيرا ولم تكن تنتبه ببساطة، ولكن الحياة هي نفسها قديما وحديثا.

 

والآن ينتقل امرؤ القيس إلى ذكرى أخرى من أيامه السعيدة ، يوم أن خاصمته حبيبته وأقسمت على فراقه، فحاول بشتى الطرق أن يتلاطف معها كي تصالحه، يقول: 

 

18- وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ … عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ

 

الكثيب: هو التل الرملي الذي جمعته الرياح، ومكثوب أي مجموع، وكل ما انصب في شيء واجتمع، فقد انكثب فيه.
آلت: يعني حلفت وأقسمت.
تحلل: حل القسم أي الرجوع فيه، يقصد رجوعها عن القسم.

 

يتكلم الآن عن يوم آخر من ذكرياته مع حبيبته، التقى معها فوق تلة رملية، ولكنها كانت غاضبة منه لسبب ما وقد تصلبت في رأيها وأقسمت عليه قسما مشددا لا رجوع فيه أنها ستتركه.

 

19-أَفَاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَدَلُّلِ … وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي.

 

أفاطم: هي يا فاطمة، الألف هي أداة نداء مثل يا، وحذفت التاء المربوطة في آخر الكلمة ترخيما، وهو حذف الحرف الأخير من الاسم عند النداء، ويستعمل عند التلاطف في الحديث.
التدلل: التغنج، والدلع.
أزمعت: وطد العزم، أي نوى نية ثابتة بلا تراجع.
صرمي: الصرم هو الإبعاد.
أجملي: اجعلي الأمر جميلا.

 

يتكلم معها بلطف كي تعفو عنه وتنسى قسمها، فيناديها تحببا بفاطم، وهذا أسلوب عربي في التلاطف في الحديث، فيقول أن ما تفعله الآن هو دلال عليه لا أكثر، ليس غضبا حقيقيا، ويطلب منها أن تقلل هذا الدلع قليلا، كما نقول بالعامية ( خفي علينا دلعك ) وإن كانت فعلا قد عقدت النية على الفراق، فلتفعل هذا بشكل جميل وليفترقا بدون أضغان.

 

عادة عندما يتفرق زوجان أو حبيبان، فإن الحب ينقلب إلى كره وتتولد أحقاد وضغائن وألم، فهو يطلب منها على الأقل أن يكون فراقا متحضرا.

في القرآن الكريم ورد مثل هذا في حالات الطلاق قال الله تعالى أو تسريح بإحسان: أي يحسن كل طرف إلى الآخر ولا يسيئ إليه بالقول أو الفعل. 

 

20- وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ … فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ

 

يسل: يسحب بخفة ، أو ينزع الشيء ويخرجه برفق.
خليقة: الطبيعة التي يخلق عليها كل شخص.
الثياب: هي ما يلبس ليغطي الجسد وقالوا هي القلب أيضا.

 

بعد أن أكد على حبه لها ترك لها الفرصة، فإن كانت لم تعجب ببعض صفاته وأخلاقه، فيمكنها أن تذهب إن شاءت، يعطيها الخيار لتكون هي صاحبة القرار بالبقاء معه  أو تذهب، أما هو فقد فعل ما عليه.

 

وهو بهذا يشعرها بمكانتها ويدل أنه ما زال يعاملها بلطف، عبر عن هذا بأنه يمكنها أن تفك الثياب المتداخلة، لا يقصد هنا المعنى الحسي، فهما واقفان يتحدثان فوق تلة كما قال بنفسه، بل يقصد أنهما محبان متشابكان وهذا ما يجعلهما واحدا ويشكل لهما الغطاء معا ، فمعنى الثوب هو التغطية،  يمكن تنسحب هي فينفك التشابك، ولكنه يعلم أنها تفعل هذا دلالا عليه ، وهذا ما سيقوله في البيت التالي.

 

21- أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي … وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ؟

 

أغرك: يعني هل غرك، الهمزة هي حرف استفهام.، ويغتر بمعنى يخدع بنفسه إعجابا.

هذا من أجمل أبيات الشعر العربي، يتساءل عن سر قسوتها معه،  هل ما يجعلها قوية معه وما جعلها تقسم عليه بهذه الطريقة الحاسمة هو الدلال؟ وعلمها أنه واقع في حبها لدرجة أن هذا الحب يكاد يقتله؟ وأنها تسيطر عليه بهذه الطريقة وتعلم أنه سيلبي لها ما تريد في النهاية مهما قالت؟

إن علمها أنه واقع في حبها بهذا الشكل القاتل وأنه سينفذ كل أوامرها هو ما أغراها أن تقسو عليه، وهو ما جعلها تقسم عليه وتتدلل وتفعل به ما تشاء.

 

22- وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إَلَّا لِتَضْرِبِي … بِسَهِمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

 

ذرفت: سالت وجرت بالدموع.
أعشار: تعني قطع، فأن قلبه قد تكسر إلى قطع.

 

يؤكد على حقيقة أنه متعلق بها وعلى أنها تبكي هكذا كي تعذبه وتضغط على قلبه الذي حطمه حبها، وأنها تضرب هكذا فيه لعلمها أنه سيخضع في النهاية.

وشبه بشكل رائع نظراتها الباكية ودموع عينها بأنها السلاح الأقوى، فهما سهمان يضربان قلبه المحطم والمقتول فيه حبها.

 كللها مبالغات فنية لتصوير تعلقه بها، وتلطف شديد معها لعلها تعفو عنه وتنسى قسمها، وهو ما سيحدث غالبا، لأن المرأة سترضى بعدما تسمع مثل هذا الكلام. 

 

كانت هذه مجموعة من الأبيات الذي ذكر فيها امرؤ القيس اشتياقه لأيام سابقة جميلة، وكللها تتعلق بذكرياته مع فتيات.

 

في الفصل التالي  يواصل سرد الذكريات الجميلة، يتكلم عن ذكرى مع حبيبة، رواها على شكل قصة من وِاحد وعشرين بيتا، وهي نفس القصة التي حكاها في قصيدته اللامية الأخرى، ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي مع سلمى، ولكن اليوم يتكلم من زاوية أخرى، كان يشتاق لها بحزن كجزء من حياته السابقة، ومن الواضح أن أهل الفتاة هم من أعدائه، وأنه يزورها زيارة غير شرعية وغير مرغوب فيها، ذكر هذا بنفسه تبجحا، وذكر أنه أهلها يتمنون قتله، ولكنه لا يستطيعون، لأنه ابن الملك. ولعل هذا واحد من مظاهر سوء حكم أسرتهم، والتي تسببت في تمرد القبائل عليهم فيما بعد، ولعل هذا الغزل هو كناية عن رغبته صعبة المنال والتي سيحصل عليها مرة أخرى رغم الأخطار. 

 

ورغم غرابة الموقف، فإنه لم يصفها وصفا حسيا فاحشا، بل ركز على وصف الوقت الطيب وصفات الغنى ورقتها الأنثوية وجمالها المرفه الأنيق، الجمال الرقيق المعتنى به جيدا، والذي يميز الأغنياء، الغنى يجعل الإنسان يظهر بصورة راقية مع لمسة الرقة والرفاهية، وهذه صفات الوسط الذي كان ينتمى إليه امرؤ القيس، والذي يشتاق إليه

أما في القصيدة الأخرى فكان مازال يتبجح تبجحا جاهليا ليستعرض سطوته ويغيظ أهلها قبل أي شيء آخر.

 

تكرار تحدث امرئ القيس عن نفس المواضيع في قصائد مختلفة هو أمر ملاحظ ومتكرر في شعره، وقد لفت نظر شراح الشعر القدامى، فهو يتحدث في نفس المواضيع عدة مرات في اكثر من قصيدة بشكل شبه متطابق، ولكنه يصفها كل مرة من زاوية مختلفة حسب حالته المزاجية، ولعل سبب هذا أن الأفكار التي تسيطر على ذهنه هي نفسها، لهذا يتكلم عنها كثيرا، مثل هذه القصة ومثل وصفه المتكرر للحصان حيوانه المفضل وللصيد به في قصائد كثيرة.

 

23- وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا … تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيرِ مُعْجَلِ

 

الخدر: قلنا أنه كل ما يخفى الإنسان داخله من هودج أو خيمة.
لا يرام: يروم فعل مضارع يعني: يطلب، لا يُرام ، أي لا يطمع فيه، لا يفكر أحد أن يقترب من خيمتها لعزة أهلها.
الخباء: هو الخيمة الصغيرة التي تقوم على عمودين أو ثلاثة.
غير معجل: أي غير مستعجل ليقوم، بلا خوف يجعله يتعجل.

 

هذا أول بيت من سرده لمغامراته المتهورة القديمة، الحب الذي كان ممنوعا عليه لكنه حصل عليه بالقوة والتهور، فاقتحم خيمة فتاة ليلا، في أرض قوم لا يحبونه، ورغم وجود الحرس، وتأكيدا على سلطته ذكر أن هذه الفتاة من قوم أعزاء لا يفكر المتطفلون في الذهاب لعلمهم بالعواقب بسبب مكانة أهلها، ولكنه ذهب وجلس معها وتمتع ولم يكن مستعجلا في القيام ولم يكن يقلقه شيء.

 

24- تَجَاوَزْتُ أَحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَراً … عَلَيَّ حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

 

أحراس: جمع حارس.
معشر: كل جماعة أمرها لرجل واحد.
يسرون: يخفون، أو يفعلونها في السر.

 

من أجل الوصول إلى فتاته كان عليه أن يتجاوز الحراس وأن يمر في أرض قوم يتمنون قتله إن استطاعوا، وهم حريصون على ذلك ويتمنون سرا أن يقتلوه، ولكنهم لا يقدرون، لعلهم أنه ابن الملك حجر الكندي، يقص ما حدث وهو يبدو فخورا بالسلطة التي كان يتمتع بها.

 

25- إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ … تَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّلِ

 

الثريا: مجموعة نجوم لامعة في السماء في كوكبة عنق الثور.
تعرضت: ظهرت في السماء وأشرفت.
أثناء: جوانب، انثناءات.
الوشاح: هو نسيج عريض يرصع بالجواهر، تضعه المرأة على أكتافها وخصرها.
المفصل: الذي خيط بالجواهر.

 

يصف تلك الليلة، وجمال السماء بما يتناسب مع حالته المزاجية الرائقة، السماء فوقهم تتلألأ بنجوم كوكبة الثريا اللامعة التي تنفرش مواجهة لك، كما يلمع الوشاح المطرز باللؤلؤ.

حدث هذا في ليلة صيفية، والناس يسهرون ويتسامرون ليلا على عادة العرب، فالطريق ليست خالية له، وهو مكشوف تماما، وقد يقابلهم في وجهه، لكنه لا يبالي.

 

26- فَجِأْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا … لَدَى السِّتْرِ إِلَّا لِبْسِةِ المُتَفَضِّلِ

 

نضت: ألقت وخلعت.
الستر: الستارة الفاصلة.
المتفضل: المكتفي بملابس خفيفة في المنزل تخفيفا.

 

طرق عليها خيمتها ليلا ووقف خلف الستائر، فيما هي كانت تستعد للنوم، وقد وضعت ملابس النوم الخفيفة، وهكذا كانت تنقضي حباة امرؤ القيس قبل الحرب.

 

27- فَقَالَتْ يَمِينَ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ … وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِي

 

يمين الله: تقسم بالله على تهوره وحماقته.
الغواية: الضلال والانحراف.
تنجلي: تتكشف وتزول.

 

تتعجب الفتاة من جرأته المتهورة، ومن عدم قدرتها على ضبطه وإيجاد حيلة تبعده عنها، وتقسم على ذلك، وترى أنه مستمر في انقياده لهواه وأن ضلالته هذه لن تزول عنه، سيقول لها لا فائدة، فسوف يأتي حتى قطعوه تقطيعا.

في القصيدة الأخرى ذكر نفس الموقف بأسلوب آخر عندما قال: 

قالت يمين الله إنك فاضحي   …  ألست ترى السمار والناس أحوالي؟

فقلت يمين الله أبرح قاعدا   …   ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

 

28- خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا … عَلَى إِثْرِنَا أَذْيَالَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

 

مرط: كساء من خز ونحوه تضعه كالإزار.
مرحل: ممدود إلى الوراء، مرخى خلفها.

 

بعد أن هدأ من روعها، خرج بها من منازل القوم إلى تمشية في مكان مفتوح خارج الحي يقضيان وقتا لطيفا ويتبادلان الحديث، يصف امرؤ القيس اللقاء كموعد لطيف للحديث مع صديقة، وليس كشيء فاحش، وكيف كانت تجر وراءها ذيل ثوبها الطويل الذي يجر على الأرض، مظهر للترف وملابس الأغنياء.

 

يقول بعض الشراح أنها كانت تمد ذيل ثوبها كي تخفي الآثار، لا يبدو انه يقصد هذا من البيت، ومن سياق القصة فهو يتبجح أنه يفعل هذا علانية، ثم إن الثوب على كل حال سيصنع أثرا على الرمال وهو يمر فوقها.

 

29- فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى … بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ

 

أجزنا: أجاز المكان، أي قطعه وتركه خلفه.
انتحى: مال جانبا وانفرد.
الخبت: ما انفرد من الأرض واتسع.
قفاف: هي التلال الصخرية، مرتفعة قليلا ولكنها ليست جبلا.
عقنقل: الكثيب الذي يكون رمله متموجا، والكلمة نفسها لها وقع موسيقي، كأنها تصف التموجات في الرمل.

 

خرج بها في ساحة منخفضة من الأرض الخلاء، بها بعض التلال الصخرية والرمل المتموج، مكان للخصوصية والهواء الطلق المنعش، تحت السماء.
 

30- هَصَرْتُ بِفُودَيْ رَأْسِهَا فَتَمَايَلَتْ … عَلَيَّ هَضِيمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ

 

هصرت: جذبت.
فودي رأسها: أي جانبا الرأس من جهة الأذن.
الكشح: هو الخصر، وهو جانب الجسد من تحت الأضلاع.
ريا: تعني هنا ممتلئة.
المخلخل: مكان وضع الخلخال في القدم.

 

لما خلا لهم الجو، اجتذبها إليه من جانبي رأسها ليقربها منه فمالت نحوه بشكل لطيف، ثم وصفها بانها رشيقة الجسد وساقها ممتلئة.

 

وبعد أن طاب لهم المقام أخذ امرؤ القيس يتأمل جمالها، وهي لمحة من تنعم حياته السابقة، معجبا بكل تفاصيلها التي سيستطرد في الكلام عنها إلى نهاية الأبيات ثم سيؤكد أنه لن يدع حبها هذا إلى الأبد وتحت أي ظرف. 

يقول:

31- مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ … تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ

 

مهفهفة: رشيقة، تتمايل في مشيتها تمايل غصن الشجرة.
غير مفاضة: مفاضة أي كبيرة البطن، وهذا يؤدي لعدم تناسق جسد الإنسان.
ترائب: أسفل الرقبة ومنطقة عظام الصدر أسفل الترقوة، او هو الموضع الذي تستقر عليه السلسلة الذهبية أعلى الرقبة.
مصقولة: مملسة، أي أصبحت ملساء ولامعة كالمعدن النفيس من الاهتمام بها.
السنجنجل: مرآة مذهبة لها ثلاثة قوائم، وأيضا سبائك الذهب والفضة اللامعة، وهي كلمة رومية معربة.

 

يصف الفتاة بأنها رشيقة، بيضاء، دقيقة الخصر والبطن، لا يوجد في جسدها عيوب منفرة، ورقبتها المعتنى بها جيدا تلمع كالمرآة.

 

32- كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْرَةٍ … غَذَاهَا نَمِيرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ

 

موضع هذا البيت يختلف بين الروايات، فهو هنا بالنسبة إلى الأصمعي، أما في رواية ابن الأنباري فيأتي متأخرا في نهاية القسم.

 

البكر: أول كل الشيء.
المقاناة: الممتزجة، وكل شيء جمع بين لونين فقد قانى بينهما.
نمير الماء: النمير من الماء، الطيب العذب الصافي.
غير المحلل: لم يحله أحد، يقصد أنه ماء صاف تماما ولم يلمسه أحد من قبل أو يشرب منه.

 

لون بشرتها مثل لون أول بيض النعام، أبيض مختلط بصفرة، وهو لون البياض العربي، فالعرب ليسوا شقرا شديدي البياض بسبب طبيعة الجو، بياضهم مختلط بصفرة كلون العاج، وكأول بيضة للنعام، ثم يصف طراوة جلدها كالنبات الذي يسقى الكثير من الماء، أو أن جلدها نظيف بفعل اغتسالها بكثير من الماء النقي الذي لم يمسسه أحد، وهذه علامة على التنعم، معناها أنها لا تتعرض للشمس الحامية التي تجفف الجلد، فتاة منعمة غنية تعتني بنفسها ولا تتعب وتفسد جمالها في الأعمال.

وسيستمر في وصف جمالها بالتفصيل في الأبيات القادمة.

 

33- تَصُدُّ وَتُبْدِي عَنْ أَسِيلٍ وَتَتَّقِي … بِنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ

 

تصد: أي تعرض عنه، تبعد وجهها عنه
تبدي: أي تظهر
أسيل: هو الخد الطويل
ناظرة: يقصد عينا ناظرة
وحش وجرة: الوحش هو الحيوان الوحشي، الذي يستوحش الإنسان وينفر منه،
وجرة: هو مكان بعيد في الصحراء تعيش فيه هذه الحيوانات البرية التي لا تخالط الناس، ولهذا فهي شديدة الخوف من البشر.
مطفل: أي لها طفل تخاف عليه.

 

يعبر عن لطفها وجمال نظرتها، فهي تستحي منه، وعندما تصده بتحويل وجهها عنها، يظهر خدها الجميل، وتحمي نفسها منه بعين واسعة جميلة، تشبه عين المها البرية عندما تنظر إلى ابنها حنونة مذعورة.

 

خص الحديث بالحيوان البري لكونه شديد الخوف من الإنسان لأنه لم يعتد عليه، فيكون ذعره أشد، وحينما ترى إنسانا تنفتح عينها على آخرها، وخاصة إذا كانت الأنثى خائفة على طفلها، والذعر يمنحها ضعفا أنثويا محببا، فتفتح عينها أكثر، وهو يقول إنها تنظر بهذه النظرة الجميلة الأنثوية وهي تبعد وجهها عنه.

 

34- وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ … إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ

 

الجيد: هو العنق.
الرئم: هي غزلان الريم البيضاء.
فاحش: قبيح المنظر.
نصته: مدته.
معطل: خال من الزينة.

 

يصف جمال رقبتها، عندما تمدها تكون بيضاء وطويلة مثل رقاب غزلان الريم، ولكن دون أن يكون طولا شديدا فاحشا، ولا هي رقبة خالية من الزينة والمجوهرات، فامرأ القيس يعتبر خلو رقبة المرأة من المجوهرات عيبا فيها.

 

35-وَفَرْعٍ يَزَينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ … أَثِيثٍ كَقْنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

 

الفرع: الشعر التام.
فاحم: شديد السواد كالفحم.
أثيث: ثابت الأصل وغزير.
قنو النخلة: هو العرجون الذي يحمل التمر على النخلة.
المتعثكل: المتداخل لكثافته.

 

انتقل إلى وصف شعرها، وصفه بأنه شديد الكثافة وشديد السواد، منتفش يتنفس بالحياة في كل الاتجاهات، كعرجون النخل الممتلئ، بعضه منسدل على الأكتاف والظهر وبعضه للأعلى، وهوغزير ثابت، ومن غزارته تتداخل خصلاته بعضها على بعض.

 

هذا وصف الشعر العربي الكثيف الأسود، الذي لا يكون مستقيما تماما كالشعر الهندي مثلا، ولكنه يكون مميزا بالتموجات الجميلة وشديد الغزارة، يكمل الصورة التي بدأها عندما وصف لون جلدها بأنه الأبيض العاجي المشوب بصفرة. 

 

36- غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلَا … تَضِلُّ العِقَاصَ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ

 

 

الغدائر: هي ضفائر الشعر.
مستشزرات: متطلعات، وقد عابوا هذه الكلمة على امرأ القيس لثقل النطق بها، والسبب هو قرب مخارج الحروف فيصعب على اللسان الإتيان بها.
العقاص: شيء كالمشبك أو الخيط يربط به الشعر، والعقص هو الثني.

 

شعرها كثيف وأسود ومتموج وضفائرها ثائرة، تصعد خصلات للأعلى والأسفل، وهي تحاول تثبيته بما يشبه مشبك الشعر، فيمسك المشبك ببعض الخصلات ويثنيها وتهرب بعض الخصلات مرسلة.

 

37- وَكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيلِ مُخَصَّرٍ … وَسَاقٍ كَأُنْبوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ

 

كشح: هو الخصر، أي جانب الجسد.
لطيف: دقيق جميل.
الجديل: الرباط المجدول، وهو المضفر المشدود بإحكام، والمتثني
مخصر: المشدود ليصبح دقيقا.
المذلل: الذي ذلل له الماء، أي توفر له دائما.

 

يصف خصرها بأنه رفيع لطيف ومشدود كالسير الجلدي المجدول الذي يربط بإحكام ليظهر رفعه، وساقها ناعمة كأنبوب النبات المغموس في الماء دائما، فيصبح رقيقا وطريا.

 

38- وتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرِ شَثْنٍ كَأَنَّهُ … أَسَارِيعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاوِيكُ إِسْحِلِ

 

تعطو: أي تتناول الأشياء.
رَخْص: طري، يقصد أصابعها الطرية.
 شثن: غليظ خشن.
أساريع ظبي: الأساريع، هو اسم نوع من الزواحف الصحراوية المعروفة التي تسمى الآن بنات الرمل، طوله مثل إصبع اليد، تتثنى في الرمال وجسدها لين جدا، وتسمى أيضا الشرشمان، وتتميز بأن جسدها لين تماما، كأصابع حبيبته المرهفة.
وظبي قالوا هنا أنه اسم مكان كثبان رملية محدد.
مساويك: الأغصان اللينة.
الإسحل: هو الشجر الذي تتخذ أغصانه الغضة مسواك للأسنان.

 

هنا وصف له دلالة عميقة على الغنى والترف وعدم الحاجة إلى العمل، تظهر أثر النعمة في أصابعها بالغة الطراوة كأنها بلا عظام، لأن لها خدما يقومون عليها ولا تضع يدها في شيء، فلا تتشقق كمن يتناولون الأعمال بأيديهن، فأصابعها غضة ناعمة غير متشققة كأصابع النساء التي تشقى في الأعمال المنزلية أو الرعي والزراعة، وشببه بعنصرين من بيئة العرب، بنات الرمل، الزواحف اللدنة التي تبدو أنها بلا عظام، وأغصان الإسحل الرقيقة.

 

39- تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَا … مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ

 

منارة: مصباح.
ممسى: وقت المساء.
متبتل: منقطع للعبادة.

 

تفاصيل جمالها لا تنتهي، وجهها المشرق يضيئ ظلام ليلتهم ويبدد الوحشة كأنها مصباح يضعه راهب منقطع عن الناس يضيء له ليل صومعته، ويظل يشع بالضوء والدفء، لا ينقطع ضوؤه حتى الصباح.

 

40- وَتُضْحِي فَتِيتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا … نَؤُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

 

تضحي: أي يأتي عليها وقت الضحى.
نؤؤم: صيغة مبالغة، تعني كثيرة النوم، إلى وقت الضحى عندما ترتفع الشمس في السماء.
تنطق: أي تضع النطاق، وهو الحزام الذي يشد على الوسط الجسد ليساعد على الأعمال البدنية الثقيلة.

 

هذه الجميلة كسولة تستمر في النوم وقت الضحى، عند ارتفاع الشمس قبل الظهر، وفقد فتت المسك لها على فراشها تتمتع برائحته، فتصحو جميلة الرائحة، فيما يصحو غيرها مع إشراق الشمس لمباشرة العمل، ولا تضع أحزمة الوسط التي تستعين بها نساء الفقراء على الأعمال، لأنها ليست من النوع الذي يعمل، لا في البيت ولا خارجه.

 

غيرها من الفقراء هم من يستيقظون في الصباح الباكر، برائحة النوم أو بأي هيئة مشعثة، ليعملوا في الرعي أو في أي شيء من أعمالهم وينتطقون الأحزمة وتتشقق أياديهم وتبهت بشرتهم، أما هي فلا تشغل بالها بكل هذا.

 

41- إِلَى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيمُ صَبَابَةً … إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ وَمِجْولِ

 

يرنو: يديم النظر.
صبابة تعني عشقا.
اسبكرت: اكتمل جمالها ونضجت.

درع: هو عباءة المرأة البالغة.
مجول: ما ترتديه الفتيات الصغيرات وتتجول به وتلعب.  

 

بعد وصفها الذي جعلنا نعشقها، بدأ يحدث نفسه عنها، هل يستطيع أن يلومه أحد على تعلقه بمثل هذه الفتاة الباهرة؟ حتى الرجل الحليم الوقور الذي يضبط نفسه، لن يقدر على إشاحة نظره عن مثل هذه الفتاة عشقا، بل سيطيل النظر تأملا في جمالها، وهي في هذا السن الذي يثير الجنون في أول الشباب عندما تكتمل أنوثتها، فهي بين عمر الصغيرة التي تلبس المجول والبالغة التي تلبس الدرع.

 

42- تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنِ الصِّبَا … وَلَيْسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَلِ

 

تسلت: السلوان هو النسيان بلا مرارة، سلا يعني نسي الأحزان.
عمايات الرجال: شبه الرجال عندما يعشقون بأنهم كالعميان، وهم كذلك فعلا، تعميهم حرارة الحب حتى لا يرون ما حولهم ويرتكبون الحماقات.
الصبا: صغر السن والحداثة، ومنه نسمي الأطفال صبيان.

 

هذا الرجل في خضم حرب، ولكنه يصر على أن قلبه  لن يتخلى عن تعلقه بحبيبته أبدا، مع أن الرجال عندما يزداد عمرهم يتناسون الحب وحماقات الشباب، وينشغلون بما لا يحصى من مصاعب الحياة، ولكن حتى لو انصرف كل الرجال عن نزوات الشباب، لن يتخلى قلبه أبدا عن التعلق بها.

 

وسبب هذا الإصرار أنه لا يريد التخلي عن ذكرياته وحياته السابقة ويتشبث بها إلى أقصى حد، وهذه الفتاة كناية عن كل الحياة التي فقدها بسبب الحروب.

 

43- أَلَا رُبَّ خَصْمٍ فِيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ … حَرِيصٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِ

 

ألوى: رجل شديد الخصومة أو شديد الجدال
تعذال: كثير العذل وهو اللوم، على وزن تفعال: مثل تشراب، في معلقة طرفة، كثرة الشرب، وتسآال في معلقة زهير، كثير السؤال.
غير مؤتل: يأتلي معناها يقصر: غير مؤتل أي غير مقصر في لومي ولا يتوقف عن ذلك، نصيحة أو حسدا.

 

يؤكد أنه مستعد لدخول المعارك من أجلها، رغم شدة اللوم الذي يتلقاه كي يترك أمور الحب، من الناصحين المشفقين عليه أو الحساد، وأنه سيرد من ينصحه، حتى لو اشتد عليه الناصح، وهو يسمي الناصح خصما له، لأنه يقف في طريقه.

 

هذا البيت أفضل ختام لفصل الغزل في القصيدة، إذا يؤكد أنه لن ينسى الذكريات، ولن ينسى حياته القديمة، رغم حاضره الكئيب ومستقبله المجهول، بل يتشبث بها ويصر على عدم نسيانها.

 

يبدو من القصة والقصيدة الأخرى أن هذه العلاقة غير مشروعة، أو أنه حب ممنوع، كحياته التي حرمت عليه، وهناك من يعارض، ولهذا يلومه البعض على تعلقه بهذه الفتاة المسماة سلمى، وهم يلومونه بشدة كما يقول بنفسه: حريص على تعذاله غير مؤتل، حتى الفتاة قالت له أنه حبه لها غواية وأنها كانت متوجسة، ونلاحظ أنه يسمى من ينصحونه خصوما، لأنهم أصبحوا يقفون في وجه هذا الحب، وهذا بعينه عرض من عمايات الصبا التي كان يتكلم عنها منذ قليل.

 

كل الصفات التي ركز عليها تصف أثر النعمة ورفاهية حياتها والرقة المعهودة عند الأغنياء المتيسرين، جمال الطبقة التي ينتمي لها امرؤ القيس ورفيقته، فهو في الحقيقة يبكي على الوقت الطيب والحياة الملكية التي فقدها.

 

تشبه قصة الفتاة وحبها الممنوع قصة حياته، كلاهما ممنوعان عليه وحصل عليهما بالقوة رغما عن خصومه، وكلاهما مفقودان الآن، ويقف الجميع في وجهه حبه كما تقف الحياة ضد طموحاته الملكية، التي كان يستمتع بمزاياها والآن يتشبث بها وينكرها عليه العرب، لكن يؤكد أنه لن يتخلى عنها أبدا مهما عذله العاذلون ولن يتوقف حتى يتم له ما يريد.

 

في الأبيات السابقة، استأنس امرؤ القيس بذكرى حبيبته، ذكرته بحياته الملكية، لكنه عاد لحاضره البائس، وربما هاج حزنه بسبب هذه الذكريات، فبقدر جمال ماضيه يرى الآن خيبة أمله في الحاضر.

 

هذا التنافر بين البهجة ثم الحزن الشديد يعطي أثرا في النفس، فبضدها تتميز الأشياء، وهو من سمات هذه القصيدة، التقلب بين الحالات النفسية المتناقضة تبعا لتغير أحواله. 

 

أبيات القسم التالي كأنها إفاقة فجائية من الأحلام والذكريات، ليرى نفسه وحيدا في الليل، لا وجود لأي حبيبة ولا أصحاب في هذه الأبيات، فقط امرؤ القيس يحدث نفسه ويتملكه الجزع في الليل الأسود اللانهائي، الليل يهيج الأحزان خاصة إذا كان الإنسان يعيش حياة صعبة.

 

44- وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ … عَلَيَّ بِأَلْوَانِ الهُمُومِ لِيَبْتَلِي

 

وليل: يعني ورب ليل.
السدول: هي ما ينسدل أي يرخى للأسفل، أسدل شعره يعني أطاله وأرخاه، ويقصد به هنا الستائر.
يبتلي: تعني يختبر ما عندي من صبر.

 

هذا البيت من أشهر أبيات امرؤ القيس والشعر العربي، فيه تتجلى عبقرية امرؤ القيس التي جعلته أسطوريا حتى بعد كل هذا الزمن، شبه موجات القلق والهم المتتالية التي يقذفها عليه الليل بموج البحر

رب ليل أسود يجتاحه فيه القلق كموجات بحر، أرخى عليه ظلامه بأنواع الهموم التي أصابته في حربه كأنه يختبر صبره. 

 

45- فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ … وَأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

 

تمطى: مدد جسده مسترخيا متكاسلا.
صلبه: الصلب وسط الجسد.
أردف: والى أو جاء خلفه، وأردف الرجل وراءه، يعني جعله خلفه على الدابة.
أعجازا: مؤخرة الجسد.
ناء بكلكل: ناء ثقل عليه الوزن، الكلكل: هو صدر الجمل.

 


قال لليل عندما رآه كأنه جمل هائل يطبق على أنفاسه ولا يريد أن يتحرك إلا متثاقلا متململا، الوقت لا يكاد يمضي على امرؤ القيس، وإلى أن يتمطى الجمل الليلي ويمدد جسده ثم يرفع مؤخرته، وإلى أن يقوم متثاقلا بمقدمة صدره الثقيلة كما تقوم الجمال، سيكون صبر امرئ القيس قد نفذ، وسيكون يوم القيامة قد حل

ماذا قال لليل عندها؟

 

46- أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي … بِصُبْحٍ، وَمَا الإِصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ

 

ألا: حرف استفتاح للتنبيه، ويستعمل للتحضيض، أي طلب الشيء بإلحاح وحث، يعبر به عن قلة صبره.
انجلي: انكشف.
أمثل: يعني أفضل.

 

قال له اذهب أيها الليل الطويل وانكشف بنور الصباح، مع أن الصباح الذي يأتي من وراءك لن يكون أفضل منك.
يعبر عن جزعه وقلة صبره، أو عن ضيقه بهذا الليل الطويل الذي يتذكر فيه همومخ، فيناديه متأففا ليذهب ويتكشف بنور الصباح، ثم كأنه أدرك ألا فائدة، الصباح الذي سيأتي بعد هذا الليل لن يخرجه من همومه، ولن يكون حاله أفضل فيه،
كل يوم بالنسبة به هو تحد جديد تتكرر فيه كل مخاوفه وأحزانه، وهكذا عندما امتحن طول الليل وسواده صبر امرئ القيس، فشل في الامتحان وضاق صدره، وتمنى أن يزول بسرعة بضوء النهار.

47- فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ … بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

يا لك: أسلوب نداء يفيد التعجب، كما تقول، يا لك من ذكي: تتعجب من ذكاء من تخاطبه.
مغار الفتل: أي الحبال الشديدة المفتولة.
يذبل: جبل كبير معروف، هو أكبر جبل في منطقة نجد، ويمسى الآن: جبل صبحا.

 

يتعجب امرؤ القيس من طول ليله بصورة أخرى تدل على خياله الواسع وقدرته الفنية، ينظر إلى النجوم فوقه ويراها لا تتحرك، ويتخيل أنها مربوطة بكل أنواع الحبال القوية اللا مرئية بالجبل العملاق يذبل، فيثبت يذبل النجوم في مكانها، ويمنع الليل من الانقضاء. 

 

48- كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا … بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ

 

الثريا: هي كوكبة النجوم نفسها التي تكلمنا عنها في أبيات الحلقة السابقة.
في مصامها: في موضعها أو مكانها.
أمراس: جمع مَرَس وهو الحبل.
الكتان: هو النبات الذي تصنع من أليافه الأنسجة والحبال.
صم: الحجارة الصماء، هي المصمتة الشديدة.
جندل: هي الصخرة الكبيرة.

 

يرى نجوم الثريا ثابتة لا تتحرك ولا ينقضي الليل كأنها مربوطة بحبال ثقسبة إلى صخر أصم، هذه نجوم الثريا التي ذكرها بابتهاج عندما تمشي مع حبيبته تحتها في ذلك الخبت ذي القفاف العقنقل.

 فانظروا كيف تؤثر الحالة النفسية على وصفه للأشياء، منذ قليل كان يتذكر الثريا بابتهاج، والآن يتضايق منها، مع أنها لم تختلف، ما اختلف فقط هو مزاجه.

 

في الأبيات التالية يبدأ في وصف معاناته وتحركه في الليل في الصحراء الهائلة المقفرة ووصف خيبة أمله.

 

لم يورد الأصمعي هذه الأبيات وأوردها ابن الأنباري، ولي تعليق حولها سوف أقوله في آخرهذا القسم بعدما ننتهي من تناولها.

 

49- وَقِرْبَةِ أَقْوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَا … عَلَى كَاهِلٍ مِنِّي ذَلُولٍ مُرَحَّلِ

 

قربة: القرب في المكانة والمنزلة، نقول: يفعل هذا العمل قربة إلى الله، أي يتقرب به إلى الله.
عصامها: ما اعتصم به أي لجأ إليه واعتمد عليه.
الكاهل: كاهل القوم هو سندهم ومعتمدهم، ألقى على كاهله، معناها جعله مسؤولا عن كذا.
ذلول: أي ناقة سهلة الانقياد ومطيعة في السير.
مرحل: تعني إبل عليها رحالها، أي محمول فوقها أغراض المسافر.

 

ربما يكون هذا البيت قد فسر بطريقة غير واضحة، يقال إنه يضع قربة ماء على كاهله ليوصلها إلى أقوام، أو أنه افترض أنه يحكي عن صعلوك، وثبتها على جمله وهذا على اعتبار ان قِربة هي وعاء الماء أو أنه يحمل قربة ماء وهو يسير، ولكن المعنى يتسق تماما مع قُربة التي هي الرغبة في القرب والوصول إلى أقوام.

 

فمعنى البيت أنه كان يرتحل ويسافر في الصحراء طمعا في الوصول إلى أقوام لم يسمهم، ربما كانوا من أهله أو حلفاء أو قيصر الروم الذي نعرف أن امرء القيس ذهب له، وقد اعتمد في هذا على ناقته المذللة للسفر والمعتادة على الرحلات، وضع ثقته فيها لتقطع به هذه الصحاري الشاسعة.

 

50- وَوَادٍ كَجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ … بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالخَلِيعِ المُعَيِّلِ

 

جوف العير: العير هي حيوانات الركوب أو الحمير خاصة، جوف العير أي بطنه، وهو أملس وليس فيه ملامح، يعني يقصد واديا مقفرا مستويا ليس فيه معالم، من حجر ولا شجر يحميه من الشمس ولا العدو، كما لا يوجد فيه ماء يتزود به ولا سكان، مكان مقفر وبائس، يتماشى مع وضع امرئِ القيس.
قفر: مقفر ليس فيه نبات.
يعوي: العواء هو الصياح الطويل للكلب أو الذئب.
الخليع: هو الرجل الذي خلعته قبيلته وتبرأت منه فأصبح وحيدا متشردا.
المعيل: الذي له عيال عليه إطعامهم.

 

إكمالا لصورة البؤس، قال أنه يقطع واديا مهجورا قاحلا مكشوفا لا زرع فيه ولا ماء ولا مؤونة، سمع فيه صوت ذئب يعيش هو الآخر ظروفا صعبة مثله، يعوي بصوته الكئيب الجزع ويصيح على مصيبة ألمت به، عواء الذئب هو صوت كئيب بنوع خاص وله دلالته.

 

شبه هذا الذئب في وحدته وسوء حاله، بأنه كالصعاليك، وهم فئة مميزة من العرب لهم صورة ذهنية معينة يجب أن تتبادر إلى ذهنك عندما يقارنه بهم، وهم من الذين يرتكبون الجرائم فتخلعهم القبيلة وتتبرأ منهم، فيهيمون على وجوههم بلا قبيلة ولا ملجأ، وتكون حالتهم رثة بسبب معيشة التصعلك، وقد أصبح امرؤ القيس في هروبه من النعمان وتنقله بين أحياء العرب في حالة تشبه هؤلاء الصعاليك، مثل هذا الذئب الهزيل، الذي أضاف عليه امرؤ القيس حملا آخر وهو أنه معيل: أي له عيال لابد أن يسعى عليهم ويأتي لهم بالطعام في هذا الوادي المقفر.

 

51- فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا عَوَى إِنَّ شَأْنَنَا … قَلِيلُ الغِنَى إِنْ كُنْتَ لَمَّا تَمَوَّلِ

 

تمول: يعني أصبح ذا مال.

 

عندما عوى الذئب جزعا هو الآخر، التفت له امرؤ القيس محدثا نفسه ومحدثا الذئب:  أنا وأنت في وضع واحد، نفس البؤس وخيبة الأمل، وأن ما نفعله الآن قليل الغنى، أي هو بلا فائدة، لأننا أضعنا على أنفسنا الفرص، عندما كانت معنا الأموال أو وسائل القوة.

 

52- كِلَانَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئاً أَفَاتَهُ … وَمَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وَحَرْثَكَ يَهْزُلِ

 

أفاته: تعني ضيعه.
الحرث: هو تهيئة الأرض للزراعة، يقصد به ما يعده الرجل وما يتجهز به لإتمام أعماله، فيحترث معناه ما يقدم به من الأمور ليؤمن حياته.

 

كلانا لا يحسن تدبير أمور حياته، ونشترك في خيبة الأمل، كل منا إذا حصل على شيء أضاعه من بين يديه ،   ثم يندم، ومن يفعل فعلي وفعلك، لابد أن يجني خيبة الأمل، مصورة في هذا الهزال البادي على الذئب، وحال امرؤ القيس.

 

والآن نتحدث عن مسألة تخص هذه الأبيات الأربعة:

 

– قال بعض الرواة وأصحاب الكتب أن الأبيات الأربعة الأخيرة، التي تبدأ من قوله وقربة أقوام، ليست من معلقة امرئ القيس، وأنها لشاعر من الصعاليك يدعى ثبات بن جابر، تأبط شرا، وهو شاعر صعلوك معروف، لأنهم رأوها لا تتفق مع حالة الملوك، يقولون لا يمكن لملك أن يقول هذا الكلام.

 

حكموا أولا بسبب الصورة الذهنية التي وضعوها للشاعر، بما أنه أمير وابن ملوك، قالوا لا يمكن أن يقول هذا الكلام، وهي نظرة سطحية، لا تراعي أن الحياة عن انقلبت عليه كما يعرف من قصته وديوانه وتأمل هذه المعلقة نفسها، وليس بناء على النص الظاهر الذي أورده ابن الأنباري، وابن الأنباري هو لغوي له مكانته. وضع الناقد في ذهنه مسبقا أنه ملك منعم يلعب مع الفتيات، ثم رأى هذه الأبيات لا تنسجم مع الصورة، فقال إنها غير صحيحة.

ولكن، وهل كل الملوك يظلون منعمين طول حياتهم؟ وهل تستمر الحياة على حالها مع بني آدم؟

نحن أصلا لا نحتاج إلى التخمين، هذا التفسير يتجاهل قصة امرؤ القيس المعروفة تماما، والتي تشكل موضوع أغلب أشعاره، أن أباه قتل وأنه أصبح مطاردا من النعمان بن المنذر ولم يستطع احد مساعدته حتى اضطر للهروب خارج الجزيرة والاستعانة بملك الروم، ونعرف ان السمؤأل صديق امرئ القيس عوقب على إيواء بعض أهل امرؤ القيس بأن قتل أولاده، ويمكنكم أن ترجعوا قصة السمؤال، لهذا نعرف ان امرأ القيس عاش أياما عصيبة جدا، عبر عنها في هذه الأبيات.

 

حتى في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى كثيرة، ظل امرؤ القيس يبكي على تبدل حاله وفقد الملك والأصحاب، هذه الأبيات تعرض ندمه على تفويت الفرصة، ويخلص فيها إلى نتيجة أنه من يسلك هذا المسلك مثله ومثل هذا الذئب التعيس، لابد أن يصاب بالهم والهزال، فهي متسقة جدا جدا مع حزنه في المعلقة ومع ظروف امرؤ القيس، فهو رجل يصاب بالكآبة البالغة في ليله ولا يعلم ما الذي ينتظره في الصباح التالي.

 

– ثانيا: أورد ابن الانباري هذه الابيات في كتابه، شرح القصائد السبع الجاهليات، وهو رجل له مكانته، وهذا مما يقوي أصالتها، ولا يمكن إنكار هذا المصدر لمجرد ظنون. 

 

ثالثا: نسبة الأبيات لتأبط شرا غير ثابتة على الإطلاق، وهي لا توجد ضمن قصيدة ثابتة معروفة في ديوانه، بل هي تستند على حكاية انكارها في كتاب خزانة الأدب لأنها لا تليق بملك.

 

 في كتاب ديوان تأبط شرا للأستاذ علي ذو الفقار شاكر، نبه على قصيدة قال إنها قطع وأبيات متفرقة من قصيدة لم تحفظ، وقد اجتهد في ترتيب الأبيات من أماكن متفرقة ونبه على نسبة كل بيت، واجتهد في ترتيب الأبيات لأنه لا يعرف لها ترتيب واضح، ولما أتى لهذه الأبيات قال: هذه الأبيات جاءت مجتمعة وأشهر نسبتها لامرئ القيس.

 

ولا تتناسب هذه الأبيات مع طبيعة تأبط شرا، فهو صعلوك شرس لا يبدي ندما على شيء، وهو لم يكن يملك شيئا أصلا.

إذا هي لا تثبت لتأبط شرا، ثابت ابن جابر ، ولما كان من ضمن شعراء الصعاليك، وتكثر هذه المعاني في شعرهم، وربما لورود كلمة الخليع فيها، ألحقها بعضهم به، ويمكنك الرجوع لديوان تأبط شرا للأستاذ علي ذو الفقار شاكر، صفحة 167.

 

خلاصة القول: لا يمكن إنكار نسبة الأبيات لامرئ القيس، ونسبتها إلى تأبط شر أضعف بكثير من نسبتها لامرئ القيس.

 

في القسم التالي ترك امرؤ القيس الحديث عن الحاضر الذي لا يحبه، سئم من الاحزان ومن الحديث عنها، وسيعود إلى وصف ماضيه الجميل، ابتداء من هذه الأبيات وحتى آخر القصيدة.


من الواضح أن الحصان يحتل مكانة كبيرة جدا في قلب امرئ القيس، فقد أفرد له أجزاء طويلة في قصائد متعددة، ويصفه بطرق متنوعة، أحيانا يخصه في بعض القصائد بأوصاف لا يذكرها في غيرها.

ما ذكره امرؤ القيس عن الحصان يكفي أن يصبح مرجعا كبيرا في صفات الأحصنة العربية الأصيلة وطريقة جريها ووقفاتها وكلِّ ما يتعلق بها.

عادة ما يصف امرؤ القيس حصانه كوسيلة رفاهية وإمضاء للوقت، يستمتع بالفروسية ورحلات الصيد مع هذا الحيوان الجميل، لا يصفه كحصان حرب كما يفعل عنترة بن شداد، مع أنه يمكن له أن يكون حصان حرب بالطبع، ولكن امرأ القيس يصف حصانه دائما في سياقات السباق والصيد.

 

لماذا يقترن اسم امرئ القيس كثيرا بالحصان؟

 

الإجابة لأنه يعرفه جيدا ويتفنن في وصفه وصف الخبير الحاذق، غرض الوصف الفني هو خلق صورة في ذهن المستمع، ليشعر ويستمتع بالموضوع.

الشاعر والكاتب الجيد هو الذي يملك القدرة على الإمساك بالمشهد، ليس بصريا فقط بالحديث عن اللون والطول والهيئة، وهي الأشياء التي ترى بالعين، بل يتعدى ذلك وينقل لنا قوة اهتزاز الحصان وهو يجري، وحرارة جسده التي يشعر بها الفارس فوقه، وصوت الهواء عندما يحتك بوجه الفارس المسرع، ثم ملمس شعره الناعم وطريقة وقفته، ولا يفوت التفاصيل الدقيقة مثل مشهد ركل الأحصنة للأرض وإثارتها للغبار عندما تتوقف. 

الوصف الجيد هو الذي يخاطب كل الحواس، تشعر فيه بالحركة والملمس والصوت وحتى الرائحة مثلما ذكر رائحة القرنفل أو الحنظل سابقا، بالإضافة إلى ما تراه بالعين بالطبع، وهذا أمر يبرع فيه امرؤ القيس.

 

52- وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا … بِمُنْجَرِدٍ قَيْدَ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ

 

أغتدي: أخرج غدوة، أي في الصباح الباكر.
وكناتها: أعشاش الطيور، ووكن الطائر، أي استقر في عشه.
منجرد: أجرد الشعر أي محلوق.
قيد الأوابد: الأوابد هي الحيوانات البرية الوحشية، وأوابد الكلام هي غريبه،  قيد الأوابد: يقصد أنه يقيد الحيوانات البرية، فلا تفلت منه  وهذا من التشبيهات المبتكرة التي أتى بها امرؤ القيس.
هيكل: أي ضخم وصلب كالهيكل وهو المبنى الكبير: وهيكل الزرع، أي نما وطال.

 

يصف رحلات صيده، كان يخرج باكرا في الجو المنعش، قبل أن تشرق الشمس وقبل أن تخرج الطيور من أعشاشها، بحصانه المعتنى به جيدا، فقد حلق له شعره ليصبح نظيفا لامعا، وهذا الحصان ضخم وقوي، وسريع جدا بحيث أنه كالقيد أو الأصفاد في أقدام الحيوانات البرية، يكبلها فلا يمكنها الفرار منه، كأن الحيوانات مربوطة إليه ويستطيع جلبها في لحظة، لا فرق أن تكون بعيدة او قريبة لأنه سيأتي بها في لحظة واحدة.

 

53- مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً …  كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

 

مكر: كثير الكر وهو التقدم والهجوم.
مفر: كثير الفر: أي المناورة والتراجع في الوقت المناسب.
مقبل: يأتي من بعيد في اتجاهك.
مدبر: يتراجع إلى الخلف.
جلمود: الصخر الكبير الثقيل.

 

في هذا البيت الشهير، يصف سرعة المناورة وسلاسة حركة حصانه وقوته، بأبدع وأبلغ وصف ممكن، فهو يكر مهاجما للأمام ثم يفر متراجعا للخلف ويناور، يقبل ناحية طريدته ثم يدبر للخلف وكل ذلك في نفس الوقت، وليس معنى هذا كما حاول البعض إيضاحها بطريقة فيزيائية أن بعض أرجله تذهب للأمام وبعضها للخلف، المقصود هو وصف المناورة وسرعته البالغة في تبديل أوضاعه بما يناسب الموقف وتغيير اتجاهاته، كما يفعل ليونيل ميسي في كرة القدم، وكما يصفه المعلقون بأنه يتواجد في كل مكان في الملعب.

 

ثم يواصل وصفه، فهو ليس مناورا فقط، ولكنه يهجم بشكل مباغت وشديد القوة، فلا تقدر الطريدة على فعل أي شيء، يشبهه في هذا بالصخرة الكبيرة التي ينزلها السيل من أعلى الجبل، فتتدحرج فوق رؤوس الناس.

 عندما يحدث سيل قوي، تتدحرج أحيانا صخور كبيرة من أعلى الجبل وهي تتقافز، ترتطم بالأرض ثم ترتفع وترتطم ثانية، وبهذا تكتسح أي شيء يقف في طريقها، ولا توجد أي وسيلة لإيقافها، يقول امرؤ القيس إن حصانه ينحدر على حيوانات الصيد بهذه القوة الكاسحة، فلا يكون لها أمل بالفرار.

 

54- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ … كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ

 

كُمَيت: لونه بني محمر، أو أحمر يميل إلى السواد، وقد وردت هذه الكلمة أيضا في معلقة طرفة ليصف لون الخمر التي كان يشربها.
يزل: ينزلق.
اللبد: شعر الرقبة عند الحصان ويطلق أيضا على شعر الأسد.
المتن: ظهره وأكتافه.
الصفواء: الصخرة الناعمة الزلقة.
المتنزل: ماء المطر النازل.

 

 لون الحصان أحمر مشوب بسواد، وحركته شديدة، فعندما يتقافز في جريه، يرتفع شعر رقبته ثم ينزل مرتطما بظهره الناعم، ولا يثبت مكانه بسبب شدة الجري ونعومة ظهر الحصان الأصيل، بل ينزلق بنعومة وشكل جميل، كما ينزلق ماء المطر على ظهر الصخرة الملساء.

 

55- مِسَحٌّ إِذَا مِا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنَى … أَثَرْنَ الغُبَارَ بِالكَدِيدِ المُرَكَّلِ

 

مسح: مستمر في عدوه بلا توقف ، يجري جريا ناعما منسابا. كأنه ماء مصبوب.
السابحات: الخيل السابحات هي السريعة، سميت كذلك لأنها لا تكاد تلمس الأرض وهي تجري، فكأنها تسبح سباحة، وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم.
الونى: هو التعب.
الكديد: ما غلط من الأرض، الأرض المدكوكة من كثرة الحوافر والأقدام التي مرت فوقها.
المركل: الذي ركل كثيرا بالحوافر والأقدام.

 

لا تقارن سرعته حتى بأسرع الأحصنة الأخرى، عندما تبدأ غيره من الأحصنة السريعة في التعب وتتباطأ سرعتها فتثير الغبار، يستمر هو في الجري بلا توقف.

 

لكي نفهم هذا البيت بصورة أدق نحتاج أن نفهم وصف السابحات، عندما تكون الخيل سريعة جدا، فإن حوافرها لا تكاد تلمس الأرض، فلا تثير الغبار تحتها، وحينها توصف بأنها سابحة، ولكن طبيعة الأحصنة هي أنها لا تستمر لوقت طويل على السرعة العالية، لأنها تتعب وتعرق وتحتاج للراحة، وعندما تبطئ سرعتها، تحتك حوافرها بالأرض وحينها لا يسمى جريها سباحة، وتبدأ في إثارة الغبار، وهذا ما يقصده هنا، أن بقية الأحصنة السابحة تعبت وبدأت تقف بينما يستمر حصانه مسحا كالماء الجاري.

 

56- عَلَى الذَّبْلِ جَيَّاشٌ كَأَنَّ اهْتِزَامَهُ … إِذَا جَاشَ فِيهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَلِ

 

الذبل: ذابل تعني ضامر الجسد، لا يقصد صفة معيبة، ولكن يقصد أنه رشيق وخفيف الوزن، وهذه من صفات الخيول العربية، لأنها تكون أصغر حجما وأكثر رشاقة من الفصائل الأخرى.
جياش: هائج، نقول جاشت العواطف يعني اضطربت وهاجت.
اهتزامه: صوت جوفه عند الجري، وهزم الرعد أي أزَّ وصوت بقوة.
حميه: اشتداد حرارته، والحميم هو الماء المغلي.
مرجل: القدر الذي يغلي فيه الماء. 

 

رغم ضموره فهو رشيق مثل كل الأحصنة العربية ومفعم بالطاقة، تسمع صوت جوفه وتشعر بحرارته عندما يجري، كأن مرجلا يغلي تحت فارسه، هذا يشبه ما يحدث في عصرنا الحالي إذا كنت تقود سيارة وتشعر بقوة المحرك تحت قدميك، تشعر به وتثق في قوة سيارتك، هذا هو ما يصفه امرؤ القيس مع حصانه.

 

57- يَزِلُّ الغُلَامُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ … وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ

 

يزل: ينزلق.
الغلام الخف: أي خفيف الوزن.
صهواته: المكان الذي يوضع عليه السرج فوق ظهر الفرس، وصهوة كل شيء أعلاه.

 

بسبب عنف حركته وشدة سرعته عندما يقابل الهواء،  ينزلق الطفل الخفيف عنه ويسقط، لأنه لا يقدر تثبيت نفسه فوق هذا الوحش، أما الكبير ثقيل الوزن، الذي وصفه بأنه عنيف، لأنه يعتمد على القوة دون المهارة، فلا ينزلق بسبب وزنه فقط، ولكنه لا يستطيع تثبيت ملابسه فيطيح بها الهواء في كل جانب، لأن هذا الحصان القوي يحتاج فارسا يجاريه.

 

وقد هؤلاء الذين لا يعرفون ركوب الخيل لتعرف أن امرأ القيس ليس مثلهم، فهو يمتدح نفسه في هذا البيت، الحصان يحتاج لفارس مقتدر مثل امرئ القيس نفسه، يتحكم فيه بقدرة، لا ينزلق كالناشئين ولا يضطرب ويبدو مضحكا كالعنيفين. 

 

58- دَرِيرٍ كَخُذْرَوفِ الوَلِيدِ أَمَرَّهُ … تَتَابُعُ كَفَّيْهِ بِخَيْطٍ مُوَصَّلِ

 

درير: الدرة في المطر أن يتبع بعضه بعضا، نقول مطر مدرار، درير تعني متتابع الجري، لا يتوقف.
خذروف الوليد: الوليد هو الطفل، يقصد لعبة للأطفال كنا نلعبها، هي عود أو خشبة أو قطعة معدن أو أي شيء ثقيل وله فتحة في الوسط، يمرر منها الخيط، ويمسكن من الجهتين وندوره فيدور بسرعة ويحدث صوتا، من احتكاك الهواء، مثل الأزيز ززز ززز   

والخذروف ليس هو ما نطلق عليه النحلة في مصر، فهي لا تنطبق على وصفه في الكتب، لأن حبل النحلة التي لا يصنع أي صوت ولا يدور أصلا، وظيفته هو تدوير النحلة فقط.

يقول إن حصانه متواصل الجري، يسمع الفارس في أذنه صوت الهواء كصوت لعبة الخذروف، بسبب السرعة الشديدة، وقد فصل في وصف الخذروف أنه موصل، أي انقطع حبله فوصله الطفل أصبح له عقد، وهذه العقد تزيد من صوت الخذروف عندما يدور في الهواء.

وهكذا أنت تحصل على صورة كاملة لهذا الحصان، وصف الاهتزازات والآن حتى صوت الهواء في الأذن.

59- لَهَ أَيْطَلَا ظَبْيٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ … وَإِرْخَاءُ سِرْحَانٍ وَتَقْرِيبِ تَتْفُلِ

أيطلا ظبي: خاصرتاه، جوانب الحيوان، ما بين الضلوع إلى الوركين، وهي تظهر رشاقة هذه الحيوانات.
إرخاء سرحان: السرحان هو الذئب، والإرخاء هو المشي غير السريع يرخي فيه جسده، قالوا الذئب هو أجمل الحيوانات ارخاء في مشيته البطيئة.
تقريب تتفل: التتفل، هو الثعلب الصغير، وهو يرفع قدميه معا ويضعهما معا عندما يجري، وعندما يعدو الفرس بسرعة يفعل مثله، فيقال يعدو الثعلبية، وقيل أيضا، تقترب قوائمه الأمامية والخلفية من بعضها جدا عند الجري.

 

 اختار امرؤ القيس لحصانه أفضل الصفات الجسدية من كل حيوان عربي، ووضعها في حصانه.

خاصرته كخاصرة الظبي الرشيقة، مع سيقان كسيقان النعام الرفيعة والقوية، مع مشية كمشية الذئب المسترخية عندما يمشي بطيئا ثم التسارع المتناسق مثلما يفعل صغير الثعلب.

 

60- ضَلِيعٍ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَهُ … بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ

 

ضليع: تعني أضلاعه بارزة قوي، منطقة الصدر والأضلاع كبيرة لأنه يجري كثيرا.
استدبرته: يعني إذا نظرت له من الوراء.
ضاف: سابغ، تعني غزير الشعر.
فويق: تصغير فوق، أي يصل طوله إلى فوق الأرض بقليل.
أعزل: عار من الشعر.

 

يصف خلقته بأنها جميلة ومتناسقة، صدره عريض يمكنه من الجري، ويجعله قادرا على الجري بقوة، وإذا نظرت إليه من الخلف رأيت ذيله الطويل ممتدا إلى ما فوق الأرض بقليل، يكاد شعر ذيله يلامس الأرض، وليس بأعزل، يعني أن الذيل غزير الشعر ومتناسق، ويكره في الحصان أن يكون ذيله قبيحا أو مائلا نحو جهة، فلا يغطي فرج الحيوان، ويكره أن يطول حتى يلامس الأرض والتراب. 

 

61- كَأَنَّ عَلَى المَتْنَيْنِ مِنْهُ إِذَا انْتَحَى … مَدَاكُ عَرُوسٍ أَوْ صَلَايَةُ حَنْظَلِ

 

المتنين: الأكتاف وأعلى الظهر.
إذا انتحى: إذا مال جانبا.
مداك عروس: تلمع مثل المداك التي يدك على الطيب، التي تستعملها العروس المتزوجة حديثا، لدك أو طحن الطيب، ولأنها عروس، فالمبخرة جديدة وتلمع.
صلاية حنظل: الصلاية: التي يدق عليها الطيب، مثل الحجر الذي تسحق به التوابل والأعشاب، قالوا عندما تنضج ثمرة الحنظل وتدق، يصبح لونها أصفر شديد اللمعان، كأنها تبرق.

 

في هذا البيت يركز على ملاسة ظهره ولمعان، دليل على كرم أصله والاهتمام به، وربما تمشيط شعره بالزيوت، وهذا يظهر أصالة الحصان وحصوله على الرعاية من امرئ القيس، ويقارنه بأشاء من البيئة العربية، الأواني الجديدة للعروس المتزوجة حديثا أو المدق الذي تسحق به حبة الحنظل.

 

62- كَأَنَّ دِمَاءَ الهَادِيَاتِ بِنَحْرِهِ … عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ

 

الهاديات: الأبقار المتقدمة القائدة للقطيع، التي تهدي القطيع للطريق.
نحره: هو الرقبة، ويقصد بها أصلا مكان الذبح.
شيب مرجل: شيب يعني رجل كبير، مرجل، يعني يرتب شعره أو يسرحه.

 

يعجب امرؤ القيس بحصانة غاية الإعجاب، وبمنظر دم حيوانات الصيد المقتولة يزين رقبة حصانه، وليس أي حيوانات، فهو لا يصطاد به إلا الهاديات، أقوى الثيران القائدة للقطيع، يبدو دمها على رقبة الحصان وهو واقف كأنه حناء تزين شيخا كبيرا ذو هيبة وقد رجل بها شعره.

 

ماذا يفعل امرؤ القيس بهذا الحصان؟ يخرج به في رحلات صيد.

في قسم الأبيات التالي انتقل للتكلم عن ذكرياته عن رحلة صيد قام بها على هذا الحصان الأسطوري ثم قضاء اليوم في الشواء من لحوم صيدهم.

ونلاحظ في وصفه للصيد، أنه يتم بطريقة لحظية في غاية السهولة على ظهر حصانه الخارق، مع أن بقر المها قوي وصيده ليس سهلا، الشعراء الآخرون يصفون قوته ومقاومته وقتله لكلاب الصيد بقرونه الحادة القوية بشكل خاص، ولكن ليس امرؤ القيس، حصانه يصطادها بمنتهى السهولة كما لو أن الحيوانات لا تتحرك بالنسبة له، أو  كما عبر هو بنفسه، كأن حصانه قيد للأوابد. 

يقول:

63- فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ … عَذَارَى دَوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلِ

 

عَن لنا: ظهر لها واعترض طريقنا، وعن له الأمر أي بدا وظهر.
نعاجه: أي إناثه.
عذارى دوار: فتيات تدور حول صنم من أصنام الجاهلية.
ملاء مذيل: ملاءات قماشية، يعني قطع القماش أو المسوح التي تضعها الفتيات فوق ملابسها و يكون لها ذيل على الأرض.

 

يقول، فظهر لهم سرب من بقر المها العربي، لونه أبيض مختلطة بقليل من السواد، تبدو الإناث فيه من بعيد بذيولها الممتدة كأنها الفتيات اللاتي يلبسن المسوح البيضاء ويدورون حول صنم من أصنام العرب.

 

64- فَأَدْبَرْنَ كَالجَزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ … بِجِيدِ مُعَمٍّ فِي العَشِيرَةِ مُخْوَلِ

 

أدبرن: تراجعن.
الجزع: هو نوع من العقيق أو الخرز اليماني ويكون سائره أبيض وأطرافه سوداء، مثل صفة لون بقر المها.
المفصل بينه: الذي فصل بينه باللؤلؤ.
الجيد: العنق.
معم ومخول: أي طفل له أعمام وأخوال كثيرون.

 

عندما رأى سرب المها الصيادين تراجع هاربا، ورأى امرئ القيس السرب كأنه عقد من العقيق الأبيض والأسود مفروش على الأرض، لون الأبقار أبيض وأقدامها سوداء، وبين الأبقار مسافات خالية شبهها كأنها اللؤلؤ المفصل بين حبات العقد، ويزداد امرؤ القيس في التصوير فيقول أن هذا العقد من العقيق واللؤلؤ لطفل له أعمام وأخوال كثيرون، كرام من عيلة القوم،  أي طفل لأغنياء، لهذا وضعوا له مثل هذا العقد على جيده. 

يمكننا أن نخمن أن امرأ القيس رأى هذا العقد فعلا في حياته على رقبة طفل وعلق المشهد في رأسه، وعندما شاهد سرب المها ربط بين وبين ذلك العقد فقعد لنا هذه المقارنة.

 

65- فَأَلْحَقَنَا بِالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ … جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ

 

الهاديات: قلنا إنها البقر المتقدم الذي يهدي القطيع أي يقوده.
جواحر: الجواحر من الحيوانات، المتأخرة، الراكدة في مكانها أو التي دخلت جحرها.
صرة: بفتح الصاد: الجماعة.
تزيل: لم تتفرق.

 

هنا يصور سرعة عملية الصيد، ففي لحظة خاطفة، انقض حصانه الذي يحط كجلمود الصخر من عل، والذي هو قيد للأوابد، على قائدات القطيع المتقدمات، فلكي يرضي امرؤ القيس غروره، لن يرضى إلا بقتل أقوى أبقار القطيع، لحق بها في مقدمة القطيع وقتلها، وترك بقية القطيع خلفه، وقد انتهى الأمر في لحظات حتى أن بقية البقر لم تنتبه ولم تبدأ حتى في الجري، وما زالوا مجتمعين كما هم، لا يفهمون ما حدث، لم ينتبهوا أن المتقدمات في قطيعهم قد صيدت. 

 

66- فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ … دِرَاكاً وَلَمْ يُنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ

 

عادى: عادى بين اثنين، تابع بينهما، يضرب هذا ثم يضرب هذا.
دراكا: لحاقا ومتابعة.
ينضح: لم يرشح بماء، لم يعرق.

 

يقول أنه عاد ثانية للقطيع وأدركه، واستمر في الصيد، يجرى سريعا بين الأبقار والنعاج، يصيد هذه ويقتل هذه، يدركها بسرعة، فيصيد الصياد منها، وانتهى كل هذا قبل أن يعرق الحصان، حتى انهم بعد الصيد لم يجدوا حاجة لغسل الحصان ولا تنظيفه، عملية الصيد كللها لم تستغرق اكثر من دقائق، وكل هذا تصوير للسرعة والدقة الأسطورية لهذا الحصان، ومهارة فارسه بالتأكيد.

 

في قصيدة أخرى قال: فأدركهن ثانيا من عنانه  …  يمر كمر الرائح المتحلب

وفي قصيدة ثالثة قال: وأدركهن ثانيا من عنانه   …   كغيث العشي الأقهب المتودق

 

أي أنه قتل الهاديات في أول ضربة ثم عاد للقطيع وأدركه أي لحق بهم مرة ثانية وقتل عددا آخر، أي أنه صاد منهم على مرتين.

 

67- فَظَلَّ شُوَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ … صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ

 

صفيف شواء: أي لحم وضع صفوفا ليشوى.
قدير معجل: أي لحم وضع في قدور ليغلي في الماء لينضج بسرعة.

 

بعد هذه المجزرة والصيد جلسوا للراحة، فيما كان الخدم يقومون بإعداد اللحم للأكل، قسموه قسمين، بعضه وضع صفوفا لتشوى على الجمر وهذه ربما تأخذ وقتا لإعدادها، ولمن أراد أن يأكل بسرعة ولن يصبر على الشواء، وضعوا بعضا من اللحم في قدور لتغلي وتخرج معجلة. 

 

ثم يكمل:

68-وَرُحْنَا يَكَادُ الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُونَهُ … مَتَى مَا تَرَقَّى العَيْنُ فِيهِ تَسَهَّلِ

 

الطرف: النظر.
يقصر: يعني يقتصر عليه لوحده، قاطرات الطرف، هم الفتيات العفيفات اللاتي لا تنظرن لأحد.
ترقى العين: يصعد فيه النظر، أي ينظر إليه من الأسفل للأعلى ويتملى فيه.

 

بينما كان الخدم يقومون بالشوي والتحضير، أخذ هو يتأمل في جمال حصانه، فلم ينته إعجابه به بعد، يبدو أنه كان جالسا وهو رائق المزاج يرفع نظره لحصانه الواقف أمامه، والحصان يكاد يستحوذ على كل المنظر، لا يهتم امرؤ القيس بشيء آخر، وكلما نظر ورفع عينه ازداد اعجابه من جمال ما يرى. 

 

69- فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلِجَامُهُ … وَبَاتَ بِعَيْنِي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ

 

سرجه: ما يوضع على ظهر الحصان ليجلس عليه الفارس.
لجامه: اللجام، السيور التي يشد بها فم الحصان ووجهه.

 

لا يترك امرؤ القيس هذا الحصان يغيب عن ناظره، لشدة تعلقه به وحرصه عليه، ولم يتركه يرعى بعيدا عنه، فيكون مجهزا بسرجه ولجامه طول الوقت، لينطلق به في أي لحظة لأي سبب.

 

في آخر مجموعة من الأبيات يواصل امرؤ القيس سرد ذكريات حياته الجميلة،هذه المرة، مصدر الذكريات هو مشهد الأمطار الغزيرة التي تسقط على أنحاء من جزيرة العرب فتبعث فيها الحياة بعد الجدب، وتكسو الأرض بحلة خضراء، هل يقصد بذلك أمله في حياة جميلة يأمل فيها بعد المعاناة التي يعيشها؟ ربما

 

 المطر والبرية من أكثر الأجواء التي تثير انشراح الصدر والراحة النفسية، لا يوجد ما هو أجمل من رائحة المطر لإنعاش روح العربي الذي أرهقته حرارة الشمس، أما البرية فهي تساعد على أن يختلي المرء بنفسه ليراجع أفكاره ويتأمل.

 

 الحياة البدوية الطلقة هي أصلا من أسباب جمال الشعر العربي الجاهلي، كانت معيشتهم بسيطة، يتأملون السماء الواسعة والصحاري والجبال، ما ساعدهم على التأمل وخَلًق الحالة النفسية الي جعلتهم يعبرون عن انفسهم، لم يكونوا مكدسين في المدن وإزعاجها وتشتيتها وتعقيدات الحياة الحديثة مثلما نعيش الآن.

 

ملاحظة مهمة في هذه الأبيات لنفهمها جيدا.

 

سيتكلم امرؤ القيس عن أماكن متباعدة، وقالوا لا يمكن أن يتواجد فيها في نفس الوقت أو أن يتنقل بينها بسرعة، لأن جزيرة العرب واسعة جدا، ربما يتعمد الإكثار من ذكر الأسماء بلاده ليستحضرها في ذهنه، ويصر على عدم نسيانها.

 

يروي الشاعر تفاصيل الأماكن من ذاكرته، مشاهد السحب والمطر والسيول، ذهب إلى كل مكان على حدة في وقت مختلف، ويملك ذكرى في كل منها، الشيء المشترك بينها أنه يتذكرها ويحن لها جميعا.

 

وقد رتبها كما لو أنها أحداث يوم واحد، بدأ مع أصحابه بمراقبة السحاب الكثيف ليلا، والذي ينير برقه الأجواء، وصف كيف أطال النظر وتأمل في منظر الأمطار، ثم في اليوم التالي تحدث عن السيول وهي تغرق الأماكن المتعددة، وختم بمشهد اخضرار الأرض ونمو الثمر وزقزقة العصافير وهي تتناول الرحيق وفي النهاية ذكر الليل التالي وكيف تتعثر الحيوانات وتنغرس أقدامها في المطر والطين، وضع جدولا زمنيا للأحداث بتتابعها كما لو أنها يوم واحد، مع أنها حدثت في أماكن متباعدة.

 

 قال الشاعر:

70- أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيضَهُ … كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ

 

أصاح: الهمزة للنداء، مثل يا، صاح: هي كلمة صاحبي، ولكن حذف منها الحرف الأخير، وهذا الأسلوب يسمى الترخيم، وهو حذف آخر حرف من الاسم عند النداء، ويكون غرضه التحبب أو التلطف في الحديث، فالمعنى: يا صاحبي ، وهذه هي المرة الثانية في المعلقة التي يستخدم فيها هذا الأسلوب، النداء بالهمزة مع الترخيم، في أول المعلقة قال، أفاطم مهلا بعض هذا التدلل.
وميضه: أي لمعان الضوء.
لمع اليدين: حركة اليدين عن تقليبهما بسرعة، ولمع الطائر، أي خفق جناحية بقوة.
حبي: هو السحاب المتراكم فوق بعضه والثقيل الذي يقترب كثيرا من الأرض، الحباء هو ما يكرم به الرجل صاحبه، ربما سُمي السحاب الثقيل هكذا لأنه يأتي بكثير من الخير.
مكلل: كلل الشيء، أحاط به وعلاه، الإكليل هو التاج الذي يغطي الرأس، فالمعنى، سحاب كثيف بعضه فوق بعض.

بدأ بدعوة أصحابه إلى رؤية السحاب الكثيف المتراكم الذي يبرق بقوة، مما يعني أن أمطارا غزيرة ستهطل عليهم، وناداهم تحببا بأصاح، بما يدل على حالة الابتهاج والفرحة التي كان يعيشها في تلك الأوقات، وشبه وميض وسرعة البرق الخاطف في السحاب المكلل الكثيف، بحركة اليد السريعة كأنك تضرب بالسوط.

 

71- يُضِيءُ سَنَاهُ، أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ … أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذُّبَالِ المُفَتَّلِ

 

سناه: أعلاه وقمته، يضيء البرق أعلى السحاب فيظهر ضخامته.
أهان: يقصد بها هنا أرخى.
السليط: هو الزيت، وكما علمت من الإخوة، فمازالت الكلمة تستعل بنفس المعنى في بلاد اليمن.
الذبال المفتل: الذبال هو فتيلة المصباح، ومفتل أي مصنوع بفتيلة مشدودة.

يصف لمعان البرق بصورة أخرى: فهو يضيء قمم السحاب، أو هو مثل الفتيل الذي يوقده الراهب ليضيء به ظلام الليل، البرق رفيع ومرتعش مثل الفتيل المتراقص في الظلام، ولهذا فهي صورة دقيقة جدا.

للمرة الثانية في المعلقة يذكر امرؤ القيس ضوء الرهبان، ويذكر الرهبان المتبتلين، في وسط المعلقة قال تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل، وقد ذكره في قصائد أخرى أيضا.

72- قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتِي بَيْنَ ضَارِجٍ … وَبَيْنَ العُذَيْبِ بُعْدَ مَا مُتَأَمَّلِي

 

ضارج والعذيب: هما موضعان في حدود مدينة بريدة الحالية في محافظة القصيم الحالية.
بعد ما متأملي: ما أبعد ما تأملت فيه.

 

يقول أنه كان مع أصحابه في موضع بين العذيب وضارج، كانوا هناك وراقبوا السحاب، فتن امرؤ القيس بمنظر السحاب، فقعد كثيرا يتأمل وينظر من بعيد لهذه البروق التي تشق السماء بضوءها الباهر.

 

73- عَلَى قَطَناً بِالشِّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ … وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُلِ

 

قطن: هو اسم جبل: قالوا هو جبل أحمر في موضع يسمى الآن عقلة الصقور في محافظة القصيم.
الشيم: هو مراقبة السحب والبرق من بعيد والنظر لها لمعرفة أين تذهب، وهذه من المهارات الأساسية لحياة العرب الذين يعتمد أغلبهم على الرعي.
صوبه: هطوله
الستار ويذبل: جبال، الستار: يطلق على أماكن عديدة عند العرب، أقربها إلى الموضع الذي يتحدث عنه، جبل يقع في منقطة القويعية الحالية.

 

 يذبل هو نفس الجبل الكبير الذي ذكره من قبل عندما قال: (فيالك من ليل كأن نجومه  … بكل مغار الفتل شدت بيذبل)

 

هنا يخمن الأماكن التي هطل عليها المطر من معرفته السابقة من غير أن يكون فيها لأنها بعيدة، ويحدد المنطقة التي تهطل عليها الأمطار بأنها البلاد التي تمد إلى اليمين حتى جبل قطن الذي علاه المطر، ثم في اتجاه اليسار حتى جبلي الستار و جبل يذبل.

 

74-فَأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ … يَكُبُّ عَلَى الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ

 

 

أضحى: أي حدث وقت الضحى، وهو ما قبل الظهر.
يسح: أي يصب الماء، وقد ذكرها عندما وصف حصانه في الحلقة الماضية بانه مسح
الكتيفة: جبل صغير يعترض طريق الماء، كأنه كتف صغير.
يكب على الأذقان: تعبير بمعنى يسقطه سقطة عنيفة، كأنما أسقط الرجل ليرتطم ذقنه بالأرض.
دوح: هو الشجر الكبير، ومنه اشتق اسم مدينة الدوحة الحالية.
الكنهبل: نوع من الشجر الكبير، يسمى الطلح أو الطلع.

 

في اليوم التالي، وعندما جاء وقت الضحى، كان ماء المطر قد ارتفع، وكون سيولا انحرفت من الجبال، اقتلعت أشجار الطلح الكبيرة من جذورها وقلبتها على الأرض، ومثل هذه السيول القوية تحدث في جزيرة العرب وتكون خطيرة وتسبب الوفيات أحيانا.

 

75- وَمَرَّ عَلَى القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهَ … فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ

 

القنان: جبل في الشمال الغربي من القصيم: يسمى الآن: الموشم.
نفيانه: ما فاض من مجتمع السيل.
العصم: هي الوعول البرية، وهي حيوانات جبلية من فصيلة الماعز، سميت كذلك لأنها تعتصم بالجبال فلا يمكن إنزالها.

 

ثم مر الماء الفائض من السيل على الجبل المسمى بالقنان، فغمره، المطر يغرق الجبل من الأعلى والسيل يضرب جوانبه، فأجبرت الوعول البرية التي تتحصن به أن تنزل وتهرب بحياتها من كل فتحة أو شق في الجبل، وهذه الوعول لا تنزل أبدا في العادة، لكن قوة الماء أجبرتها. 

 

76- وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ … وَلَا أُطُماً إِلَّا مَشِيداً بِجَنْدَلِ

 

تيماء: مدينة تقع بين المدينة المنورة وتبوك، وتعرف إلى الآن بنفس الاسم.
الأطم: هي كل بناء له سقف، وأطَّم البناء، علاه ورفعه.
مشيدا بجندل: تعني مبنيا من الحجارة، الجندل هي الحجارة.

 

وفي تيماء، وهي مكان ما زال معروفا بنفس الاسم اكتسح السيل كل ما في طريقه، ولم يترك فيها شيئا قائما، دمر النخيل وبيوت الناس المسقوفة، ولم يقف أمامه إلا البيوت المشيدة بالجندل أي الحجارة، وفي تلك الأزمان كان بناء البيوت بالحجارة شيئا نادرا، فدمر المطر بيوت الناس ونقض سقوفها على رؤوسهم.

77- كَأَنَّ أَبَاناً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ …  كَبُيرُ أُنَاسٍ فِي بِجِادٍ مُزَمَّلِ

 

أبان: جبل في منطقة القصيم يقع غرب مدينة الرس الحالية.
العرانين: أول كل شيء.
الوبل: المطر المتتابع الذي يغمر الأرض.
البجاد: نوع من الثياب المخططة، أو هو الكساء المخطط.
مزمل: تعني ملتف به، في القرآن الكريم يا أيها المزمل: الذي يلف نفسه بالثياب.

 

عندما هطلت الامطار على سفح جبل أبان، صنعت مثل الأخاديد أو القنوات المنحدرة على سفوحه، فبدا شكل الجبل مخططا، فبدا لامرؤ القيس كرجل كبير هائل بردان يلتف بالبجاد وهو ثوب المخطط، فتأملوا خصوبة خيال امرؤ القيس. 

 

78- كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً … مِنَ السَّيْلِ وَالغُثَّاءِ فُلْكَةُ مِغْزَلِ 

 

ذرى: جمع ذروة أي قمة.
المجيمر: جبل أسود صغير ما زال محتفظا باسمه في منطقة القصيم.
الغثاء: هو ما يحمله السيل من الركام وحطام الأشجار والأوراق والقاذورات والرغوة البيضاء التي كزبد البحر.
فلكة المغزل: هي قطعة الخشب المدورة التي تكون في أعلى مغزل الصوف.

 

هنا يصف شكل جبل صغير يسمى المجيمر بوصف آخر يدل على خصوبة خياله المبدع:

رأى الجبل الصغير و قد اجتمعت تحت قمته قاذورات السيول والزبد الأبيض وما تحمله من أخشاب وأوراق، فتخيل أنها خشبة المغزل وتحتها الصوف الأبيض، وهذه المرة الثانية في المعلقة التي يستدعي صورة للغزل والنسيج، في أول المعلقة وصف تناوب الريح بأنها كالنسيج، تتحرك جيئة وذهابا.

 

ثم يكمل

79- وَأَلْقَى بِصَحْرَاءِ الغَبِيطِ بَعَاعَهُ … نُزُولَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ

 

صحراء الغبيط: اسم مكان: والغبيط أيضا هو الأرض الواسعة المنخفضة، والتي يتجمع فيها المطر في نهاية الأمر.
بعاعه: البعاع هي البضاعة التي يحملها التاجر.
العياب: هو وعاء من خوص أو من جلد، يوضع فيه الثياب وأمتعة المسافر.

 

ألقى السيل حمولته من الماء في صحراء الغبيط كما يلقي التاجر اليماني بضاعته الثقيلة المزركشة الملونة في السوق، هذا الماء هو ما سيبعث الحياة في البادية العربية، وستكتسي الصحراء باللون الأخضر، وستتفتح أنواع الأزهار بكل الألوان، فقد نشر الماء الألوان في الصحراء كما ينشر التاجر اليماني أثوابه المزركشة الملونة.

 

80- كَأَنَّ مَكَاكِيَّ الجُوَاءِ غُدَيَّةً …  صُبِحْنَ سُلَافاً مِنْ رَحِيقٍ مُفَلْفَلٍ

 

مكاكي: جمع المكاء، وهو عصفور مغرد صغير، والجواء مكان، ذكره عنترة بن شداد أيضا في معلقته.
صبحن: أي شربت شرب الصباح.
السلاف: أول ما يخرج من قربة الخمر.
رحيق: الخمر الصافية والنقية.
المفلفل: المبهر، الذي أضيف له البهارات.

 

يصف مشهد انبعاث الحياة في الصحراء بعد المطر وتغني العصافير بالأجواء السعيدة، كأنها شارب خمر مترنم سعيد، شرب حتى النشوة من أفضل الخمور المبهرة، فالأجواء سعيدة والعصافير منتشية كأنها شربت في الصباح أفضل الخمور الذي لعبت برأسها.  

 

81- كَأَنَّ السِّبَاعَ فِيهِ غَرْقَى عَشِيَّةً   …  بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيشُ عُنْصَلِ 

 

السباع: الحيوانات البرية الجارحة.
الأرجاء القصوى: النواحي البعيدة، أي أنه ينظر للحيوانات من بعيد.
أنابيش: من نبش، نبات كالبصل ينمو مغروسا في الأرض، سمي كذلك لأنه يُنبش ويستخرج.
عنصل: بصل العنصل، هو نوع البصل البري الحامض، ويزرع الآن كنبات زينة.

 

انتبه امرؤ القيس أيضا للسباع البرية في الصحراء، وهي تمشي مغروسة في الطين والماء، أرجلها كجذور النبات في الأرض، وجسدها في الهواء كالأوراق، فتبدو له من بعيد عندما ينظر إليها كالنباتات المغروسة في الأرض.

 

حول المطر الأرجاء إلى برك من الماء والوحل فانغرست فيه أقدام السباع البرية وأصبحت كالبصل، نصفها مغروس في الطين ونصفها فوقه.

 

هذا هو البيت الأخير، ونكون قد انتهينا من القراءة البسيطة لمعلقة امرئ القيس، أرجو أن أكون قد وفقت في عرضها عليكم بطريقة تساعدنا على الاهتمام بتراثنا العربي الأصيل، وشكرا لكم. 

 

 

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى