شرح القصائد

شرح عينية سويد ابن أبي كاهل – بَسَطت رابعة الحبل لنا

شرح قصيدة بسطت رابعة الحبل لنا.

عينية سويد بن أبي كاهل اليشكري هي واحدة من روائع اللغة العربية، وهي أطول قصيدة في ديوان المفضليات، تميزت ببلاغة عالية وقدرة كبيرة من الشاعر على إطالة الوصف الذي لا يمكل، سوف نشرحها بشكل مبسط مع معاني الأبيات، ونتعرف أولا على سبب إنشاء القصيدة لنفهم معناها بشكل أفضل.

 

سبب إنشاء القصيدة

سبب إنشاء هذه القصيدة كما يظهر من تأملها وتأمل قصة الشاعر، هو خلاف حدث بينه وبين بعض أولاد عمه داخل قبيلة بكر.

 

سويد بن أبي كاهل من بني يشكر من قبيلة بكر بن وائل، وخصمه من بني أعمامه بني شيبان بن بكر، حدث بينهم خلاف أو أساؤوا جواره فهجا بعضهم بعضا، وعلى إثر ذلك حُبس سويد ورجل من بني شيبان وفرضت عليهما غرامة، حدث هذا في أواخر حياة الشاعر بعدما كبرت سنه كثيرا في عصر الدولة الأموية، وعلى إثر هذا الخلاف ترك سويد المكان ولم يرد الإقامة معهم فيه.

 

تسلسل أفكار القصيدة

 

 يحب الشاعر بلاده وقبيلته ويمدحها كثيرا، ويحكي عن اشتياقه للذهاب لهم، لكن هذا الخلاف والإهانة التي لحقت به لا تترك له متسعا للإقامة معهم، يرد على أعدائه ويذكر حسدهم له وترديدهم للكلام الذي يسيء له، ويصف كيف وقف أمامهم وجادلهم وأثبت علو مكانته عليه قبل أن يرحل مرفوع الرأس، هذه هي الفكرة العامة التي تدور حولها هذه القصيدة.

 

البداية بالغزل

بدأ الشاعر على عادة أغلب قصائد الشعر العربي القديم بالغزل، وهذا الغزل مجازي لا تقصد به حبيبة محددة، بل هو مدخل يهيئ به الشاعر أذن المستمع لما يريد أن يقول، وعادة ما تبدأ القصيدة بالغزل لأنه أقرب شيء لقلب الناس ويوافق فطرتهم، فبه تبدأ القصيدة ويستحوذ الشاعر على انتباه المستمع.

 

بعض الناس يفسرون أبيات الغزل تفسيرا حرفيا، كأن الحبيبة هي إنسانة حقيقية محددة يقصدها الشاعر، فيكتبون معاني الكلمات الحرفية وينتقلون للبيت التالي، ربما يكون هذا صحيحا في بعض القصائد، لكنه لا يفسر قصائد أخرى وستبدو أبيات القصيدة مفككة أو بلا معنى إذا تم تفسير كل بيت بطريقة حرفية.

 

في هذه المقدمة يتكلم سويد عن مشاعره تجاه قبيلته بكر، وحبه الشديد لهم وتفكيره فيهم، ثم رغبته في الوصول إليهم، ويعبر عن هذا بالغزل كأنه يشتاق إلى حبيبة، لأنهما يحملان نفس المشاعر في قلبه، أو أنه يستخدم الغزل ليوصل المشاعر التي يحملها في قلبه تجاه قومه، تحدث عن حبيبة، سماها في أول القصيدة رابعة، ثم سماها سلمى، وهذه الاختلاف في التسمية يدل على أنه لا يقصد فتاة بعينها، بل يختار لهم أسماء حسب الحالة الشعورية وما يريد أن يقول، فرابعة من التربع والعز والإقامة في المكان، وسلمى تيمنا ودعاء بالسلامة.

 

عندما نفهم هذه الجزئية، سوف يتضح لنا معنى القصيدة وتترابط أجزاؤها، وسوف يتضح الأمر أكثر عندما نتكلم عن الأبيات.

 

1- بَسَطَتْ رَابِعَةُ الحَبْلَ لَنَا … فَوَصَلْنَا الحَبْلَ مِنْهَا مَا اتَّسَعْ

 

بسطت: بسط أي مد ووسع، بسط يده في الإنفاق أي أعطى بسخاء.
الحبل: يقصد حبل الود والصفاء والتواصل.
رابعة: هذا اسم حبيبته، لا يجب أن يكون اسما حقيقيا، بل يختار الشاعر اسما يتماشى مع المعنى الذي يريد، ربع في المكان أي أقام به واطمئن، والتربع هو النزول بالمكان وقت الربيع حيث الخصب والخير، فرابعة تعني التي تربعت في المكان واطمأنت فيه.


بدأ بالحديث عن حبيبته، فقد وصلته وأتاحت له حبل الوصال، أي أن الأمور بينهما طيبة وفيها مودة، فوصلها هو أيضا طالما اتسع المقام، أي طالما استمرت على حالها معه، لكن ربما يتغير الوضع إذا تغيرت عليه حبيبته.

يشير إلى أنه أي أنه على عهد من مودة أهله والوصال معهم طالما كانوا على خير معه، ووصفهم بالتربع وأنهم مستقرون وهانئون في موضعهم، وسيشرع في الأبيات القادمة في وصف غزلي جميل لهذه الحبيبة التي يتخيلها.


2- حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتاً وَاضِحاً … كُشَعَاعِ الشَّمْسِ فِي الغَيْمِ سَطَعْ

 

حرة: شريفة يبدو عليها سمت علية القوم وهيئتهم الفخمة
قال طرفة عندما كان يلوم حبيبته: لا يكن حبك داء قاتلا … ليس هذا منك ماوِيَّ بحر.
أي ليست هذه شيم الأحرار يا ماوية.
تجلو: تلمع، والجلاء هو الوضوح.
شتيت: فم أسنانه غير متراكبة قبيحة.
الغيم: هو السحاب يحجب ما وراءه.
 
هذه الحبيبة لها هيئة الأحرار ورفيعو النسب، يظهر منها فم واضح منير الأسنان، وأسنانها جميلة متناسقة، يشع ثغرها في وجهها ويضيء كما يخرج شعاع من الشمس ساطعا بين الغيوم.

 

3- صَقَلَتْهُ بِقَضِيبٍ نَاضِرٍ … مِنْ أَرَاكٍ طَيِّبٍ حَتَّى نَصَعْ

 

صقلته: أي جلته ولمعته، وأظهرت جماله، وصقل الشخص كلامه أي هذبه (الصقل فيه معنى التكرار وإعادة التجميل)
قضيب: الغصن المقطوع من شجرة.
ناضر: ذا رونق وبهجة وطراوة.
أراك: هو الشجر الذي تتخذ منه عيدان المسواك، تؤخذ قضبانه الغضة فتفرك بها الأسنان فتنظفها وتزيل الرائحة الكريهة.
نصع: ظهر الشيء واتضح، وأصبح خالصا صافيا.

أي أنها تنظف فمها وتعتني به بقضيب غض ذي رونق من أغصان الأراك، وتظل تنظف أسنانها حتى تتركها ناصحة البياض لامعة جميلة. فلها أجمل هيئة يراها الإنسان من حبيبته.

وإذا قرأت الشعر العربي القديم، فإنك تجد العرب يشدون دائما بفم المرأة الجميل وبياض الأسنان وطيب الريق، وهذا أمر متكرر عندهم.

 

4- أَبْيِضَ اللَّوْنِ لَذَيذاً طَعْمُهَ … طَّيَبَ الرِّيقِ إِذَا الرَّيقِ خَدَعْ

 

خدع: بمعنى تغير، أو كانت حقيقته غير ظاهره، خدع الرجل: تغير من حال إلى حال.

فمها أبيض اللون، طعمه لذيذ، يجمع إلى جمال المظهر طيب الطعم والرائحة، تأمن ألا تجد منه رائحة منفرة.

هنا يشير الشاعر إلى ثبات جمالها وعدم تغير أحوالها عندما يتغير بقية الناس.

 

5- تَمْنَحُ المِرْآةَ وَجْهاً وَاضِحاً … مِثْلَ قَرْنِ الشَّمِسِ فِي الصَّحْوِ ارْتَفَعْ

 

قرن الشمس: أول ما يبدو من الشمس عند طلوعها، وتكون في هذا الوقت لامعة مضيئة جميلة المنظر ويسهل النظر لها لا تؤذي العين، فاجتمعت فيها كل المحاسن.  

الصحو: هو خلو السماء من الغيوم، وفترة صحو أي وضوح وجلاء

ما أجمل تعبيره وما أرقه، هذه الفتاة هي مصدر الجمال فمنها يشع، وهي التي تعطي المرآة هذا الوجه الجميل الذي يظهر عليها.
وجهها صاف ليس فيه حبوب ولا المسامات والعلامات التي تعكره، شبه الشاعر وجه الفتاة بالشمس المشرقة وشبه المرآة من حولها بالسماء الصافية، فاكتملت الصورة.

ونلاحظ أن الشاعر دقيق في اختيار كلماته، فهو لا يقصد الشمس الحارقة التي في منتصف النهار، تلك التي لا يستطيع أحد النظر إليها، بل يقصد قرص الشمس وقت الشروق، عندما يكون مضيئا صافيا وجميل المنظر، دون أن يحرق العين.

6- صَافِيَ اللَّوْنِ وَطَرْفاً سَاجِياً … أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ مَا فِيِهِ قَمَعْ

 

الطرف: اتجاه النظر، أو تحرك العين
ساجيا: ثابت، ساكن، مستقر، النظرة الساجية هي النظرة الناعسة المطمئنة التي توحي بالأمان، والسجية هي التلقائية والعفوية.
أكحل: كأنها تضع الكحل بشكل طبيعي حول عينها، ليزيد هذا من جمال وجهها الأبيض
قمع: هو النتوء والزوائد والبثور، وقِمع التمرة هو أيضا الجزء الزائد فوقها، الذي يصلها بالعروق، تشير إلى الجزء الزائد البارز.

وجهها صافي اللون، ليس فيه نتوءات ولا بثور، ولا زوائد بارزة وكل ما يعيب البشرة الصافية، نظرتها ساهمة مطمئنة، تمنحها الحياء والأنوثة والجمال، ليست تلك النظرة المتلصصة القلقة أو المتبجحة الذي تفسد جمال المرأة.
كما أن عينها مكحولة وجفونها سوداء خلقة، وهو ما يظهر جمال وجهها الأبيض.

 

7- وَقُرُوناً سَابِغاً أَطْرَافُهَا … غَلَّلَتْهَا رِيحُ مِسْكٍ ذِي فَنَعْ

 

قرون: ضفائر شعرها.
سابغا: طويل منتشر.
غللتها: تغلل في الشيء أي دخل عميقا فيه، يقصد أن رائحة المسك عميقة بين خصلات شعرها
مسك: هو الطيب المعروف
فنع: الكثرة، فنِعَ الرجل: أي كثر ماله، وفنع المسك، انتشرت رائحته

المعنى: أن ضفائر شعرها طويلة الأطراف وغزيرة، تبعث منها رائحة طيبة من المسك الذي تغلل عميقا في الشعر.
فالمعنى أن الشعر غير وكثيف ونظيف، تنبعث منه رائحة طيبة.

8- هَيَّجَ الشَّوْقَ خَيَالٌ زَائِرٌ … مِن حَبِيبٍ خَفِرٍ فِيهِ قَدَعْ

خيال: الصورة التي تتراءى لك في الصحو أو النوم.
خفر: خفرت المرأة أي اشتدت حياؤها.
قدع: كف، توقف، انقدع عن الشيء، كف عنه واستحيا، والفتاة القَدعة هي قليلة الكلام كثيرة الاستحياء.

 

يتحدث الآن عن تفكيره في هذه الحبيبة وهو بعيد عنها، أثار شوقه خيال منها يزوره حيث هو، ويتخذ الخيال شكل حبيبته التي تتميز بالحياء الذي يزيدها جمالا.

 عندما يفكر الشاعر العربي في حبيبته، فإنه يتخيل طيفا أو شبحا من حبيبته وهو يزوره ليلا، قاطعا المسافات وعابرا المخاطر من أجل أن يأتي إليه فينظر إلى صورتها، وفي الحقيقة الشاعر هو الذي يفكر فيها وهو الذي يستحضر صورتها في ذهنه ليستأنس بها.

وورد مثل هذا في شعر العرب، مثلا قول طرفة ابن العبد يتخيل أيضا خيال حبيبته يزوره:
 
أرق العين خيال لم يقر … طاف والركب بصحراء يسر
جازت البيد إلى أرحلنا … آخر الليل بيعفور خدر
ثم زارتني وصحبي هجع … في خليط بين برد ونمر

وقول شاعر ثالث هو مالك بن حريم:
 
 تذكرت سلمى والركاب كأنها … قطا وارد بين اللفاظ ولعلعا
فحثت نفسي أنها أو خيالها … أتانا عشاء حين قمنا لنهجعا
 
فهذه الفكرة متكررة في الثقافة العربية القديمة، وهي فكرة جميلة فيها خيال لطيف ، وتظهر سعة مخيلة الشعراء العرب وقدرتهم على خلق الصور.

المعنى الذي يشير إليه في البيت أن اشتياقه لأهله قد زاد.
ثم يكمل

9- شَاحِطٍ جَازَ إِلَى أَرْحَلُنَا … عُصُبَ الغَابِ طُرُوقاً لَمْ يُرَعْ


شاحط: البعيد المنفرد، وتقال لمن ابتعد كثيرا عن رفاقه.
أرحلنا: ما يضعه المسافر على ظهر الداية، أي هو ما نسميه الآن الأمتعة التي يأخذها المسافر معه.
عصب: عصابات أي جماعات.  
الغاب: جمع غابة، أي الشجر الكثيف.
طروقا: وردت في النص طروق، بضم الطاء، كأنها مصدر مثل الطَّرق، وهي الزيارة ليلا، لا أعرف هل هي صحيحة بهذا الضبط أم لا لأنها تجعل المعنى غير واضح، ولو كانت طروق بفتح الطاء، لكانت صيغة مبالغة على وزن فعول، مثل أكول، وصبور وشكور، ولأصبح معناها كثير الزيارة ليلا، أي أنه يأتيه كل ليلة.

لم يرع: تعني لم يخف من قطع المسافات.

 

 يقول إن خيالها المتفرد، ابتعد عن أقرانه كثيرا وقطع المسافات البعيدة حتى أتى لمكان القافلة، اجتاز الغابات والعوائق في الطريق ولم يخف بسبب البعد، كناية عن شدة حبه لها، في الحقيقة هو من يفكر فيها بشدة، فصورها كأن خيالها يزوره في الأماكن البعيدة.


10- آنِسٌ كَانَ إِذَا مَا اعْتَادَنِي … حَالَ دُونَ النَّوْمِ مِنِّي فَامْتَنَعْ

 

آنس: جالب للطمأنينة، مسل ولطيف ويبدد الوحشة، وسمي الإنسان هكذا لأنه يؤنس ويبدد الوحدة.
اعتادني: من عيادة المريض، يعود علي مرة بعد مرة.
حال: منع وحجز.

 

اعتاد سويد التفكير فيها مرة بعد مرة، يفكر فيها ويتراءى له خيالها، يستأنس بالتفكير فيها فيذهب بذلك الوحشة عن قلبه، وكلما عاد إليه الخيال ليلة بعد ليلة طرد النوم من عينه فاستعصى عليه.

11- وَكَذَاكَ الحُبُّ مَا أَشْجَعَهُ … يَرْكَبُ الهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ

 

ما أشجعه: أسلوب تعجب، يعبر الإنسان عندما عن اندهاشه من حدث خارج عن المألوف.
الهول: الأمر العظيم المفزع
وزع: كف ونهى: الوازع هو ما يجعل الإنسان يتوقف عن الشيء، نقول الوازع الأخلاقي، أي الضمير وما يوقف الإنسان عن ارتكاب الأخطاء.

يتعجب من هذا الخيال الذي يأتيه من المسافات البعيدة، ويقول: هكذا هي سطوة الحب، ما أشد شجاعته، يجتاز الأهوال والمصاعب ويقطع المسافات ليسيطر على الإنسان، حتى لو حاول منع نفسه، فإنه يغلبها ويعصاها.

12- فَأَبِيتُ اللَّيْلَ مَا أَرْقُدُهُ … وَبِعَيْنَيَّ إِذَا نَجْمٌ طَلَعْ

 

فيبيت طول الليل لا يقدر على النوم ولا الرقاد، لشدة تفكيره في حبيبته، يظل يتقلقل ويفكر فيها، وكلما طلع نجم في السماء تتبعه بعينه، ينتبه لأقل حركة أو همسة فهو قلق يقظ.

 

13-وَإِذَا مَا قُلْتُ لَيْلٌ قَدْ مَضَى … عَطَفَ الأَوَّلُ مِنْهُ فَرَجَعْ

عطف: عاد وارتد من البداية

العاشق ليله طويل ولا يمضي، كلما ظن أنه سينتهي، عاد الليل من بدايته وابتدأ من جديد كأنه ثعبان يلتف حول نفسه، فلا يعلم كم ساعة مضت عليه بهذا الحال.

 

وهذا شبيه بقول امرؤ القيس يصف طول ليله أيضا،
فقلت له لما تمطى بصبحه … وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

 

ثم يكمل سويد.

14- يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجُوماً ظُلَّعاً … فَتَوَالِيهَا بَطِيئَاتُ التَّبَعْ

 

ظلع: الظلع هو العرج، والغمز في المشية، يقصد بطيء الحركة.

 

هذا تشبيه من البيئة العربية القائمة على رعي الإبل، شبه الليل براع وشبه النجوم بقطيع كبير لا ينتهي من الحيوانات العرجاء التي لا تكاد تتحرك، وعندما تمر هذه الحيوانات البطيئة تتبعها حيوانات أخرى من نفس القطيع الكبير تختبر صبره.

 

15- وَيُزَجِّيهَا عَلَى إِبْطَائِهَا … مُغْرَبُ اللَّوْنُ إِذَا اللَّوْنُ انْقَشَعْ

 

يزجيها: زجى الولد: دفعه برفق، يسوقها ضوء النهاء ببطء حتى يدفعها أمامه برفق
مغرب اللون: أصل الغرب هو الأبيض، وتطلق على ألوان الفرس، يقصد نور الصبح
انقشع: زال عنه بعدما كان يغطيه

 أي أنه يظل ساهرا إلى أن يأتي الصباح فيبدد ظلام الليل

16-  فَدَعَانِي حُبُّ سَلْمَى بَعْدَمَا … ذَهَبَ الجِّدَّةُ مِنِّي وَالرَّيَعْ

 

الجِدَّة: الحالة الجديدة، يقصد الشباب الأول.
الريع: جمع ريعان، أي أول الشباب وذروته، وريعان كل شيء زيادته، يقصد نشاط الشباب.

تذكر سويد حب سلمى مرة أخرى، واشتعلت العواطف في قلبه على الرغم من كبر سنه وذهاب زهوة شبابه وقوته، ومر عليه الكثير، لكن ما زال يذكر، ولهذا فسوف ينطلق إليها، وسيصف الرحلة في الأبيات التالية.

وسماها هنا سلمى (دعاء وتيمنا لها بالسلامة) بعدما سماها في البيت الأول رابعة، وهذه إشارة وتأكيد أنه لا يقصد فتاة معينة، بل يتحدث عن أمر آخر بطريقة المجاز، وهو يتحدث عن حبه لأهله وقبيلته.

يشير إلى أن أسباب الحب انبعث في قلبه مرة أخرى بعدما كبرت سنه، ذكر الشاعر كبر سنه أكثر من مرة في القصيدة، وفي هذا إشارة أن الاحداث التي سيقصها في القصيدة قد حدثت في آخر حياته، وهو ما يتوافق مع الخلاف الذي حدث بينه وبين أولاد عمه من بني شيبان وسجن على إثره في ولاية عامر بن مسعود الجمحي وعصر الدولة الأموية.


17- خَبَّلَتْنِي ثُمَّ لَمَّا تَشْفِنِي … فَفُؤَادِي كُلَّ يَوْمٍ مَا اجْتَمَعْ

خبلتني: خبل الحب قلبه: فتنه وأفسده، وشاب مخبول: أي مضطرب عقليا وعاطفيا، وتستخدم الكلمة في بعض اللهجات العربية بمعنى المجنون، فالمعنى، أذهب حبها عقلي.
 لما: هو حرف جزم، يجزم الفعل المضارع، ويفيد النفي مع حدوث الفعل في الماضي وعدم انتهائه بعد، فربما يستمر في المستقبل، تقول لما أنته من الدرس، أي لم أنته عنه في الماضي وحتى الآن، والفؤاد هو القلب.

يقول إن حبيبته أذهبت عقله من شدة حبه لها، ثم لم يشف من آثار هذا الحب حتى الآن، ومن حينها لا يملك جمع شتات قلبه.


18- وَدَعَتْنِي بِرُقَاهَا إِنَّهَا … تُنْزِلُ الأَعْصُمَ مِنْ رَأْسِ اليَفَعْ

رقاها: علاجها، فحبها علاج لقلبه.
الأعصم: وعول الجبل، وهي حيوانات عربية تعيش على الجبال وتتحرك على برشاقة بالغة، وسميت أعصم لأنها تعتصم بأعالي الجبال فلا يقدر أحد على إنزالها، ومن صفته أن فيه ذراعه لون أبيض. 
اليفع: المكان المرتفع. جبال يافعات: أي مرتفعة، تنزل الأعصم من رأس اليفع أي أنها قادرة على فعل المستحيل.

يوضح سبب ذهابه إليها، فقد دعته بحبها الذي هو كالعلاج والشفاء لهموم قلبه، فلم يستطع مقاومتها، حبها من القوة وشدة الجاذبية بحيث إنه لا يقاوم، وضرب بذلك مثلا من البيئة العربية، فهي قادرة على جذب الوعول البرية إنزالها من جبالها الحصينة، وهذه الحيوانات لا تنزل أبدا، أي أنها قادرة على فعل أي شيء.  
 

19- تُسْمِعُ الحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَناً … لَوْ أَرَادُوا غَيْرَهُ لَمْ يُسْتَمَعْ

لسانها جميل كالشهد، عذب حديثها يطرب آذان الجلساء بلطيف الملح، ولو أراد عابث أن يجرها إلى ما يستقبح من الحديث لم ينل شيئا، أي أنها تجمع جميل الصفات ودون صفات خبيثة.

بعدما وصف الشاعر جمال حبيبته وتحدث شوقه لها، وذكر أن تفكيره المتواصل فيها يمنعه من النوم ويبقيه ساهرا يراقب النجوم، انتقل إلى المعنى التالي المترتب عليه، وهو أنه لم يطق البقاء في مكانه فاندفع نحوها في رحلة خطرة ليذهب إليها ويجيب داعي الحب فيروي ظمأه منها، في هذا القسم يصف خطورة هذه الرحلة، فقد قطع صحارٍ حارقة يصعب فيها إيجاد الماء، يذهب إليها مخاطرا بنفسه، رغم أنه لا يعلم الطريق جيدا وبهذا يعرض نفسه للضياع في الصحراء الواسعة عديمة الملامح، لكنه يندفع مسرعا من أجلها.


20- كَمْ قَطَعْنَا دُونَ سَلْمَى مَهْمَهاً … نَازِحَ الغَوْرِ إِذَا الآلُ لَمَعْ

كم قطعنا دون سلمى: هذا استفهام بغرض التعجب، يتعجب من طول المسافات التي قطعها من أجل الوصول لحبيبته، ويتعجب من شدة حبه لها، هذا الحب الذي كان يدفعه للذهاب في أجواء قاتلة.
مَهْمَه: هي الصحراء القفر التي لا شيء فيها والتي يتجنب العاقل السير فيها، مه اسم فعل بمعنى اكفف أو توقف عما تفعله، ربما تكون مهمه مشتقة من تكرار اسم الفعل مه، فيكون اسمها دلالة على خطورة السير فيها وتنبيها للإنسان على ذلك.
 ذكر أن بئر زمزم سميت كذلك لأن السيدة هاجر كانت تقول زم للماء عندما نبع تحت قدم سيدنا إسماعيل.

نازح: بعيد بئر نازح: أي قليلة الماء
الغور: هو ما انخفض من الأرض، والغور من كل شيء، أسفله وقعره.
الآل: السراب الذي يكون وقت الظهيرة وشدة الحرارة، وهو نوع من الوهم البصري الذي ينتج بسبب انكسار ضوء الشمس، فيجعل الأشياء البعيدة تبدو كما لو كانت أقرب، ويظهر ما يشبه الماء اللامع من بعيد، فإذا اقترب منه الإنسان لم يجد شيئا، إلا سرابا آخر يظهر من بعيد

في هذا البيت يتعجب الشاعر من طول المسافات التي قطعها من أجل الوصول لحبيبته سلمى، والمخاطر التي خاض بينها بتهور كاد يودي بحياته، فقد قطع أراض شاسعة يبتعد العاقل عن الذهاب إليها، هذه الأراضي ماؤها غائر وقليل في أعماق الأرض، وكان يعبر وقت الظهيرة الخطر عندما يلمع السراب، فهو يعرض نفسه لخطر الموت عطشا في صحراء يتجنب العاقل خوضها.


21- فِي حَرُورٍ يُنضَج اللَّحْمُ بِهَا … يَأْخُذُ السَّائِرَ فِيهَا كَالصَّقَعْ

حرور: ريح النهار الحارة، وتكون في وقت الصيف، وتطلق أيضا على ريح المساء عندما يكون حارا
الصقع: الضرب على الرأس

كان يذهب في تلك الرحلة في المتهور  وسط رياح الصيف ا لحارة، التي تكفي حرارتها لإنضاج لحم الإنسان، هذه الريح تقتل من يسير فيها وتسقطه أرضا كما لو ضرب على رأسه، وهو تهور قاتل في حر الصحراء العربية، لكن حبها يغلب عليه، والفتيات تحب هذا التهور، فهي تحب أن تكون مطلوبة وأن يرتكب الرجل الحماقات من أجلها.


22- وَتَخَطَّيْتُ إِلَيْهَا مِنْ عِدًى … بِزِمَاعِ الأَمْرِ وَالهَمَّ الكَنِعْ

عدى: يقصد الأعداء.
زماع: العزم على الأمر والقوة اللازمة لحسمه.
الكنع: كنع الشخص أي عدل عن طريقه، في الحديث أن المشركين حين قدموا إلى المدينة كنعوا عنها، أي أحجموا عن الدخول لها، يقصد الهم الحاضر.
 
ومن أجلها، اجتاز أراض خطرة يسكنها الأعداء، مع ما يتطلبه ذلك من المشقة والعزم من أجل إمضاء هذا الأمر، وتحمل الهم الذي لشدته يحول الإنسان عن جهته.

 
23- وَفَلَاةٍ وَاضِحٍ أَقْرَابُهَا … بَالِيَاتٍ مِثْلُ مُرْفَتِّ القَزَعْ

فلاة: هي الأرض الواسعة المقفرة.
أقرابها: جوانبها.
باليات: القديم ورث الهيأة.
مرفت: المفتت.
القزع: بقايا كبقايا الشعر في الرأس. والسحاب المبعثر، وكل خفيف مبعثر هو قزع.

وتخطى صحراء واضحة جوانبها من شدة اتساعها وعدم وجود أي علامة تهدي إلى الطريق، بحيث أن جوانبها البعيدة ظاهرة لمن يسير فيها، فهي عارية ممتدة الأفق مساحتها شاسعة، والمسافر يحتاج إلى شيء بارز في الطريق يتخذه علامة يهتدي بها، كجبل أو صخور عالية، فإذا كانت الصحراء بلا ملامح صعب السير فيها، وشبه جوانبها بالشيء البالي القديم ذات المعالم القليلة المبعثرة.

24- يَسْبَحُ الآلُ عَلَى أَعْلَامِهَا … وَعَلَى البِيدِ إِذَا اليَوْمُ مَتَعْ

الآل: السراب الذي يرتفع وقت الهاجرة، قبل انتصاف النهار، وقلنا إنه يبدو كالماء وهو نوع من الوهم البصري الذي ينتج بسبب انكسار ضوء الشمس، فيجعل الأشياء البعيدة تبدو كما لو كانت أقرب، ويظهر ما يشبه الماء اللامع من بعيد، فإذا اقترب منه الإنسان لم يجد شيئا، إلا سرابا آخر يظهر من بعيد.
أعلامها: العلامات الواضحة فيها، أي على ما يبرز منها من الصخور الظاهرة.
البيد: القفار الخالية.
متع: ارتفعت شمس النهار وبلغ غاية ارتفاعها.  

عندما يسير الشاعر ورفاقه وقت الظهيرة المحرقة، ترى  السراب كالماء اللامع على ما ارتفع من معالم هذه الصحراء القليلة، وعلى ما اتسع من أراضيها يمينا ويسارا.


25- فَرَكِبْنَاهَا عَلَى مَجْهُولِهَا … بِصِلَابِ الأِرْضِ فِيهِنَّ جَشَعْ

على مجهولها: يقصد أننا لا ندري مجاهلها.
بصلاب الأرض: يقصد نياق ذات حوافر صلبة مهيأة لهذا السير الطويل في الصحراء.
جشع: جنون النشاط والطمع، متلهفة نحو أرض الحبيبة.

يقول إننا ركبنا هذه الصحراء رغم أننا نجهل طرقاتها ومسالكها، وفي هذا مهلكة، لكنه يظهر مدى لهفته على القرب من حبيبته، ركبنا نوقا صلبة الحوافر مهيآت لسير الصحراء وفيهن رغبة في الإسراع ونشاط ليذهبن بنا بسرعة للأحبة.


26- كَالمَغَالِي عَارِفَاتٍ لِلسُّرَى … مُسْنِفَاتٍ لَمْ تُوَشَّمْ بِالنِّسَعْ

المغالي: السهام، والغلوة هي أقصى مسافة في رمية السهم.
السرى: هو السير أثناء الليل.
مسنفات: الإسناف هو الإسراع، وهو أيضا حبل يربط به البعير من مقدمته، أي أنها مجهزة بهذه الحبال.
لم توشم بالنسع: النسع هي السيور الجليدية التي تربط بها النوق، وإذا شدت كثيرا فإنها تترك علامات في جلد الحيوان مثلما ذكر طرفة في وصف ناقته، لكن ناقة سويد ليس فيها علامات السيور لأنه يحسن معاملتها.

تقطع النوق خطواتها بأقصى اتساعها، شبه اتساع الخطوة بالرمية البعيدة للسهم، تعرف طريق سيرها في ليل الصحراء، سريعة السير، كريمة لم تجعل لها سيور ثقيلة تؤثر على جلودها، وهذا عكس ناقة طرفة التي أكد على شدة النسع فيها كأنه أخاديد.

من هذه الملاحظات يمكن أن نستنتج ملامح من شخصية سويد بن أبي كاهل، فهو يحسن معاملة حيواناته فلا يترك السيور تؤثر على جلدها، وسويد بوجه عام يبدو شخصا لطيفا، على عكس طرفة ابن العبد، رغم وصفه المبهر إلا أنه بوجه عام يسيء معاملة جماله فوصف الاخاديد التي تحفرها السيور في جلد ناقته،
كأن علوب النسع في دأياتها … موارد من خلقاء في ظهر قردد
تلاقى وأحيانا تبين كأنها … بنائق غر في قميص مقدد

كما ذكر طرفة أيضا أنه يعمل السيف في الجمال ليذبح منها بلا اهتمام حتى أنه قتل ناقة قبل أن تلد مباشرة وأخرج جنينها من بطنها وشواه لرفيقاته في استهتار بالغ، خطرت مثل هذه المقارنات في ذهني وأنا أحضر لهذه الأبيات فأحببت أن أشاركها معكم، والآن نعود لسويد وهو يصف رحلته.  

27- فَتَرَاهَا عُصُفاً مُنْعَلَةً … بِنِعَالِ القَيْنِ يَكْفِيهَا الوَقَعْ

عصفا: تمر بعنف فتخلف وراءها الغبار كأنها عواصف (تعصف في مشيها)
منعلة: مصنوع لها نعال، يقصد الحدوات، وهي القطع الحديدة التي تثبت في حوافر الحيوان وهذا يساعدها على شدة الجري
القين: القين هم الصناع، وعادة ما يقوم بذلك أهل المدن أو العبيد الذين يقومون بالحرف لأسيادهم، وفي وقت لاحق أصبحت الكلمة تطلق على العبيد والعمال في الأراضي فيقال الأقيان، لكنها في الشعر الجاهلي تأتي بمعنى الصانع.

 
تسير الإبل مسرعة فتثير عواصف وسحابات ترابية خلفها، بحدواتها الحديدة التي ركبها لها الصنعة المهرة، تجري بسرعة فتلمس الأرض بحوافرها فقط، ويكفيها فقط أن تقع عليها وتلامسها كأنها تطير، أي أنها لشدة جريها تكاد أقدامها لا تلامس الأرض

28- يَدَّرِعْنَ اللَّيْلَ يَهْوِينَ بِنَا … كَهَوِيِّ الكُدْرِ صَبَّحْنَ الشَّرَعْ

يدرعن: يتخذن الليل كأنه درع، يخفيهن الليل.
يهوين: يسقطن بنا، يشبه سرعتها في الجري كأنها تهوي من منزلق أو مكان مرتفع.
الكدر: القطا الكدري، وهو طائر كاليمام، في لونه غبرة.
الشرع: موضع الماء ، يشرعون للشرب فيه – وأشوف معناها الدقيق.
يجرين بنا بسرعة كالذي يهوي من منحدر، وكطيور القطا وهي تهبط للماء عطشى.

تتخذ النوق الليل غطاء لها كأنها تحتمي بظلامه وتسير، وتمشي سريعة كأنها تهوي بأصحابها من مرتفع إلى منخفض، تمشي سريعة كأسراب القطا الرمادية التي تهوي صباحا.

هذا تشبيه من البيئة العربية، طيور القطا وهي صنف من الحمام الصحراوي، تحوم في الصحراء ثم تبحث عن الماء وترصد مكانه من بعيد، وفي الصباح الباكر تأتي إليه مسرعة تنقض عليه من السماء بسرعة شديدة كأنها تسقط سقوطا، وهو يشبه جري نياقهم شوقا باتجاه أرض الحبيبة بسرعة انقضاض هذه الطيور على الماء


29- فَتَنَاوَلْنَ غِشَاشاً مَنْهَلاً …  ثُمَّ وَجَّهْنَ لِأَرْضٍ تُنْتَجَعْ

غشاشا: موجودة في لامية العرب، معناها مر بسرعة وعلى عجلة، كمن يغشى الشيء بسرعة ولا يقف عليه
منهلا: اسم مكان من نهل الماء، أي أخذ منه كثيرا، والمنهل هو مكان الماء على طريق السفر
تنتجع: انتجع فلان، أي اتجه له يريد معروفا، والنُّجْعَة: طلب الكلأ في موضعه، طعام ينجع به أي يُسمن عليه.
المنتجع هو المكان الحسن الذي يذهب له الإنسان.

يواصل وصف سرعة جري الجمال وعدم توقفها تعبيرا عن شدة شوقها وشوق أصحابها إلى رؤية الأحبة، فيقول أنها لا تتوقف عند أماكن المنازل التي يتوقف عندها الناس إلا قليلا، تتناول الماء أخذا سريعا ثم تواصل الرحلة مسرعة، فهي لا تصبر على التأخر ثم تتوجه إلى أرض حسنة يرتاح فيها قلبهم.

30- مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِهَا مَمْلَكَةٌ … مَنْظَرٌ فِيهِمْ وَفِيهِمْ مُتَّسَعْ

انتقل الشاعر انتقالا سلسا للمدح في أهله، فالأرض التي يقصدونها هي أرض بني بكر، ووصفهم بأنهم مملكة، كناية عن العز والمكانة التي هم فيها كأنهم مملكة قائمة بذاتها، النظر إليهم يسر العسن وعندهم زيادة من الخيرات والرزق.

يتضح لنا أن مقطع الغزل في أول القصيدة، كان قصد الشاعر به مدح قبيلته بكر، ولم يكن يقصد فتاة معينة، لكن الغزل محبب إلى القلب، فيتخذه الشاعر وسيلة لإيصال مشاعره، لأنه يجد في قلبه من المشاعر الجميلة تجاه قبيلته ما يجده تجاه فتاة جميلة، وسوف يبدأ في مجموعة أبيات قادمة يخصصها لمدح قبيلته، التي من الواضح أنه يعتز بها كثيرا، سوف نقرأ تلك الأبيات في الحلقة القادة أما الآن فسوف نكتفي بهذا القدر.

في الأقسام الأولى من القصيدة، ذكر الشاعر حبه الشديد لأهله، وعدم قدرته على البقاء بعيدا عنهم، ثم وصف رحلته الشاقة مسرعا في اتجاههم، ها قد وصل لهم وقد رأى فيهم ما يملؤ نظره ويسر قلبه فأخذ في مدحهم بالصفات المعجبة، وصفهم بالعقل والشجاعة والأخلاق معا، يقول أنهم أهل سيادة وكرم وقت السلم وأهل بأس وقوة وقت الحرب، وأهل حلم وعقل في جميع الأوقات، يحسنون لجيرانهم ويعطفون على الفقراء ويعينون الناس في الأزمات.

 هذا القسم من المدح يُذَكر بالطريقة التي مدح بها طرفة بن العبد قومه في قصديته الرائية التي شرحناها على القناة: أصحوت اليوم أم شاقتك هر، وهم أنفسهم قبيلة بكر، يبدو أن سويد بن أبي كاهل كان يضع قصيدة طرفة في ذهنه وهو ينشد هذه القصيدة فخرجت متأثرة بمعانٍ كثيرة.

31- بُسُطُ الأَيْدِي إِذَا مَا سُئِلُوا …  نُفُعُ النَّائِلِ إِنْ شَيْءٌ نَفَعْ

بسط الأيدي: أيديهم مبسوطة أي كرماء.
النائل: ما يدرك وما ينال من الشخص.

يمدحهم بالكرم، وهي صفة طالما افتخر بها العرب، وتلقى التقدير في ظروف البيئة العربية حيث موارد الرزق شحيحة وتكون سببا للصراع، لكنهم يجودون بما معهم ويعطون للناس، وإذا قصدهم الناس طلبا للمعروف وما ينال من الخير فإنه يحصل عليه منهم.

إن شيء نفع، يقصد بها إن كان شيء من أعمال البشر ينفع، فستجد النفع عندهم، فهناك أشياء فوق مقدرة كل البشر، يقصد أنهم ينفعون أقصى ما يقدر الناس عليه.


32- مِنْ أُنَاسٍ لَيْسَ مِنْ أَخْلاقِهِمْ … عَاجِلُ الفُحْشِ وَلَا سُوءُ الجَزَعْ


عاجل الفحش: الفحش هو شدة القبح، وعاجل أي سريع، فعاجل الفحش معناها سرعة إتيانهم للمنكرات والقبائح.
سوء الجزع: الجزع هو عكس الصبر، قلة الصبر عند حدوث المصائب، وهي صفة ضعف في مجتمع كان يعتمد على القوة والثبات في ظروف الحياة غير المستقرة.

يذم هذه الأخلاق وينفي هذه الصفات القبيحة المعيبة عنهم.

33- عُرُفُ لِلحَقِّ مَا نَعْيَا بِهِ … عَنْدَ مُرِّ الأَمْرِ مَا فِينَا خَرَعْ

نعيا: نتعب بالحق أي تصيبنا معه مشقة، الحق ثقيل على النفس، وأحيانا يكون ثقيلا على النفس.
خرع: طراوة أو ضعف واسترخاء.


يقول إنهم يعرفون الحق ويعترفون به إذا وقع عليهم، ولا يكون ثقيلا على نفوسهم، لأن الحق أحيانا يكون ثقيلا وضد رغبات الإنسان، ومن الناس من يكابر، مثلا إذا حكم على شخص بالتنازل عن أموال لخصمه، فلا يقبل بهذا محبة لنفسه، بينما هم ليسوا كذلك، يعصون حب أنفسهم في سبيل الحق.

يمدح قومه أيضا بالشدة والتحمل عند حدوث الأمور المريرة والأيام الصعبة، لا يكون فيهم ضعف وطرواة، بل يظهرون قوة في مواجهة الشدائد.

نلاحظ هنا أمرا مهما، وهو أنه يؤكد انتماءه ونسبه إلى قبيلة بكر، فتكلم بصيغة الجمع، قال مت نعيا به، وقال ما فينا خرع، يشمل نفسه ويؤكد انتماؤه للقبيلة، هذا مهم جدا فيما يتعلق بالصراع الذي سيتكلم عنه بعد ذلك.


34- وَإِذَا هَبَّتْ شَمَالاً أَطْعَمُوا … فِي قُدُورٍ مُشْبَعَاتٍ لَمْ تُجَعْ


هبت شمالا: أي هبت ريح الشمال الباردة وقت الشتاء، وهو وقت البرد واشتداد حاجة الناس للطعام.
قدور مشبعة: أي قدر مملوءة بالطعام.


عندما تهب الريح الباردة من الشمال وقت الشتاء ويقل الطعام، تطعم قبيلته الناس في قدور كبيرة ممتلئة باللحم، ويهبونه للجميع بلا تفرقة.

35- وَجِفَانٍ كَالجَوَابِي مُلِئَتْ … مِنْ سَمِينَاتِ الذُّرَى فِيهَا تَرَعْ

جفان: جمع جفنة وهي قصعة الطعام.
الجوابي: جمع جابية، وهو الحوض الكبير الذي يجمع فيه الماء.
الذرى: القمة، يقصد جمالا مرتفعة السنام سمينة.
ترع: الترع من الآنية الممتلئ.

يقول أنهم يملؤون للمحتاجين في وقت الشتاء قصعات أو أوانٍ كبيرة من الطعام كأنها أحواض الماء لكبرها، ويذبحون لهم أفضل الجمال السمينة عالية السنام للفقراء، وهذا من كرمهم وطيب أنفسهم وغناهم أيضا، فمعنى أنهم يذبحون أفضل الإبل للفقراء أنهم يملكون منها الكثير، ولا يخصون الفقراء بالمعيب أو الضعيف من الجمال، بل يختارون الأفضل لهم.


36- لَا يَخَافُ الغَدْرُ مَنْ جَاوَرَهُمْ … أَبَداً مِنْهُمْ وَلَا يَخْشَى الطَّمَعْ


جاور الشخص فلانا: أي أعطاه ذمة أن يقيم بجواره ولا يأذيه.

يمدحهم بعدم الإساءة إلى الجار وحفظ عهودهم مع من يأمنونهم، وأن جارهم يطمئن لهم فلا يغدرون به ولا يطمعون في ما معه، وهذا أمر ربما نستغرب منه الآن، فنقول أنه طبيعي ولا يستحق الفخر، لكن علينا أن نتذكر طبيعية حياة السلب والنهب والإغارة والصراع على الموارد التي كانت سائدة في حياة العرب القدماء.

في حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه عندما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم أول مرة، أخبره أن الظاعنة أي المسافرة توشك أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، أي أن السير بالمسافات الكبيرة دون الدخول تحت حماية كان أمرا مستبعدا لا يعرفه سيدنا عدي قبل إسلامه ولا يعرفه العرب، فبشره به رسول الله.

فالشاعر يمدح قومه بحسن أخلاقهم مع جيرانهم، من يجاورهم يطمئن على نفسه، ولا يخشى أن يغدروا به ولا يخشى أن يطمعوا في ماله فينقلبوا عليه.

37- وَمسَامِيحُ بِما ضُنَّ بِهِ … حَاسِرُوا الأَنْفُسِ عَنْ سُوءِ الطَّمَعْ

مساميح: رجل سمح أي متساهل كريم
ضُنَّ: بما بخل به ورجل ضنين، أي رجل بخيل.
حاسروا الأنفس: حسر نفسه أي أوقفها.

المعنى: أن نفوسهم سهلة وكريمة في الإنفاق بما يبخل به الناس عادة، أي أنهم أكرم من بقية الناس، وهم ينهون أنفسهم عن الطمع المسيء المعيب في ممتلكات غيرهم، يتحكمون في نفوسهم ولا يتركون الطمع يحركهم.


38- حَسَنُو الأَوْجُهِ بِيضٌ سَادَةٌ … وَمَرَاجِيحُ إِذَا جَدَّ الفَزَعْ


بيض: لا يقصد بها بياض الوجه كما نعرفه الآن، لكن يقصد الإشراق والبهاء الذي يعلو وجه الرجل الكريم، عالي المقام
كما يقال بيض الله وجهك، دعاء بالخير.
مراجيح: يرجحون الأمور ويزنونها بعقولهم.

يصفهم بالبهاء وجمال الطلعة ووجود علامات السيادة على وجوههم، ويصفهم باكتمال العقل وحسن ترجيع الأمور وقت شدة الفزع وخوف الناس والفوضى التي تحدث، ومن المعروف أن وقت الفزع يحدث فيه انفلات في الأعصاب ولا يقدر الناس على التفكير السليم، فيرتكبون الأخطاء وهو يصفهم بالعقل وحسن الترجيح بين الأمور واتخاذ القرارات الصحيحة في هذا الوقت بالذات، فبالتأكيد هم في وقت السلم أكثر عقلا وإحكاما للأمور.

39- وُزُنُ الأَحْلَامِ إِنْ هُمْ وَازَنُوا … صَادْقُو البَأْسِ إِذَا البَأْسُ نَصَعْ

الأحلام هي العقول، والرجل الحليم هو العاقل.
البأس: هو القوة والشدة، ورجل ذو بأس أي ذو قوة.
نصع: تعني ظهر واضحا.

عندما يحتاج الأمر إلى التعقل والتفكير فهم يزنون الأمور بعقلهم، وإذا احتاج الأمر إلى القوة والفروسية فإنهم أهل لها أيضا، فيدخلون المعارك بصدق ويظهرون القوة.

هنا يشير الشاعر أن العقل والقوة خياران، أحيانا يدعي الرجل أنه عاقل لأنه ضعيف ولا يقدر على استعمال القوة، فيكون تعقله ادعاء فقط، لأنه لا يقدر في الحقيقة على الأمر الآخر وهو القوة، والشاعر يصف قومه بتحقق الصفتين.

40- وَلَيُوثٌ تُتَّقَى عُرَّتُهَا … سَاكْنُو الرِّيحِ إِذَا طَارَ القَزَعْ


ليوث: هي الأسود، وهل تعلمون لم سمي الأسد ليثا؟ لأنه يلوث حول فريسته أي يدور بطيئا حولها ويحاصرها، وهو من باب تسمية الشيء بصفته.
عرتها: العرة هي الشدة والقوة.
ساكنو الريح: تعبير معناه هادئ وقور.
طار القزع: يقصد طارت الرؤوس.

هنا يصف قوتهم في الحروب، فهم مثل الأسود التي يتقي الناس قوتها وسورة غضبها، وفي نفس الوقت يؤكد على صفة التعقل، فيظلون هادئين ووقورين لا يسمحون للتوتر أن ينتابهم ليتخذوا الرأي الأصوب، بينما تتطاير الرؤوس من حولهم


41- فَبِهِمْ يُنْكَى عَدُوٌّ وَبِهِمْ … يُرْأَبُ الشَّعْبُ إِذَا الشَّعْبُ انْصَدَعْ

ينكى: نكى العدو: أي هزمه وأوقع به.
يرأب الشعب: رأب الشيء: أصلحه.
انصدع: تشقق وتباعد.

فمثل قوة هؤلاء يهزم العدو، وبمثل عقلهم وحلمهم تحل الخلافات بين الناس إذا تخاصموا.

ربما يدعو الشاعر قومه في هذا البيت إلى حل الخلاف بينه وبين أقاربه، الخلاف الذي هو سبب قوله لهذا القصيدة وسيكون سبب الهجاء ثم تركه لهم كما سيذكر.


42- عَادَةٌ كَانَتْ لَهُمْ مَعْلُومَةً ٌ … فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ لَيْسَتْ بِالبِدَعْ

البدع: الأمر الجديد المحدث
يقول أن هذه الصفات هي أمر معروف عنهم منذ القدم وهذه القوة وهذه الحكمة ليست شيئا جديدا طارئا عليهم، بل صفة متأصلة مشهورة عنهم.


43- وَإِذَا حُمِّلُوا لَمْ يَظْلَعُوا … وَإِذَا حَمَّلْتَ ذَا الشِّفِّ ظَلَعْ

يظلع: الظلع في الحيوان كالعرج في الإنسان، أي يمشي مرتنحا غير مستوٍ.
الشف هو الثوب الرقيق: ذو الشف ربما يقصد بها الأغنياء ممن يرتدون الملابس الرقيقة، وهذا المعنى الذي ذهب له ابن الأنباري في شرحه، فقد فسرها أنه صاحب الفضل، وربما يقصد الرجل الضعيف رقيق الحال.

يشبه قدرتهم على تحمل المشاق بشيء من البيئة العربية، مثل الجمل القوي إذا حملته وزنا ثقيلا يقوم به ولا يترنح في مشيته، أما غيرهم فلا يستطيع المشي معتدلا إذا حمل، حتى وإن كان ذا شرف وقوة، لكنه لا يقارن بقومه.

44- صَالِحُو أَكْفَائِهِمْ خُلَّانُهُمْ … وَسَرَاةُ الأَصْلِ وَالنَّاسُ شِيَعْ

أكفاء: جمع كفء أي مماثل له.
خلان: جمع خليل، وهو أقرب درجات المحبة والصداقة
سراة الأصل: السراة هي الأرض العالية، أي أنهم رفيعو المقام والنسب.
شيع: أي طرق وجماعات متعددة.

يقول أنهم صالحون في التعامل مع اخوتهم، ويكونون معهم في أشد المودة والأخوة، وهم قمة الناس وأعلاهم شرفا ومكانة، وليس الناس جميعا سواء، فهم طرق متعددة ومذاهب شتى، وهؤلاء القمة فيهم.

 

بعد هذا البيت ينتقل إلى الفكرة التالية، فرغم هذا المدح الذي قاله في حق قبيلته وحبه لهم، إلا أن هناك عائقا يمنعه من البقاء معهم، وسوف يعبر عن حزنه بسبب اضطراره للافتراق عن القبيلة في صورة غزل مجازي أيضا، كما فعل في مقدمة القصيدة، يتكلم عن حبيبة سماها سلمى، يتمنى لها السلامة وهو يتركها، هي التي تركته وذهبت مع حادي القافلة وتركت سويد حزينا ومعلقا بها، وبهذا فهو يعذر نفسه ويُرجع سبب الفراق مع قبيلته إلى تصرفات أفراد منهم وليس بسببه هو، فقد عبر بوضوح عن محبته لهم وأنه كان راغبا في البقاء معهم، وبعده عنهم يحزنه، وهو بذلك يعزو سبب الفراق إلى القبيلة، فهي التي أزمعت نيتها وفارقت ولم يكن هو راغبا فيه، أما هو فأكد حبه وانتماؤه في أبيات كثيرة، هذه من المرات القليلة في الشعر العربي التي يعود فيها الشاعر إلى غرض الغزل ويضعه مرة أخرى في القصيدة.

وقد أخطأ بعض قراء هذه القصيدة في العصر الحديث، حينما ظنوها قصيدتين مختلفتين لنفس الشاعر، بسبب وجود هذه الأبيات الغزلية في المنتصف، ظنوها بداية قصيدة جديدة، وقالوا انهما قصيدتان على نفس القافية والوزن، ولا شك أن هذه قراءة متسرعة، أو قراءة سطحية، نتيجة عدم الفهم، ولا تعطي تسلسلا واضحا للأفكار حتى لو قسمناها.

 لكن عندما نفهمها بشكلها الصحيح كما وردت من كل رواة الشعر القدماء، سيتضح أنه انتقل إلى الموضوع التالي وهو اضطراره لمغادرة أهله رغم حبه لهم، وعبر عن ذلك بالغزل أتمنى أن أكون قد أوضحت لكم الفكرة وسوف تتضح أكثر مع قراءة الأبيات.



45- أَرَّقَ العَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدِعْ … مِنْ سُلَيْمَى فَفُؤَادِي مُنْتَزَعْ

أرق: أي سبب لي الأرق، وهو امتناع النوم.
خيال: هو الصورة التي يتخيلها المرء في ذهنه، وقلنا سابقا إن العرب يتخيلون صورة من الحبيبة تأتي لتظهر أمام حبيبها عندما يشتاق لها.
لم يدع: من الدعة، أي لم يهدأ.
سليمى: تصغير اسم سلمى، وغرض التصغير، والتحبب والدلال.

يقول أنه مشغول البال ومؤرق لا يستطيع النوم بسبب تفكيره في حبيبته سلمى التي هي كناية عن القبيلة، سماها سلمى تيمنا لها بالسلامة بعد الفراق، فكأن قلبه منتزع من داخل جسده، وقد فارقه واستحوذت عليه الحبيبة، فلا يجد سويد الراحة.


46- حَلَّ أَهْلِي حَيْثُ لَا أَطْلُبُهَا … جَانِبَ الحِصْنِ وَحَلَّتْ بِالفَرَعْ

الفرع: هو موضع قالوا إنه بين البصرة والكوفة.

المعنى: ذهبت مع أهلي إلى مكان لم أعد أستطيع أن أطلبها فيه بجوار أحد الحصون، وحلت هي مع أهلها في مكان آخر اسمه الفرع، فافترقنا، استعار الشاعر صورة التنقل الموسمي العربي وافتراق عشائر القبيلة خلف المراعي لتصوير افتراقه مع حبيبته.


47- لَا أُلَاقِيهَا وَقَلْبِي عِنْدَهَا … غَيْرَ إِلْمَامٍ إَذَا الطَّرْفُ هَجَعْ

إلمام: ألم بالأمر إلماما، أي أصاب منه دون أن يتعمق فيه، أخذ منه قدرا بسيطا، أقول هذا الشخص يحدثني لماما، أي من حين لآخر، وليس حديثا مستفيضا دائما.
الطرف: هو النظر.
هجع: رقد للنوم.

هذا بيت جميل، لم يعد يستطيع رؤيتها إلا عندما ينام قليلا فيراها في أحلامه، مع أن قلبه عندها ومعلق بها، فهو يفكر فيها طول الوقت، ولا يستطيع أن يراها في الحقيقة، لهذا يحاول أن يراها قليلا في الأحلام.


48- كَالتُّؤَامِيَّةِ إِنْ بَاشَرْتَهَا … قَرَّتِ العَيْنُ وَطَابَ المُضَّجَعْ

التؤامية: موضع على ساحل البحر عند صحار في دولة عمان الحالية، مشهور باستخراج اللؤلؤ، فيشببها بلؤلؤة من هناك.
باشرتها: أصلها التلامس وإلصاق البشرة بالبشرة، أي إذا كنت معها في مجلس.
قرت العين: تعبير بمعنى الهدوء والاطمئنان.
المضطجع: مكان النوم.

يقول أنها جميلة مثل اللؤلؤة من موضع التؤامية، إن نظرت إليها أرضت عينك وجلبت الراحة والطمأنينة وأصبح الموضع طيبا.

49- بَكَرَتْ مُزْمِعَةً نِيَّتَهَا … وَحَدَا الحَادِي بِهَا ثُمَّ انْدَفَعْ

بكرت: البكرة ي أول النهار، فبكرت معناها ذهبت في أول النهار، كناية عن السرعة واستعجالها في الذهاب.
مزمعة: عاقدة نيتها.
الحادي: والحادي هو قائد القافلة الذي يسوق قافلة الإبل بالحداء أي بصوت الغناء.

يقول أن حبيبته كانت عازمة على الفراق، فخرجت باكرا، واندفعت مع قائد القافلة، واختيار لفظ الاندفاع فيه دلالة على شدة عزمها في الفراق، فلم تذهب ولم تغادر، بل قال غنها اندفعت، كناية على رغبتها في الإسراع بهذا الفراق وكانت ناوية وواعية، وانطلقت مع قائد القافلة المسافرة ثم اندفع بها بعيدا.

الشاعر بهذا يشير إلى أنه ليس سبب الخلاف، بل أفراد من القبيلة التي كنى عنها بالحبيبة، فهي التي كانت مبيتة للنية، وخرجت بسرعة باكرا ثم اندفعت مع المسافرين وتركته خلفها حزينا.

50- وَكَرِيمٌ عِنْدَهَا مُكْتَبَلٌ …  غَلِقٌ إِثْرَ القَطِينِ المُتَّبَعْ

مكتبل: مكبل بالأغلال، يقصد أغلال الحب، فهو متعلق بها.
غلق: غلق الرهن، هو أن يأخذ المرتهن الرهن مقابل عدم السداد، الرهن هو أن تضمن اتفاقا بأن تضع شيئا من مال أو متاع كضمانة، فإذا لم تقدر على انفاذ الاتفاق في الموعد فإنه يغلق، أي يذهب الرهن، فيقول أنها أخذت قلبه معها كمن خسر رهانه.
القطين: هي الدار، نقول فلان يقطن مكان كذا أي يعيش فيه، ويقصد هنا الهودج فوق الجمل، لأنه يتخذ من مادة الخيام، فكأنه منزل يتحرك.

يتكلم عن نفسه، فبينما هي تتركه وتذهب، يقف هو الرجل كريم الأصل والأخلاق، حزينا، مكبلا وقلبه مربوط بها، كالذي خسره في رهان، ذهنه خلف القافلة التي يتبعها ويفكر فيها باستمرار.

ثم سيصور الشاعر حاله مع خصومه بطريقة طريفة جدا، شبه نفسه بحيوان المها بكل هيئته وجمال خلقته، وهو حيوان يعيش في قلب الصحراء، يحب الهدوء والاختلاء بنفسه، فيما خصومه مجموعة من كلاب الصيد الجشعة الحقيرة، تريد أن تقتله لكنها لا تستطيع، وتخاف أن تقترب منه لأنها تعلم أنه سيغرز قرونه الحادة فيها وسيقتلها، فتكتفي بالدوران دون فعل شيء، وكلما اقتربت الكلاب مسافة تحرك الثور بتكاسل واستخفاف بها، رغم أنها تجهد نفسها جدا في محاولة الاقتراب منه. وهكذا يبتعد الثور عنها عندما يتضايق منها ثم لا يجهد نفسه ويقف، وفي النهاية عندما يمل منها يذهب بعيدا إلى عمق الصحراء الخالية التي يدوي فيها الصدى والتي يحب العيش فيها، ولم يذهب لها هربا ولا خوفا.

51- فَكَأَنِّي إِذَا الآلُ ضَحىً … فَوْقَ ذَيَّالٍ بِخَدَّيْهِ سَفَعْ

الآل: هو السراب، وهو الاضطراب الذي يظهر من بعيد وقت ارتفاع الحرارة.
ضحى: وقت الضحى هو وقت ارتفاع الشمس إلى قبل الظهيرة.
ذيال: الثور طويل الذنب.
سفع: سواد يضرب إلى الحمرة، يقصد لون ثور المها، جده أسود وجسده أبيض لامع.

يقول إن حاله بينما ينتشر السراب وقت الضحى، يشبه ثور المها، وجه الشبه بين سويد وبين المها سيظهر في الأبيات التالية، المها حيوان جميل الخلقة وقوي وله هيبة خاصة، يعيش وحيدا بعيدا في عمق الصحراء يعتزل إزعاج الناس وكلاب الصيد التي تحاول مضايقته بشتى الطرق، وهي حيوانات حقودة وتحاول إيذاءه لكنها لا تقدر عليه فيدفعها بعيدا عنه.

سوف تلاحظون أن سويد يقارن نفسه بذكر المها بجمال خلقته وبهائه وقوته، وبترفعه عن الكلاب الحقيرة، وأعداؤه ككلاب الصيد، شجعة ومزعجة لكنها لا تقدر على إيذاء سويد، وهو يعتزلهم بعد أن يضربهم، بعدا عن إزعاجهم، لا خوفا منهم.


52- كُفَّ خَدَّاهُ عَلَى دِيبَاجَةٍ … وَعَلَى المَتْنَيْنِ لَوْنٌ قَدْ سَطَعْ

كف: أي ضم وجمع
ديباجة: نوع من القماش الناعم
المتنين: الكتفان وما ورائهما من ظهر الحيوان

 يصف خلقة ثور المها مثل هذه الصورة، خداه مضمومان على فرشة كالقماشة الناعمة، وهي صفة وجه المها ، وعلى جانبي أكتافه لون أبيض ناصع

53- يَبْسُطُ المَشْيَ إِذَا هَيَّجْتَهُ … مِثْلَ مَا يَبْسُطُ فِي الخَطْوِ الذَّرَعْ

يبسط أي يزيد.
الذرع: هو سعة الخطوة، ذرع الطريق: قطعه بسرعة كأنه يقيسه.

يقول أنه المها هادئ، لكنه يستطيع أن يزيد خطواته ويسرع في مشيته إذا اهتاج، فيمشي سريعا يمد في خطواته، ويزيد مسافة خطوته عندما يهتاج.

يريد الشاعر أن يشير إلى نفسه عن طريق التشبيه بهذا الحيوان، فيقول أنه هادئ في العادة لكنه يستطيع أخذ فعل إذا استفزه خصومه، فلا يصيبه من أعدائه ضرر.

 
54- رَاعَهُ مِنْ طَيِّءٍ ذُو أَسْهُمٍ … وَضِرَاءٌ كُنَّ يُبْلِينَ الشِّرَعْ

راعه: أخافه أو نشطه، الريعان هو فورة ونشاط الشباب.
من طيء: أي صياد من قبيلة طيء.
ضراء: الكلاب التي ضريت وأصبحت شرسة للصيد، أي أعدت له.
الشرع: جمع شِرعة، وهي العرق والوتر، فالشرع معناها الأوتار.

المعنى: تحفز الثور وازداد نشاطه بسبب صياد من قبيلة طيء معه قوس وسهم وكلاب شرسة، تقطع أوتار الحيوانات.

 
55- فَرَآهُنَّ وَلَمَّا يَسْتَبِنْ … وَكِلَابُ الصَّيْدِ فِيهِنَّ جَشَعْ

يستبن: تعني يستوضح.
جشع: هو شدة الطمع والحرص.

المعنى أن المها رأى الصياد وكلابه قادمين من بعيد، ولم يستوضح الأمر ولم ينظر باهتمام لاستهتاره بهم، يكفيه أن يعلم أن هؤلاء المزعجين الصاخبين قد وصلوا، ويذم كلاب الصيد بأنها حيوانات جشعة طماعة، مثل خصوم سويد.


56- ثُمَّ وَلَّي وَجَنَابَانِ لَهُ … مِنْ غَبَارٍ أَكْدَرِيٍّ وَاتَّدَعْ

جنابان: أي جانباه.
أكدري: الكدرة هي الغبار الذي يحجب الرؤية وحجب الضوء.
واتدع: لم يجهد في العدو، أبطأ في عدوه وذلك لثقته بنفسه وبسرعته.

يصف شكل الثور وهو يولي، يقول تولى الثور للخلف فأثار الغبار حوله من جانبيه بقوائمه القوية، ومضى متمهلا في مشيه غير خائف لأنه مستهتر بالكلاب وواثق من قدرته على صدرها.

 
57- فَتَرَاهُنَّ عَلَى مُهْلَتِهِ … يَخْتَلِينَ الأَرْضَ وَالشَّاةُ يَلَعْ

مهلته: على تمهله وسيره البطيء.
يختلين: يقطعن الأرض قطعا، أي يجتهدن لتصل إليه.
الشاة: يقصد بها المها.
يلع: يكذب، مستهتر، أي لا يصدق في جريه، يجري جريا خفيفا غير صادق.

يقول أنك ترى الكلاب تجهد نفسها وتجري خلفه لتحلق به وهو لا يجري إلا جريا خفيفا كأنه غير جاد في جريه، وهذا لهوان قدرها، الشاعر يلمح لهوان قدر خصومه، فهم يبذلون جهدا كبيرا جدا ليصلوا إلى مقدار يحققه هو بتمهل واستهتار، يجهدون ليلحقوا به ليؤذوه، وهو لا يبذل إلا جهدا خفيفا للابتعاد عنهم لأنهم بلا قيمة.


58- دَانِياتٍ مَا تَلَبَّسْنَ بِهِ … وَاثِقَاتٍ بِدِمَاءٍ إِنْ رَجَعْ

دانيات: مقتربات.
ما تلبسن: لا تلتبس به، لا تلتحم به أو تقترب منه كثيرا خوفا منه.

يقول أنها تقترب منه لكن ليس كثيرا لحد أن تلتصق به، لأنها تخاف منه، بسبب جبنها هي تحوم حوله فقط، لأنها متأكدة أنه سيطعنها بقرنه الطويل ويقتلها وسيسيل دماءها إن ارتد إليها واتجه نحوها، الشاعر يظهر بصورة عبقرية سعة الفارق بينه وبين أعداءه بهذه الصورة المبتكرة.

59- يَرْهَبُ الشَّدَّ إِذَا أَرْهَقْنَهُ … وَإِذَا بَرَّزَ مِنْهُنَّ رَبَعْ

يرهب الشد: أي يسرع في السير.
برز: ظهر، أصبح بارزا ظاهرا منهم.
ربع:  كف، ونقول اربع على نفسك أي اهدأ.

يقول أن الثور يسرع في الجري إذا أرهقه إلحاح الكلاب وتضايق منها، حينها يسرع في الجري، فإذا ابتعد عنها مسافة كافية وظهر منها خفف جريه، وهكذا فهو لا يبذل معهم جهدا إلا قدر ما يستحقون ولا يشغلون باله كثيرا.  


60- سَاكِنُ القَفْرِ أَخُو دَوِّيَةٍ … فَإِذَا آنَسَ الصَّوْتَ امَّصَعْ


ساكن القفر: هي الأرض الخلاء
دوية: الأرض الخلاء التي يدوي فيها الصدى لا تنفع لسكنى البشر
امصع: الذهاب في الأرض، أي الابتعاد لأنه لا يحب قرب الإنسان.

 بقر الوحش أو المها معتاد على سكنى الصحاري الواسعة والهدوء ويرتاح في البعد عن الصوت، فإذا أحس بصوت الإنسان وتضايق ذهب وعاد إلى الصحراء بعيدا عن الإزعاج، لأن هذه طبيعته، وليس لأنه خائف من الكلاب أو أنها تعجزه، وكذلك سويد في صراعه، خصومه مثل الكلاب، يزعجونه وهو قادر على هزيمتهم ويترك المكان تعاليا عنهم لا ضعفا.


61- كَتَبَ الرَّحْمَنُ وَالحَمْدُ لَهُ … سَعَةَ الأَخْلَاقِ فِينَا وَالضَّلَعْ

الضلع: القدرة على حمل الأثقال والمسؤوليات، نقول رجل ضليع، أي رجل يقدر على تحمل المسؤوليات.

عاد من ضرب المثل إلى الكلام المباشر، فيقول أن المكانة التي هو فيها وارتفاع مقامه عن أعداءه هي نعمة من عند الله، فقد خلق الله الناس طبقات، هو الذي خلقنا بهذه الأخلاق العالية، وهذه المقدرة العالية على تحمل الأمور.

واختار سويد لفظ الرحمن، وهو من أسماء الله الحسنى الذي لم يكن مستعملا في الجاهلية، فيدل أن القصيدة إسلامية، وكنت قلت في المقدمة أن القصيدة ربما تكون جاهلية أو إسلامية، لكن بعد التمحيص فالقصيدة إسلامية، لعدد من الشواهد منها ورود كلمة الرحمن وعدة كلمات أخرى متأثرة بالإسلام، ومنها أن القصة التي حدثت له وكانت سببا في إنشاده القصيدة حدثت في أواخر حياة الشاعر في عصر الدولة الإسلامية.

وصلنا الآن إلى النصف الثاني من القصيدة، ويخصصه الشاعر لهجاء خصومه من أولاد عمه والتحقير منهم وبيان فضله عليهم، سوف يستمر في هذا لخمسين بيتا تقريبا، أي ما يساوي حجم قصائد كاملة، يبدأ بالفخر على خصومه، يظهر أنه أعلى منهم منزلة، وهذه الفوارق هي إرادة الله، الذي زرع فيهم هذه الصفات، ولا يوجد شيء يفعلونه حيال ذلك، فهي إرادة الله، ثم يقول أن الافتراء الذي يرددونه عنه هو حسد وكراهية موروثة لن تؤثر فيه، فقد كبر في السن وخبر الحياة ولم يهتز ولن يسقط الآن بسبب كلام تافه.


62- وَإِبَاءً لِلدَّنِيَاتِ إِذَا … أُعْطِيَ المَكْثُورُ ضَيْماً فَكَنَعْ

إباء: هو الترفع مع الكبرياء، وعزة النفس.
الدنيات: الدنية هي النقيصة والأمر الحقير.
المكثور: من تكاثر عليه الناس وغلب على أمره.
ضيما: الضيم هو الظلم.
كنع: خضع، وكنع فلان، أي خفض رأسه من الذل.

وجعل الله من صفاتنا العزة، وأننا نرفض الدنية وأن يحتقرنا أحد، حتى عندما يقع الظلم الشديد الذي يجعل الناس ترضخ، ربما يقع على غيرنا وتتكاثر عليهم الأمور ويتكاثر عليهم الناس فيضطرون للقبول ويخضعون، أما نحن فلا نفعل ذلك. يبين أنه لا يقبل الإهانة حتى لو تكاثر عليه الناس ولا يقبل المساومات.

وَبِنَاءً لِلْمَعَالِي إِنَّمَا … يَرْفَعُ اللهُ وَمَنْ شَاءَ وَضَعْ


وجعل الله من أقدارنا أننا بناة المجد والمعالي، والله يرفع قدر من يشاء، يقصد نفسه، ويضع قدر الآخرين ويقصد خصومه، مرة أخرى بصيغة الإقرار، فهذه أقدار الله ولا يمكن لهم أن يغيروها.

63- نِعَمٌ للهِ فِينَا ربَّها … وَصَنِيعُ اللهِ وَاللهُ صَنَعْ

ربَّها: ربب النعمة: حفظها وأصلحها وأتمها.

هذه العزة وعلو القدر والمجد نعم أنعمها علينا الله، وهو الذي أتمها فينا وأصلحها، وهذا صنيع الله، الله الذي صنعه وانتهى الأمر، ولا يقدر أحد على رد أقدار الله، فماذا يمكن أن يفعل كارهوه؟


64- كَيْفَ بِاسْتِقْرَارِ حُرٍّ شَاحِطٍ … بِبِلَادٍ لَيْسَ فِيهَا مُتَّسَعْ

شاحط: متفرد، بعيد، شواحط الأودية، ما تباعد منها، يقصد أن من طبعه الخلو بنفسه والابتعاد عما يسيء له.
والشاحط من الإبل هو المتباعد عن القطيع.
متسع: اسم مكان، مكان يتسع لمقامه.

هذا البيت مؤثر جدا، انتقل فيه إلى ذكر همومه، المعنى: كيف يمكن أن يستقر إنسان حر لا يقبل الظلم، انسان متفرد من طبعه الاختلاء بنفسه، كيف يمكن أن يستقر في بلاد لا تتسع له وكأنها لا تقبله؟ استفهام بغرض الإنكار، بمعنى لا يمكن ان يستقر رجل حر مثله في مكان مثل هذا، فالرجل الحر لا يقبله.

تضيق البلاد وتتسع بأخلاق أخلها، فإن كانوا أفقر خلق الله، لكن يجد المرء منهم الاحترام والعدل فإنه يحب أن يبقى معهم، وإن أحس فيها بالإهانة كرهها ولو كانت أغنى بلاد الله ولو كانت بلاده.

65- لَا يُرِيدُ الدَّهْرَ عَنْهَا حِوَلا … جُرَعَ المَوْتِ وَلِلمَوْتِ جُرَعْ  

حولا: تحولا، تغيرا

لا يريد سويد أن ينتقل عنها أبدا طول الدهر، فهجر البلاد كأنه قطعة من الموت، نعم للموت جرع كبيرة وصغيرة تقتل القلب
يقول أن اضطراره إلى ترك بلاده يؤلمه وكأنه يأخذ جرعا صغيرة من الموت.

وفي السابق كانت عقوبة النفي عن البلاد من أشد ما يوقع على الإنسان، فكأنه ينقطع عن حياته التي يعرفها ويعيش في بلاد غريبة مع أناس لا يعرفهم، وينسى، فلا يذكره أهل بلده ولا يهم به أهل المنفى، وهذا أقل قليلا من الموت.

66- رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً قَلْبَهُ … قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ

رب: من حروف الجر، هو حرف يفيد الاحتمالية، نستعمل الآن مكانها ربما كان كذا.
أنضجت قلبه غيظا: صورة جميلة تصور شدة الحسد في صدر عدوه كأن في صدره نارا حامية، أنضجت قلبه من حرارتها كأنه على قدر يطبخ.

يتكلم عن عدو له، يقول ربما يكون هذا الذي نضج قلبه من نار الحسد، يتمنى لي الموت ولا يجاب إلى طلبه، فتزداد نار الحسد في قلبه كل يوم، ويظل يحترق من داخله كلما رآني.


67- وَيَرَانِي كَالشَّجَا فِي حَلْقِهِ … عَسِراً مَخْرَجُهُ مَا يُنْتَزَعْ

الشجا: هو ما يعترض في الحلق من العظم أو أي جسم صلب لا يبلع، فيغص به ويكاد يختنق، يصور الكراهية الشديدة التي يحملها هذا الشخص تجاه سويد، فكأن سويد يقف في حلقه عدوه، يزعجه ولا يستطيع إبعاده.
عسرا: أي صعبا.

يقول أن عدوه يراه كالغصة الخانقة المحشورة في حلقه من شدة غيظه، ولا يملك وسيلة لنزعها فيظل يتعذب به.

ونحن في مصر نستعمل هذه الصورة تماما عند الكلام عن الكراهية والغيظ، فنقول هذا الشخص لا ينزل من حلقي، كناية عن شدة الكراهية، وأنني لا أطيقه.


68- مُزْبِدٌ يَخْطِرُ مَا لَمْ يَرَنِي … فَإِذَا أَسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ

مزبد: المزبد هو شديد الغضب، الذي يقذف بالزبد من فمه، وهذا تشبيه له بالجمل الغاضب، فإن الجمل عندما يغضب بشدة يخرج من فمه الرغاء والزبد الأبيض، والزبد هو الرغوة البيضاء التي تتكون عن سطح البحر بفعل الأمواج.
يخطر: يتضخم ويشتد في كلامه.
انقمع: انكمش ودخل بعضه في بعض، ونسمي قمع الورق بهذا الاسم كأنه يتداخل يتضاءل.

المعنى: أن عدوه يهدد ويتوعد ويعلو صوته حتى يظهر الزبد على فمه من كثرة الصراخ مثل الجمل، طالما لم ير سويد ويعرف أنه غير موجود، فإذا تنحنح سويد وجعله يسمع صوته تضائل الرجل وانكمش، الصورة فيها إهانة بالغة وتحقير لهذا الجبان الذي يسب سويد ويلعو صوته بعيدا عنه لأنه لا يقدر على المواجهة، وعندما يراه فإنه يخرس لخوفه وانعدام الجرأة عنده.


69- قَدْ كَفَانِي اللَّهُ مَا فِي نَفْسِه … وَمَتَى مَا يَكفِ شَيْئاً لَا يُضَعْ

كفاني: كفه وصرفه عني.

المعنى: يحمد سويد الله ويتوكل عليه في كف هذا الحاقد وإبعاد أذاه عنه، يحقدون عليه بقلوبهم ولا يستطيعون الكلام، ومتى ما يكف الله شيئا فإنه لا يضيعه.

في هذا البيت نفس ومعنى إسلامي واضح وتأثر بالقرآن الكريم: مثلا في الآية التي تقول فسيكفيكهم الله، أي أن الله سيكفي الرسول أعداءه ولن يتمكنوا منه.

70- بِئْسَ مَا يَجْمَعُ أَنْ يَغْتَابَنِي … مَطْعَمٌ وَخِمٌ وَدَاءٌ يَدَّرَعْ

بئس: فعل ذم ، دعاء عليه بأن يصيبه البؤس وشدة الحاجة.
يغتابني: الغيبة هي التكلم بالسوء من وراء الظهر.
وخم: وخم الطعام كان ثقيلا وفاسدا، مطعم وخم، طعام فاسد لا يقدر على هضمه.
يدرع: يتخذ درعا يحتمي به.

ما أقبح فعله، كل ما يستطيع أن يفعله أن يغتابني ويتكلم عني بسوء، ولا يقدر على غير ذلك، وما أقبح هذا، فهو كمن أكل طعاما أكبر من قدرته على هضمه، كأنه أدخل نفسه في أمر أكبر منه، وبئس هذا الفعل كأنه يحتمي بشر الأمور وأخبثها، ويتخذه غطاء له، وهو بهتان الناس وغيبتهم.


71- لَمْ يَضِرْنِي غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِي … فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ مَا يَزْقُو الضَّوَعْ

يزقو: زقا الطائر أي صاح بصوت عالٍ.
الضوع: ذكر البوم.

يقول ليس عنده من القوة غير الصياح، ولا يقدر أن يضرني إلا بأن يحسد، ويستهزئ به فيشبهه أنه يصيح فقط بصوت كصوت البوم الكئيب الذي يكرهه الناس، يصيح ولا يقدر على فعل شيء غير ذلك.


72- وُيَحَيِّينِي إِذَا لَاقَيْتُهُ … وَإِذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ

رتع: إذا ترك إبله ترعى، تمادى بلا رادع.

 المعنى واضح، يصور حقارة هذا الرجل، فهو كعادة الحقدة منافق، يظهر المحبة ويلقي السلام إذا قابلته، وعندما يفرغ الجو ويتاح له المجال ليتكلم في عرضي وشرفي من ورائي فإنه يتمادى.


73- مُسْتَسِرُّ الشَّنِّ، لَوْ يَفْقِدُنِي … لَبَدَا مِنْهُ ذُبَابٌ فَنَبَعْ

مستسر: يسر بغضه داخله ويكتمه لأنه لا يقدر أن يواجه، فهو ينافق.
الشن: الشنآن وهو البغض.
ذباب: الأذى، وفلان ذباب، إذا كان كثير الأذى.
نبع: ظهر، ونبع الماء أي خرج من الأرض فظهر.

المعنى أنه يكتم حقده ويحمله داخله، وعندما لا يراني يخرج منه قبيح الكلام ويظهر منه الأذى.


74- سَاءَ مَا ظَنُّوا وَقَدْ أَبْلَيْتُهُمْ … عِنْدَ غَاياتِ المَدَى كَيْفَ أَقَعْ

أبليتهم: سببت لهم البلى، وهو الفساد، أي أنهم تغيروا وفسد أمرهم بسبب طول مجابهة سويد، وهو كما هو.
المدى: الغاية والمنتهى.

يقول: إن أعداءه يظنون أنهم سيوقعون به ويهينونه، وقد خاب ظنهم وهو الذي أبلاهم وأفسد عليهم أمرهم بطول مواجهتهم، كيف يظنون أنهم سيوقعون به وقد بلغ هذا السن من عمره وتطاولت به الأيام، فهو رجل مجرب خبير، لا يقع في الخديعة في سن كهذه.


75- صَاحِبُ المِئْرَةِ لَا يَسْأَمُهَا … يُوقِدُ النَّارَ إِذَا الشَّرُّ سَطَعْ

المئرة: العداوة.
يسأمها: يمل.

يقول إن الحقود لا يتوقف عن حقده أبدا، ولا تهدأ النار في قلبه، ولا يمكن أن تجعله يتوقف، يتحين الفرصة عند أول بادرة للشر، فيشعل نار الضغينة بين الناس ويؤلبهم، فالحقود يظل حقودا دائما وإن أخفى ما في قلبه إلى حين، هكذا يقول سويد.


76- أَصْقَعُ النَّاسِ بِرَأْيٍ صَائِبٍ … لَيْسَ بِالطَّيْشِ وَلَا بِالمُرْتَجَعْ

 

أصقع: أضرب على الرأس، وقد مرت علينا في أول القصيدة عندما قال يأخذ السائر فيها كالصقع، أي كالضرب على الرأس.
الطيش: هو خفة العقل والنزق.
المرتجع: الكلام الذي يرجع فيه صاحبه، لتردده وعدم ثقته.

يقول إنه يضرب الناس بالرأي الصائب علة رؤوسهم، وهو يعرف ما يقول فيهم، فلا يحكم عليهم بسرعة ويتكلم بخفة عقل وطيش ولا يقول كلاما متسرعا أرجع فيه بعد ذلك.

يقصد أنه عندما حكم عليهم بهذه الصفات الذميمة، لم يكن طائشا ولا متسرعا، بل إنهم يستحقون.


77- فَارِغُ السَّوطِ فَمَا يَجْهَدُنِي … ثَلِبٌ عَوْدٌ وَلَا شَخْتٌ ضَرِعْ

فارغ السوطِ: في الشرح أنه مثل معناه أنه مشغول عما حوله فلا يهتم بهم، فهو لا يضرب بسوطه لأنه يتقدم ويسبق الجميع.
عندما يريد الرجل أن يسرع فإنه يضرب الحيوان بالسوط، لكن سويد يقول أنه يسبقهم فضلا بكثير، فلا يستعمل سوطه لأنه يسبق بكثير، وهذا معنى فارغ السوط.
ثلب: الكبير من الإبل وهو العَود، أي القوي.
شخت: النحيف الدقيق.
ضرع: صغير، ما زال يتعاطى الضرع.

المعنى: يقول أنه يسبق هؤلاء الناس فضلا بكثير، لدرجة أنه لا يجهد نفسه ليسبقهم، ولا يبذل جهدا في ذلك، ولا يهمه إن كان الآخرون كبارا أقوياء أم صغارا، لا يهمه كبيرهم ولا صغيرهم، كللهم خلفه.


في القسم الأخير نصل إلى ذروة القصيدة وتصاعد الأحداث، يمكن أن نعتبر كل الأبيات السابقة تمهيدا للأبيات القادمة التي هي غرضه الحقيقي، وهو الهجوم على أعدائه وإثبات تفوقه عليهم، سيواصل سويد إثبات علو مكانته واستحالة سقوطه أمام  خصومه في هذا السن، ويؤكد أن خصومه يتوارثون الحقد والجهل جيلا بعد جيل، وكما وقف أمام أسلافهم ولم يؤثروا فيه، سيقف أمام هؤلاء المحدثين.

 ثم يشبه سويد نفسه بالصخرة العالية القديمة، التي صمدت على طول الزمن وأهلكت الأمم السابقة ولم تتزحزح، ولم يستطع أحد منهم اقتلاعها، وما زالت تقف عالية فوق رؤوس الناس، وإذا حاول الحاقد الحاسد أن يضربها فهو يضر نفسه ويكسر قرونه وهي كما هي لا تتأثر، وأكثر في وصف هذه الصخرة الشامخة التي يصور نفسه بها ليدل على الفارق بينه وبينهم في المكانة.

78- كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا … لَاحَ فِي الرَّأْسِ بَيَاضٌ وَصَلَعْ

يرجو: يريد ويأمل.
لاح: بدا أو ظهر.
بياض: يقصد المساحات الفارغة من رأسه والتي انحسر الشعر عنها.
الصلع انحسار شعر الرأس عند الرجل، وبالطبع فهو يحدث عندما يكبر سنه.

يسأل على سبيل التعجب، كيف يأمل خصومه صغار القيمة أن أسقط الآن ويهزمونني بعد أن شاب رأسي وكبرت سني وخبرت الحياة، لن يحدث لأنه ليس طفلا صغيرا ولن يؤثر فيه كلامهم.  

79- وَرِثَ البِغْضَةَ عَنْ آبَائِهِ … حَافِظُ العَقْلِ لِمَا كَانَ اسْتَمَعْ

البغضة: الكراهية.
حافظ العقل لما كان استمع: أي أنه يردد كلاما حفظه وسمعه دون فهم.

يشير إلى أن من يرددون الكلام المسيء هم من الصغار، أولاد خصومه، ويحملون هذه الكراهية الموروثة، سمعوا الكلام من آبائهم ويرددونه دون عقل، وكما هزم آباءهم فسوف يهزم هؤلاء.


80- فَسَعَى مَسْعَاتَهُمْ فِي قَوْمِهِ … ثُمَّ لَمْ يَظْفَرْ وَلَا عَجْزاً وَدَعْ

يظفر: فاز بالشيء وناله، حصل عليه.
العجز: هو الضعف، عدم القدرة على القيام بأمر ما.
ودع: ترك.

يقول أن هؤلاء الحدثاء يسعون بالشر ضده كما سعي الأولون قبلهم، وحاولوا مثلما حاول أولئك، ثم لم ينالوا شيئا مما يريدون،
ولم يغادره ضعفه وعجزه، أي أنه ظل على حاله.


81- زَرَعَ الدَّاءَ وَلَمْ يُدْرِكْ بِهِ … تِرَةً فَاتَتْ وَلَا وَهْياً رَقَعْ

الداء: هو المرض القديم المزمن، يشير إلى أن كراهيتهم قديمة ومتوارثة من الآباء.
ترة: بحثت عنها ولم أعثر على معناها الدقيق، لكن من السياق يبدو أنها الثأر.  
وهي: هو الضعف وهو أيضا الحمق وضعف الذاكرة.
رقع: أي سد الخرق والثقوب.

يقول أن المحرضين زرعوا الداء القديم بين الناس وأورثوا البغضاء لأولادهم، ثم لم يدركوا به ثأرا لهزائمهم السابقة، ولا رقعوا عيوبهم ومخازيهم، فظلوا كما هم ولم يدركوا شيئا، يؤكد مرة أخرى أنه هزم أسلافهم قديما ولم يستطع أولادهم الثأر لهم ولم يستطيعوا تغطية مخازيهم، ولم يصلحوا عيبوهم.

82- مُقْعِياً يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ … فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ

مقعيا: يجلس كإقعاء الكلب، يجلس على مؤخرته كما يجلس الكلب، وهو بذاك يهينه.
يردي: يحاول أن ينزل.
صفاة: الصخرة الملساء اللامعة.
لم ترم: يروم: أي يطلب الشيء، لم ترم معناها: لم يصل لها أحد.
ذرى: هي قمم الجبال.
أعيط: الجبل الطويل، ففي ذرى أعيط، معناها في قمم جبل عال مرتفع.
وعر: غليظ شديد صعب تسلقه.

يقول أن خصمه يجلس على مؤخرته كالكلب في هذه الهيئة الحقيرة، وهو يحاول أن يسقط  صخرة لامعة، لم يقدر أحد على الوصول لها، تستقر فوق قمة جبل مرتفع هو أصلا صعب الصعود بحد ذاته، وهذا الكلب الحقير يريد أن يصعد فوق هذا الجبل ويسقطها من موضعها العالي، يشبه سويد مكانته بهذه القمة العالية، لا يستطيع الناس مجاراة مكانته العالية، فيما يحاول خصمه أن يسقطه وهو جالس على مؤخرته كالكلب، وهو بهذه الهيئة الحقيرة يحاول أن يقارن نفسه به.


83- مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كَانَ بِهِ … غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أَنْ تُقْتَلَعْ

معقل: العقل هو الربط والثبات، وسمي العقل كذلك لأنه يثبت الإنسان، فمعقل اسم مكان، تعني المكان الذي يثبت فيه الإنسان ويتحصن ولا يمكن إخراجه منه.

هذه الصخرة العالية هي موقع حصين يأمن من يقف عندها ولا يستطيع أحد إيذاءه

أي أن سويد مطمئن على نفسه من خصومه بسبب مكانته المعروفة التي تحميه، هو مثل الصخرة العالية التي لا يصعد لها أحد، ومن يلتجئ بها يطمئن على نفسه، ولا يقدر أحد على اقتلاعها من مكانها، خاصة إذا كان في مكانة ذلك الكلب المقعي الجالس على مؤخرته.

84- غَلَبَتْ عَاداً وَمَنْ بَعْدَهُمُ … فَأَبَتْ بَعْدُ فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ

عاد: هي قبيلة عاد التي وردت في القرآن الكريم، وهي من قبائل العرب البائدة القديمة، يشير لها العرب عندما يتحدثون عن الأم القديمة والبائدة.
تتضع: يتضع أن يتذلل ويخضع، وأصلها أن يتضع البعير فيخفض رأسه كي يركب عليه الإنسان.

يقول هذه الصخرة شامخة وعالية منذ الأزل، وقد مرت عليها الأقوام القديمة وذهبوا وعاشت أكثر منهم وظلت شامخة كما هي، هزمتهم جميعا وبقيت.

أي أن مكانة سويد في قومه قديمة وراسخة وقد حاول قبله أن ينزلوها فهزمتهم ولم يخضع لأحد

85- لَا يَرَاهَا النَّاسُ إِلَّا فَوْقَهُمْ … فَهْي تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ

ومع قدمها، فهي عالية المقام، دائما موضعها فوق رؤوس الناس، ولأنها عالية المقام فوق الناس، شبهها بملك أو شخص متصرف، فهي تفعل ما تريد لهذا أو تتركه.

يقول سويد أن مكانته فوق مكانة هؤلاء، ودائما هو فوقهم كالصخرة العالية المعلقة في السماء.


86- وَهْوَ يَرْمِيهَا وَلَنْ يَبْلُغَهَا … رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى مَا صَنَعْ

رعة: الريعان والنشاط.  

ومع كل هذا العلو والمقام، وكل الفارق بين وبين خصومه، يأتي هذا الجاهل الذي يحسده ويرمي عليها الحجارة والأذى يظن أنه سيؤذيها، وهو يعجب بجهله ويظن أنه فعل شيئا، وهكذا هيجان الجاهل الأحمق، يرضى بصنيعه ويظن أنه فعل شيئا، لأنه جاهل لا يعلم.


87- كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيِضَّتَا … فَهُوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نَزَعْ

كمهت: أصابه العمى.
يلحى نفسه: تلاحى الناس أي سب بعضهم بعضا، فالمعنى أنه يلوم ويسب نفسه.
نزع: نزع الشخص عن الأمر، كف وانتهى عنه، ونزع المريض أي احتضر وأشرف على الموت.

يقول أن هذا الشخص قد طال عمره حتى أصيب بالعمى وابيضت عينه من شدة حقده وطول سنه ولم يصب منه شيئا، فأخذ يؤنب نفسه ويلومها عندما وصل إلى هذه الحالة من السن والحقد ولم يصب شيئا مما يريد من أذية سويد.

88- إِذْ رَأَى أَنْ لَمْ يَضِرْهَا جَهْدُهُ … وَرَأَى خَلْقَاءَ مَا فِيهَا طَمَعْ.

خلقاء: هي الصخرة الملساء اللامعة

أخذ هذا الحاقد يؤنب نفسه ويلومها، لأنه رأى أن كل ما فعله من أجل إنزال الصخرة العالية من مكانها لم يضرها ولم يؤثر فيها على الإطلاق، وبعد كل ما فعل ينظر فيرى الصخرة التي أفنى حياته في محاولة إنزالها ما زالت لامعة شامخة لا يطمح أحد في النيل منها، فتتحسر نفس الحاقد أكثر وأكثر

89- تَعْضِبُ القَرْنَ إِذَا نَاطَحَهَا … وَإِذَا صَابَ بِهَا المِرْدَى انْجَزَعْ

تعضب: تكسر القرن، من الظبي الأعضب الذي انكسر أحد قرنيه.
المردى: الحجر الصلب الذي يرمى به فتردي الإنسان أي تقتله، وتكسر بها الأحجار الأخرى ذكرها طرفة أيضا في معلقته فقال المرداة.
انجزع: ظهرت فيه علامات الجزع، تشقق، انكسر.

يصور هنا شدة صلابة هذه الصخرة، فهي تكسر قرون الوعل إذا حاول نطحها، وإذا ضربت بها أقوى الصخور فإنها لا تؤثر فيها، بل إنها تشققها وتكسرها، أي أن هذا الصخرة لا يؤثر فيها شيء ولا شيء يمكن أن يكسرها.


90- وَإِذَا مَا رَامَهَا أَعْيَا بِهِ … قِلَّةُ العُدَّةِ قِدْماً وَالجَدَعْ

رامها: رام هدفا أي نشده وطلبه.
أعيا به: عيي بالأمر أي لم يقدر عليه عابه وقصر به.
الجدع: النقص والقطع، الناقة المجدعة هي المقطوعة الأذن أو المعيبة.

يقول أنه إذا قصد الوصل لهذه الصخرة العالية، لم يقدر على ذلك بسبب ما يعتريه من أسباب الضعف والتقصير التي تجعله غير قدار على إيذائها، أي أن فارق الإمكانيات والمكانة الكبيرة بين سويد وبين خصومه يجعلهم غير قادرين على إيذائه.


في الأبيات التالية سينتقل لوصف صورة طريفة للتراشق اللفظي والسباب الذي حدث بينه وبيه خصومه كأنهم يتراشقون بأسهم مسمومة، وعاونه في هذا شيطانه الذي يلقنه الكلام على لسانه ويعلمه احتقار الناس وينطق بالقذع وبذيء الكلام على لسان سويد، كما كان العرب يعتقدون أن الشياطين تلقن الشعراء الشعر، وفي النهاية بعدما أجهز سويد على خصومه وبعدما بين الأمر بوضوح، يؤكد أنه ترك المكان وخرج منتصرا مثل الأسد القوي، الذي يترك المكان لأن الأرض تحته مبتلة وقذرة فيذهب لغيرها.


91- وَعَدُوٍّ جَاهِدٍ نَاضَلْتُهُ … فِي تَرَاخِي الدَّهْرِ عَنْكُمْ وَالجُمَعْ

عدو: يريد بها عدوا واحدة أو جماعة منهم.
جاهد: يبذل أقصى جهده، والشاعر يصف عدوه بالصفات القوية مدحا لنفسه، لأنه سوف يهزمه بعد ذلك، فيجب أن يهزم عدوا قويا وإلا كان انتصارا لا قيمة له.
ناضلته: أصلها من التناضل وهو تبادل الرمي بالأسهم، والمعنى أنهم وقفوا يتفاخرون ويتبارون بالكلام
تراخي الدهر: يقصد أنهم ظهروا في تطاول الزمن وغفلة من الناس، أو أنكم لم تكونوا موجودين عندما فعلت ذلك.  

يتكلم عن عدو له، ربما يكون رجلا واحدا أو رجالا كثيرين، وقف أمامهم واحتد بينهم الكلام القوي كأنهم يتناضلون بالأسهم، فيرمي كل واحد منهم سهما من الكلام اللاذع على عدوه، والكلام حقا يكون مؤذيا وقاتلا ولا فرق بينه وبين السهم الذي يخترق القلب، ولهذا فهذا التشبيه موفق، ويقول الشاعر أن هذا حدث هذا بينما كان الآخرون يقضون أمورهم ومنشغلون في أمور أخرى كأنهم لا يعلمون، أو كأن الزمن متراخ عنهم وغافل، أي أنه منذ القدم يعارض هؤلاء وأن خصومتهم قديمة.


92- فَتَسَاقَيْنَا بِمُرٍّ نَاقِعٍ … فِي مَقَامٍ لَيْسَ يَثْنِيهِ الوَرَعْ

تساقينا: سقى بعضنا بعضا من هذا السم.
ناقع: النقع هو طول المكث في الماء، والسم الناقع هو السم المركز القاتل، لأنه أشرب كثيرا حتى تركز.  
يثنيه: أي يرده ويردعه.
الورع: التقوى.

يقول أنهم تبادلوا السباب وتراشقوا بالكلام القوي القبيح، الذي شبهه بالسم  المنقوع المركز الذي سقى بعضهم بعضا منه، في موقف لا يرده ولا يردعه التقوى، يقول أن  الأخلاق والكلام الطيب لا تنفع مع هؤلاء في مثل هذا الموقف، بل إن هؤلاء لن يرتدعوا إلا بالشدة وقبيح الكلام.

هذا الوصف يتماشى مع القصة التي وردت عن سويد بأنه دخل في خلاف مع أولاد عمه من بني شيبان فهجاهم وهجاه شاعر منهم.


93- وَارْتَمَيْنَا وَالأَعَادِي شُهَّدٌ … بِنِبَالٍ ذَاتِ سُمِّ قَدْ نَقَعْ

ارتمينا: أي رمى بعضنا بعضا بالأسهم.
نبال: هي الأسهم، والنبل هو الرمي بالأسهم.

يصور الشاعر المعركة الكلامية التي قامت بينه وبين خصومه كأنهم يتبادلون الرمي بالأسهم المسمومة، حيث ينقع حد السهم في سم قاتل حتى يتشربه، فيكفي جرح بسيط منه إلى قتل الإنسان،  فما زال يشبه الكلام القوي بالسهم القاتل المسموم.

ويؤكد سويد أن هذا حدث هذا أمام أعداء آخرين لسويد، وأرغموا أن يشهدوا له بالتفوق، رغم أنهم أعداء له أيضا ويودون ألا يقروا بانتصاره، لكن تفوقه الباهر يرغمهم على الشهادة له، ومن براعة سويد التي أعجبتني في هذا البيت، استخدامه للفظ الأعادي لأنه يعطي دلالة أكثر من لو كانوا مشاهدين عاديين، فحتى الأعداء المبغضون لن ينكروا أن سويد تفوق على خصومه وهم يشهدون على ذلك.

94- بِنِبَالٍ كُلُّهَا مَذْرَوبَةٌ … لَمْ يُطِقْ صَنْعَتَهَا إِلَّا صَنَعْ

نبال: هي الأسهم، والنبال هو الرامي بالأسهم.
مذروبة: رؤوسها حادة لتكون أكثر فتكا، وذرب السيف أي شحذ سنه ثم نقعه في السم، والذرب هو الشخص سليط اللسان.
صنع: صيغة مبالغة، أي الحاذق في صنعته.

يقول أننا تراشقنا بأسهم قاتلة، كللها محددة الرأس متقنة الصناعة، فتكون أشد فتكا وقتلا، ولا يقدر على صنعها هذه النبال إلا الصانع المتقن الخبير، وهذا كناية عن شدة الكلام المنقى والهجاء والعبارات التي تراشقوها، التي لا يقولها إلا رجل له قدرة عالية على الحجاج الوقوف أمام خصومه.


95- خَرَجَتْ عَنْ بِغْضَةٍ بَيِّنَةٍ … فِي شَبَابِ الدَّهْرِ وَالدَّهْرُ جَذَعْ

البغضة: هي البغضاء والكراهية، وبينة أي ظاهرة.
جذع: الجذع من الرجال هو الشاب الحدث، في أول الدهر، الجذع من الرجال الشاب الحدث.
 

أي أن هذه الشتائم والسباب الذي حدث كان محملا بكراهية شديدة من قلوبهم وظاهرة على وجوههم وصراخهم، فالكراهية بينهم عميقة ومحسوسة، وقد حدث هذا قديما عندما كان سويد شابا قويا في سالف الدهر، يقصد في مقتبل حياته.

فما يقصده في هذا البيت أن العداوة بينهم قديمة جدا وأنهم سبق أن تراشقوا بالكلام الجارح، وأن الكلام والكراهية بينهم عمية وقديمة جدا وظاهرة على وجوههم وطريقة حديثهم.

96- وَتَحَارَضْنَا وَقَالُوا إِنَّمَا … يَنْصُرُ الأَقْوَامُ مَنْ كَانَ ضَرَعْ

تحارضنا: حرض بعضهم بعضا، والحرض هو الهلاك، أي دفع كل منا الآخر نحو الهلاك.
ضرع: ضعيفا.

يقول أن الناس هاجوا حينها وحرض كل فريق ضد الأخر وأتى بحلفائه، ثم يبدو أنه يقول أنه لا يحتاج إلى حليف أو نصير، فالضعيف هو من يحتاج إلى نصرة من الأقوام، أما القوي فيكتفي بنفسه.



97- ثُمَّ وَلَّى وَهْوَ لَا يَحْمِي اسْتَهُ … طَاِئرُ الِإتْرَافِ عَنْهُ قَدْ وَقَعْ

استه: مؤخرته.
الإتراف: ما كان عليه من الترف والفرحة بنفسه.

يقول أن خصمه عاد من هذه المواجهة مهزوما خاسئا حقيرا لا يحمي مؤخرته، وهي صورة مضحكة بغرض بيان حقارته، ولى وقد ذهبت الخيلاء التي كانت عليه، ووقعت كرامته على الأرض.


98- سَاجِدُ المِنْخَرِ لَا يَرْفَعُهُ … خَاشِعُ الطَّرْفِ أَصَمُّ المُسْتَمَعْ

ساجد: متخذ لوضعية السجود، أي أن أنفه في الأرض، لا يرفعه.
المنخر: تطلق على الأنف، لكنها تعني تحديدا فتحة الأنف، ونخر الشخص أن أحدث صوتا من أنفه وهو يدفع الهواء، ساجد المنخر معناها ذليل خاضع أنفه ممرغ بالتراب.
خاشع: هو الخائف والذليل الخاضع، والطرف هو منتهى النظر، والأصم هو الذي لا يسمع.

المعنى أن عدوه غادر المكان، وهو ذليل مهزوم، أنفه ممرغ بالتراب ونظرته ذليلة موجهة إلى تحت قدميه، لأنه لا يستطيع أن يرفع رأسه من الإحراج والذل اللي لحقه، وأصم لا يسمع ولا يجيب كأنه صخرة.

99- فَرَّ مِنِّي هَارِباً شَيْطَانُهُ … حَيْثُ لَا يُعْطِي وَلَا شَيْئاً مَنَعْ

شيطانه: كان العرب يظنون أن الشياطين هي التي تلقن الناس والشعراء الكلام فيلقيه، وهو الأمر الذي نعزوه الآن لتوقد الذهن أو الموهبة الشعرية، وهنا يقول سويد أن شيطان عدوه هرب، أي نفد منه الكلام ولم يسعفه خاطره بما يرد به على سويد، ولم يحمه من لسان سويد القاطع.

لاحظوا أن هذه القصيدة إسلامية، ورغم ذلك، فقد استمر الشاعر على الموروث السائد منذ عصور ما قبل الإسلام من ذكر تلقين الشياطين للشعر.


100- فَرَّ مِنِّي حِيَنَ لَا يَنفعه … مُوقَرَ الظَّهْرِ ذَلِيلَ المُتَّبَعْ

موقر: الوِقر هو الحمل الثقيل الذي يثقل على ظهر الشخص أو الحيوان، فيمشي منحنيا تحت هذا الثقل، فمحنى موقر الظهر أي انقلب ظهره كالبعير المثقل.

يقول، أن شيطان عدوه فر حين لم ينفع صاحبه بشيء، ولم يساعده على الوقوف أمام سويد وشيطانه، ذهب محني الظهر ذليلا محملا بالخزي كصاحبه الذي يتبعه.


101- وَرَأَى مِنِّي مَقَاماً صَادِقاً … ثَابِتَ المَوْطِنِ كَتَّامَ الوَجَعْ

المعنى واضح وجميل، يشيد سويد بالصفات التي جعلته ينتصر، فلا يعتمد الأمر فقط على المواهب التي يخلق بها الإنسان، بل على ما يبذل من جهد، فقد رأى منه خصمه صدق العزيمة، وشجاعة في دفاعه عن حقه، ثابتا على موقفه لا يتزحزح، وكان شديد التحمل للوجع، كتام بالتشديد على صيغة فعال التي تدل على المبالغة، فهو يصبر عليه حتى ينتصر، وفي هذه الصورة الأخيرة فائدة عظيمة، فما من أمر يسعى إليه الإنسان إلا ويسبب المشقة والألم بشكل أو آخر، والرجل القوي يصيبه الألم أيضا مثل الضعيف، لكن الفارق هو أنه يكتم وجعه ويستمر ولا يضعف.


102- وَلِسَاناً صَيْرَفِياً صَارِماً …. كَحُسَامِ السَّيْفِ مَا مَسَّ قَطَعَ

صيرفي: أي يتصرف مع صاحبه كما يشاء.
الصارم: هو القاطع.
الحسام: هو القاطع الذي يحسم الأمور.

يقول: ورأى خصمه لسانا بليغا حاذقا بفنون الجدال والكلام، يتصرف مع سويد كما يريد، ويضرب خصمه بالكلام القوي الجارح، الذي شببه بالسيف الحاد الذي يقطع الشيء من لمسة واحدة.

103 وَأَتَانِي صَاحِبٌ ذُو غَيِثٍ … زَفَيَانٌ عِنْدَ إِنْقَادِ القُرَعْ

الصاحب: يقصد به شيطانه الذي يلقنه الكلام.
زفيان: يدفع ما أمامه، زاف الماء أي علا موجه ودفع ما أمامه.
غيث: يقال بئر غيث، أي كثيرة الماء، كلما أخذت منها ظهر فيها غيره، والغيث هو الماء الغزير.
إنقاد:ناقد الأمر أي ناقشه، والنقد هو المناقشة والتعليق على الكلام.
القرع: المزاد أي ما يحمله الرجل من زاد ونحوه.

هنا يشير الشاعر إلى حضور شيطانه الذي يلقنه الشعر ويلقي بالكلام على لسانه، وهو كما قلنا نظرة العرب القدماء لما نسميه الآن سرعة البديهة والموهبة، كانوا يفسرون بلاغة الشعراء بأن شيطانا يلقنهم الكلام، وهذا موروث عربي قديم استمر عليه الشاعر

يقول عندما واجهت خصومي، وحان وقت نقد البضاعة، وإظهار كل فرد بضاعته من مواهب وحجج، جاء إليه صاحبه من الجن مسعفا، يلقنه الكلام الكثير الذي لا ينفد على لسانه، فكأن سويد اندفع بالكلام الكثير أمام خصمه وألجمه تماما، مستعينا بذكاء متوقد وحصيلة لا تنتهي من الحجج والكلام الذي انطلق على لسانه.

104- قَالَ لَبَّيْكَ وَمَا اسْتَصْرَخْتُهُ … حَاقِراً لِلنَّاسِ قَوَّالَ القَذَعْ

لبيك: صيغة على وزن المثنى للتلبية، بمعنى سألبي طلبك وأجيبك.
استصرخته: أي طلبت منه المعونة.
القذع: هو ما يؤذي العين من الأوساخ ونحو، وهو الكلام البذي الجارح من اللسان.

يقول: جاء إلي رفيقي من الجن سريعا مجيبا طلبي، مع أنني لم أطلب منه، أي أن الكلام يخرج منه على البداهة دون بذل جهد وتحضير، ينطلق لسانه على سليقته مدمرا عدوه، ويصف سويد الكلام الذي جرع منه والذي لقنه له شيطانه بأنه يحتقر الناس، أي يهينهم بلسانه ويقول لهم القذع والبذيء من الكلام، فأن سويد في هذا البيت يعترف أنه أساء لهم كثيرا وسبهم بكثير من الكلام البذيء.  

105- ذُو عُبَابٌ زَبِدٌ آذِيُّهُ … خَمِطُ التَّيَّارِ يَرْمِي بِالقَلَعْ

ذوب عباب: العباب هو كثرة الماء والموج.
زبد: أي له زبد، وهي الرغوة التي تخرج فوق الأمواج في السيل ونحوه، ولا تظهر إلا عند اشتداد الموج وتخبط الماء بشدة
خمط: أي غاضب، وخمط الرجل أي غضب واهتاج، وخمط البحر، أي هاجت أمواجه.
القلع: القطعة الكبيرة التي تقتلع من الحجارة ويلقى بها.

يقول: هذا الكلام مثل الموج العالي المتلاطم، يصفه بأنه مؤذ مدمر وله زبد يعلوه، وهو ما يظهر عنفه، وله تيار شديد غاضب يقذف بالعظيم من الصخور.

أي أنه يشبه لسانه المدمر بسيل قوي جارف يتلاطم بشدة ويضرب ما أمامه ويقذف الصخور الكبيرة على الناس.

106- زَغْرَبِيٌّ مُسْتَعِزٌّ بَحْرُهُ … لَيْسَ لِلمَاهِرِ فِيهِ مُطَّلَعْ

زغربي: كثير الماء.
مستعز: أي يتعزز بماء جديد، فلا ينتهي ولا ينفد.

يواصل تصوير هذا السيل ويكثر من الأوصاف، فيقول أنه كالبحر العميق كثير الماء، وكلما حسبت أنه سيتوقف، تعزز بماء جديد، يغرق فيه حتى الماهر بالسباحة ولا يستطيع أن يطلع منه إذا وقع فيه، وكل هذه الأوصاف الكثيرة المتتالية غرضها بيان قوة لسانه وحججه وكيف ألجم أعداءه وأسكتهم وأخذ حقه منهم.

107- هَلْ سُوَيدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ … ثَئِدَتْ أَرْضٌ عَلَيْهِ فَانْتَجَعْ

الليث: هو الأسد وسمي كذلك كأنه يلوث أو يلتاث حول المكان أي يحوم حوله.
خادر: أي كسول، اتخذ الأرض والشجر خدرا، أي مكانا للمكوث.
ثئدت الأرض: أصابها الندى والبلل والبرد ونحو ذلك.
انتجع: أي ذهب لطلب الرزق والراحة.

بعدما تكلم سويد كثيرا في بيان تفوقه وهزيمته لأعدائه، وشبه الأمر كتراشق للأسهم، وكضرب السيوف، وكالسيول الجارفة، وأظهر قوة شيطانه، وأظهر انتصاره عليهم بشكل لا لبس فيه، قرر أنه سيترك هذه الأرض من موقع قوة لأنه لم يعد يرغبها.

 

سويد لم يكن إلا أسدا مسترخيا متكاسلا، لعدم وجود خطر حوله، فأعداؤه لا يؤبه لهم، أحس الأسد بفساد الأرض وبللها فخرج يطلب أرضا غيرها للراحة، ولا يوجد عنده ما يحاول إثباته، فالفرق واضح

هكذا تنتهي القصيدة الطويلة العينية لسويد بن أبي كاهل، وسبب طولها في رأيي هو طول نفس الشاعر في التشبيهات، وقدرته على وصف المشاهد بتشبيه واثنين وثلاثة، وكلها جميلة معجبة غير متكلفة، فهو كما وصف شيطانه في الأبيات الأخيرة، مستعز بحره ولا تنفد كلماته، ورغم ذلك، ومن تتبع القصة وبعض الأبيات، يبدو أنه مغلب فعلا كما وصفه الأصمعي، فقد حبس كما مر علينا في القصة، وهنا بيت مر علينا يبدو فيه أنه يقر بالفراق والمغادرة، عندما قال: كيف باستقرار حر شاحط … ببلاد ليس فيها متسع، يحمل هذا البيت أسى وإقرارا منه بضرورة المغادرة، وأيا ما كان الأمر، فالقصيدة في غاية الجمال اللغوي، وأتمنى أن أكون قد وفقت في إظهارها لكم ليعرفها الناس.

محمد صالح

مدون وكاتب عربي، أهتم باللغة العربية وشرح الشعر والأدب العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى