اللغة العربية هي أقدم لغة حية بين جميع اللغات المستعملة اليوم، وبفارق زمني كبير، فكل اللغات التي تماثل العربية عمرا اختفت أو تبدلت أو اندثرت، كاللاتينية واليونانية القديمة وغيرها، بحيث لا يستطيع أبناء تلك اللغات فهم النصوص المحفوظة كما كتبت، فقد حدث عندهم انقطاع بين القديم والحديث، لا سبيل لحله إلا عبر إعادة دراسة النص وتخمين معانيه على يد قلة من العلماء الذين درسوا دراسة شاقة، مع ما يصاحب هذه العملية من احتمالية كبيرة للخطأ، وهذه طبيعة كل اللغات، ما عدا غير العربية، تحدث فيها تغيرات طفيفة في نطق الكلمات وإطلاق تسميات أخرى على الأشياء، وتظل هذه التغيرات الطفيفة تتراكم، وتدخل التغيرات إلى سياق اللغة الرسمي لعدم وجود مرجع ثابت تعود له، وبعض بضع مئات من السنين، تظهر لغة مختلفة تماما.
نماذج من تغير اللغات الأخرى وثبات اللغة العربية.
ماتت اللغة الرومانية واليونانية القديمة والعبرية القديمة وكل اللغات التي عاصرت اللغة العربية واستحالت شفرات غير مفهومة لأهلها الذي باتوا يتكلمون بألسنة أخرى، فحلت اللغات الرومانسية (الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية وغيرها) محل اللغة اللاتينية، وأما اليونانية الحديثة فمختلفة تماما عن اللغة القديمة بحيث لا يجمعهما إلا الاسم فقط، وبقية اللغات كذلك، وهذا أمر يسهل التحقق منه ببحث بسيط.
وحتى اللغات الحديثة الحية اليوم، لا يمكن الرجوع إلى نصوص مفهومة لها قبل 300 أو 400 سنة على أقصى تقدير، فهذا هو الحد الأقصى الذي يستطيع فيه متحدث بالإنجليزية الحالية أن يفهم نصوصا بلغته، وما قبل ذلك يسمى الإنجليزية الوسيطة وهي لغة أخرى تختلف بشكل بالغ عما يتكلمه الناس الآن، ليس في الكلمات فقط، بل في التراكيب اللغوية والضمائر وترتيب الجملة والتصريفات، بل هناك حروف أخرى لا توجد في اللغة الحالية، وبهذه اللغة كتب شيكسبير أعماله التي لا يستطيع قراءة نصوصه مباشرة إلا قلة قليلة من الإنجليز، أما الباقون فيحتاجون إلى ترجمة، فإذا رجعت بضع مئات أخرى فهناك الإنجليزية القديمة التي هي عمليا لغة أخرى تماما. كقصة بييولف القديمة (Beowulf) التي لابد أن تترجم على يد خبراء يفكون شفراتها كي يفهمها الناس، وما يجري على الإنجليزية يجري على كل لغة أخرى ما عدا العربية.
وبسبب هذه التغيرات المستمرة، يصبح التراث وكتبه القديمة غير متاحين للأجيال الحالية بشكل مباشر، وستكون الكتب الحالية غير مفهومة بعد 200 أو 300 عام، لأن اللغات مستمرة في التغير، وهذه معضلة لا حل لها في اللغات الأخرى غير العربية.
أما ثبات اللغة العربية فيضمن لقرائها فهم نصوص موغلة في القدم ككتابات الجاحظ وما قبلها بمنتهى السهولة ودون حاجة لأي وسيط، عمر كتابات الجاحظ يبلغ تقريبا ضعف الحد الأقصى لأي لغة أخرى، ومع ذلك يطبع للناس بنفس الحروف التي كتبها الجاحظ، وستستمر كتبه مفهومة طالما استمرت اللغة العربية، وهي مستمرة لأن الله تعهد بذلك، والتاريخ الطويل يشهد.
سبب طول عمر اللغة العربية.
السبب في حفاظ اللغة العربية على شبابها الدائم وحيويتها وما يجعلها مختلفة عن البقية هو ارتباطها الدائم والحتمي بالقرآن الكريم أولا، ثم بتعاليم الإسلام المحفوظة بها، ولولا هذا لحدث لها من التغير ما يحدث لأي لغة أخرى، فالقرآن الكريم كتاب عربي، ولا يجوز ترجمته ولا تغيير أي حرف فيه، ويجب أن يُقرأ ويُتعبد به بالصورة التي نزل عليها كي لا يعبث به فهم إنسان أو خطأ مترجم، أما الترجمات المنتشرة للقرآن فهي وسيلة لإفهام معانيه لغير المتحدثين بالعربية، وليست قرآنا يتعبد به ولا يصلى به، وهذا ما حفظ القرآن من العبث وما جعله نقطة مرجعية للغة العربية، لأن المسلمين دائما يرجعون له ويدرسونه كما هو بلغته العربية الصافية.
عدم استقلال اللهجات العربية إلى لغات.
ظهرت الاختلافات الطفيفة التي تحدث في كلام الناس عند العرب أيضا كسائر البشر، ومن هنا ولدت اللهجات العربية التي تظهر في كل قطر مختلف، لكن هذه اللهجات لن تكمل الرحلة أبدا ولن تصبح لغات مستقلة مثلما انفصلت لهجات اللاتينية وكونت اللغات الرومانسية، لأن العرب دائما يرجعون للغة الفصحى المركزية، فظهرت ثنائية لغوية فريدة عند العرب، لهجات عامية يتكلم بها الناس في الأحوال اليومية، ولغة فصحى للاستعمال الرسمي والدراسة والعبادة، ورغم اختلاف اللهجات فكلها ينحدر مباشرة من كلمات اللغة الأم مع تغيير طفيف هنا أو هنا، لكن هذا موضوع بحث آخر.
ما شاء الله بارك الله فيك
شكرا جزيلا لكم، ومرحبا بكم
ما شاء الله بارك الله فيك
شكرا جزيلا لكم، ومرحبا بكم