قصيدة أبي ذؤيب العينية، وردت في ديوان المفضليات، رائعة من روائع الشعر العربي تدور حول التأمل في الموت، أنشدها أبو ذؤيب عندما مات أولاده الخمسة في مرض ذهب بهم جميعا ففجعوا قلبه، عبر عن حزنه عليهم في أبيات تفطر القلب ثم انتقل إلى التفكير في سيادة الموت على جميع الكائنات الحية، ووصف مشاهد من الحياة، تنتعش قليلا ثم يأخذها الموت كالعادة.
هذا شرح قصير وممتع، يعينك على الاستمتاع بهذه القصيدة الخالدة.
قال الشاعر:
1- أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ . . . وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
أمن: الهمزة للاستفهام.
ريب المنون: شكوك الحياة ومصاعبها.
معتب: يعطي فرصة ثانية.
يجزع: الجزع ضد الصبر.
يحدث الشاعر نفسه، هل تتوجع من مصائب الحياة وتؤذيك؟ والحياة لا تعطي فرصة ثانية لمن لا يصبر.
2- قَالَتْ أُمُيَمَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِباً . . . مُنْذُ ابْتَذَلْتَ وَمِثْلُ مَالِكَ يَنْفَعُ
شاحبا: ذابلا من الحزن.
ابتذلت: أرهقت نفسك.
تخاطبه زوجته: لم هزل جسمه وظهرك عليه الهزال؟، ومعك من المال ما يعينك لة مصاعب الحياة، والمعنى أنه يريد إظهار هزال جسده ونصبه لما حدث من موت أبنائه.
3- أَمْ مَا لِجَنْبِكَ لَا يُلَاءِمُ مَضْجَعاً . . . إِلَّا أَقَضَّ عَلَيْكَ ذَاكَ المَضْجَعُ
مضجعا: موضع النوم
أقض: صار مؤلما مثل قضيض الحجارة، كأنه ينام على فراش من حجارة.
ولم لا يستقر جنبك على موضع النوم، كأنك تنام على فراش من حجارة صغيرة تؤلم جسدك، والمعنى أن النوم فارقه منذ موت أولاده، فهو دائما سهران ومؤرق.
4- فَأَجَبْتُهُا أَمَّا لِجِسْمِيَ أَنَّهُ . . . أَوْدَى بَنِي مَنَ البِلَادِ فَوَدَّعُوا
أودى: أهلهكه وذهب بقوته.
فأجابها أن ما يحدث لجسدي بسبب أن أولادي، الذين هلكوا في البلاد وودعوني ولن أراهم، فحزنه هو ما أهلك جسده.
5- أَوْدَى بَنِيَّ وَأَعْقَبُونِي غُصَّةً . . . بَعْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً لَا تُقْلِعُ
أعقبوني: تركوا لي، وعاقبة كل أمر آخره.
غصة: ألما في الحلق.
عَبرة: الدمعة الجارية.
تركني أولادي وتركوا لي غصة وألما في حلقي (بسبب البكاء المتواصل) وتركوا لي دموعا حارة لا تفارقني.
6- سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ . . . فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَع
هَوَيَّ: أهوائي.
أعنقوا: مد كل منهم عنقه تجاه ما يريد.
تخرموا: تم تقطيعهم.
كانت رغباتي أن يشبوا ويكبروا وأن يكون عزيزا بينهم، لكنهم سبقوه وذهبوا في أهوائهم وتركوه، يلومهم كأنهم عصوا أمرهم، فتقطعوا ولكل واحد منهم موضه سقط فيه ميتا.
7- فَغبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ . . . وَإِخَالُ أَنِّي لَاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
غبرت: الغابر في المكان هو المتبقي فيه ذهاب الآخرين.
ناصب: النصب هو الإرهاق.
إخال: أظن.
فبقيت بعدهم وحيدا أعاني حياة مرهقة، وأظن أنني سأتبعهم وأموت بعد قليل (لشدة حزنه وتعبه)
8- وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أدَافِعَ عَنْهُمُ . . . فَإِذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ
المَنية: الموت، سمي كذلك لانه يقطع الأشياء.
كأي أب يحب أولاده، حرص أن يدافع عنهم ويبعد الموت، لكن الموت أقبل نحوهم ولا شيء يمكن فعله لوقفه، فما أشد ألمه.
9- فَالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنِّ حِدَاقَهَا … سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
حداقها: حداق العين سوادها.
سملت: أن تكوى العين بحديدة محماة حتى تفقع.
من كثرة بكائه أصبحت عينه عوراء مصابة، كأنها فقعت بالشوك الحاد فذهب ماؤها، وإنما يريد تصوير تصوير شدة بكائه وتلف جسمه على أولاده.
10- حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ . . .بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
مروة: الصخرة الصماء.
بصفا المشرق: المشرق حصن عربي شهير، وقيل سوق عربي في منى.
تقرع: تضرب.
من كثرة المصائب التي توالت عليه بموت أولاده الخمسة، أصبح كالصخرة التي تضرب وتصفع في حصن المشرق، تتوالى عليها ضربات كثيرة بهجوم الأعداء ونحو ذلك، أو الصخرة في سوق يعبره الناس وتتوالى عليها الضربات، ولابد للصخرة من أن تنكسر بعد كل هذا ولو كانت صلبة.
12- لَابُدَّ مِنْ تَلَفٍ مُقِيمٍ فَانْتِظِرْ . . . أَبِأَرْضِ قَوْمِكَ أَمْ بِأُخْرَى المَصْرَعُ
لابد للإنسان أن يصيبه ضرر دائم لا يزول، بالهلاك والموت، وما هو إلا وقت ثم يسقط وسط أرضه أم في مكان آخر، فلا مفر من القدر المحتوم الدائم.
13- وَلَقَدْ أَرَى أَنَّ البُكَاءَ سَفَاهَةٌ … وَلَسَوْفَ يُولَعُ بِالبُكَا مَنْ يُفْجَعُ
سفاهة: قلة عقل.
يولع: يتعلق به.
يفجع: يصاب بمصيبة.
وقد كان يرى أن بكاء الرجل قلة عقل، فلم يكن يدري وكانت الحياة تغره، لكنه لم يكن يعلم أن المصاب بمصيبة يستمر في البكاء كأنه مولع به وكأنه يحب البكاء.
14- وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ يَوْمٌ مَرَّةً … يُبْكَى عَلَيْكَ مُقَنَّعاً لَا تَسْمَعُ
وسوف يأتي عليك يوم فتموت، ويبكي عليك محبوك ووجهك مغطى تحت قماش الكفن، لا تسمعهم ولا تستطيع الإجابة.
15- وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ . . . أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ
تجلدي: تصنع الجلد، وهو القوة.
أتضعضع: أضعف.
كان أبو ذؤيب يخفي ألمه ويظهر القوة أمام خصومه كي لا يشمتوا به بعد موت أولاده، وليريهم أن مصائب الزمان لا تضعفه، لكن هيهات، فالألم يكاد يقتله.
16- كَمْ مِنْ جَمِيلِ الشَّمْلِ مُلْتَئِمِ الهَوَى . . . بَاتُوا بِعَيِشٍ نَاعِمٍ فَتَصَدَّعُوا
ما أكثر الأسر التي كانت مجتمعة في خير حال ورقة من الحياة، ومحبة كاملة، فانقلبت بهم الأحوال وتصدعوا كالصخرة التي ضربت.
17- فَلَئِنْ بِهِمْ فَجَعَ الزَّمَانُ وَرَيْبُهُ . . . إِنِّي بِأَهْلِ مَوَدَّتِي لَمُفَجَّعُ
فجع: تألم أشد الألم
فإن حدث ابتلائي في أهلي، إنني حقا واقع في بلاء، ألمي شديد وحدث بسبب أقرب الأقربين لي.
18- وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا … وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
هذا البيت يعبر عن تبدل الأحلام وتأقلم الإنسان مع واقعه، فبعد أن كان له خمسة أولاد ذكور وكان يملك المال، كانت نفسه ترغب في مزيد من الجاه والزعامة وكثرة الذرية وطول الذكر، لكن حلول الكارثة التي قصمت ظهره عاد به إلى الرضا بالقليل، فقنعت نفسه وارتضت، ولم يكن هذا ما تطمح به بداية، لكن الإنسان يعود نفسه على حاله الجديد، وماذا يمكن أن يفعل غير ذلك؟
19- وَالدَّهْرُ لَا يَبْقَى عَلَى حَدَثَانِهِ . . . فِي رَأْسِ شَاهِقَةٍ أَعَزُّ مُمَنَّعُ
حدثان الأمر: أوله وابتداؤه.
شاهقة: يقصد قمة جبل شاهقة.
أعز: عزيز لا يقدر أحد عليه.
ممنع: محمي فوق قمته العالية.
المعنى: الزمن لا يبقى على حاله الأول مع الصقر، العزيز المتحصن على قمة جبل شاهق، ولا يقدر أحد على الوصول إليه، لن يستمر حاله هذا للأبد، وسوف يدركه الموت أيضا.
20- وَالدَّهْرُ لَا يَبْقَى عَلَى حَدَثَانِهِ … جَوْنُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
الجون: هو حمار الوحش، المخطط بالأبيض والأسود، وقد كان يعيش في بلاد العرب قديما قبل أن يقصي عليه الصيد ، وورد كثيرا في شعرهم.
السراة: يعني العلو، الأماكن الجبلية المرتفعة.
جدائد: جمع جدود وهي أنثى الحمار الوحشي التي جف لبنها، أي أنها لا ترضع ولا تحمل في بطنا جنينا، فهي أنشط للغزل وراغبة فيه.
المعنى: والدهر لا يبقى حاله الأول مع حمار الوحش، له أربع إناث محبة للغزل، فهو يعيش أحلى لحظات حياته سعيدا معها.
21- صَخِبُ الشَّوَارِبِ لَا يَزَالُ كَأَنَّهُ . . . عَبْدُ لِآلِ رَبِيعَةَ مُسْبِـعُ
صخب: يصدر أصواتا كثيرة بنهيقه وصياحه.
مسبع: من السباع وهي الحيوانات البرية اللاحمة.
يقول أنه ذكر هائج ومفعم بالحياة يحدث صخبا في جرية ولهوه مع إناثه، شبهه بعبد يعرفه لقوم يدعون آل ربيعة، ويصفه بأنه مسبع أي شرس.
22- أَكَلَ الجَمِيمَ وَطَاوَعَتْهُ سَمْحَجٌ . . . مِثْلُ القَنَاةِ وَأَزْعَلَتْهُ الأَمْرُعُ
الجميم: الكثير.
سمحج: طويلة.
أزعلته: نشطته.
الأمرع: هي الأراضي الخصبة ، ومرع المكان أي أخصب بكثرة العشب.
أكل الذكر الكثير من الطعام وأنثاه تطاوعه فيما يرغب، ويزداد نشاطه بسبب وفرة الطعام والماء في الأرض الخصبة. فهو يعيش أحلى أيام حياته.
23 – بِقَرَارِ قِيعَانٍ سَقَاهَا وَابِلٌ . . . وَاهٍ فَأَثْـجَمَ بُرْهَةً لَا يُقْلِعُ
قرار : في مستقر الوادي حيث يتجمع الماء والعشب.
الوابل: المطر العظيم ذو القطرات الكبيرة.
واه: يقصد شدة انصباب الماء.
أثجم: أقام في المكان وثبت.
برهة: لبعض الوقت.
لا يقلع: لا يترك المكان.
يعيش الذكر مع إناثه في بطن واد بين الجبال، سقاها المطر الغزير، فالماء متوفر في المكان، فبقي فيه الذكر لتوفر الطعام الكثير والماء.
24 – فَلَبِثنَ حِيناً يَعْتَلِجْنَ بِرَوْضَةٍ . . . فَيَجِدُّ حِيناً فِي العِلَاجِ وَيَشْمَعُ
يعتلجن: يعارض بعضها بعضا ويعضون ونحو ذلك، يقصد النشاط وأشكال اللعب والحياة
روضة: حديقة.
يجد حينا في العلاج: يزداد نشاطا في اللعب و مشاكسة قريناته.
يشمع: شمع الولد، أي لعب ومزج وطرب.
ظلت هذه الحمير الوحشية فترة تهنأ بالعيش في روضتها، فتنشط وتتزاوج كأنها في جنتها الخاصة.
25 – حَتَّى إِذَا جَزَرَتْ مِياهُ رُزُونِهِ . . . وَبِأَيِّ حِينِ مِلَاوَةٍ تَتَقَطَّعُ
جزر الماء: إذا نقص وغار.
الرزون: هي أماكن في الجبال يتجمع فيها الماء، أي كالجيوب المائية الصغيرة، مفردها رزن.
ملاوة: يعني زمن أو دهر.
يقول حتى إذا انقطعت المياة وجفت، انتهى وقت اللعب وحان وقت الرحيل والأخطار، والاستفهام هنا للتعجب من حال الدنيا وتغيرها، يقصد في أي وقت ينقطع الماء عن الحمير، ويقطع عليهم عيشتهم الهانئة.
26- ذَكَرَ الوُرُودَ بِهَا وَشَاقَى أَمْرَهُ . . . شُؤْمٌ وَأَقْبَلَ حَيْنُهُ يَتَتَبَّعُ
الورود: أي الذهاب لموارد الماء.
شاقى أمره: من الشقاء، أي أن الأمر فيه مشقة عليه، وهو اضطراره لمغادرة المكان والذهاب لموارد المياه القديمة حيث الأخطار.
الحَين: موعده، أي موعد الهلاك والأخطار.
يقول عندما جفت مناقع الماء في الجبال، تذكر حمار الوحش أماكن الماء القديمة التي يجب أن يرد لها، أي يذهب لها في موسم الجفاف، وشق عليه هذا الأمر لما يعلم فيه من الخطورة ،وتشاءم منه
وفي هذا الوقت أقبل موعد هلاكه وخطره و أخذ يتتبع الحمار ويتحين الفرصة للانقضاض عليه.
فهذا تشبيه جميل وذكي جدا من الشاعر، شبه المخاطر الحتمية القادمة نحو الحمار بسبب الجفاف بوحش يتربص له ويستعد للفتك به، وهذا بعدما جفت أمطار الربيع وأتى الصيف.
27 – فَافْتَنَّهُنَّ مِنَ السَّوَاءِ وَمَاؤُهُ … بَثْرٌ وَعَانَدَهُ طَرِيقٌ مَهْيَعُ
افتنهن: يعني طردهن ، يعني أن الذكر يقود الإناث في طريقه
السواء: رأس الحرة، أي المرتفعات، يعني أن الذكر يقود الإناث من المرتفع الذي كانوا فيها باتجاه المياه.
الماء البثر: هو الذي بقي منه على وجه الأرض شيء قليل.
الطريق المهيع: هو الطريق الواضح.
فقاد الذكر إناثه من المرتفعات عندما قارب الماء على النفاد، وعانده الطريق وسبب له المشاكل، لماذا يقول أن الطريق المهيع الواضح يعاند الحمير، أي يفعل عكس ما يريدون؟ لأنه يكشفهم للصيادين ولا يوفر لهم الحماية التي كانت لهم في الجبال.
28 – فَكَأَنَّهَا بِالجَزْعِ بَيْنَ نُبَايِـعٍ . . . وَأُولَاتِ ذِي العَرْجَاءِ نَهْبٌ مُـجْمَعُ
نبايع : اسم موضع.
ذي العرجاء موضع أيضا، وأولادتها قطع من الأرض حولها.
النهب: هو الغرض المعرض للإصابة، كأن تضع بضاعة وسط الطريق بلا حراسة، فهي معرضة للسرقة بسهولة
كأنها غنيمة سهلة مجمعة لأي صياد يأتي ليقتلهم جميعا في مكان واحد.
شبه الحمير وهي مكشوفة في هذا المكان كأنها بضاعة مجمعة في مكان واحد وسهلة ومتاحة لمن أراد أن ينهب منها.
29 – وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ، وَكَأَنَّهُ . . . يَسَرٌ يَفِيضُ عَلَى القِدَاحِ وَيَصْدَعُ
ربابة: الرقعة التي يلعب عليها القمار.
يسر: صاحب الميسر.
القداح: أسهم لعب القمار.
يقول أن حياة الحمير أصبحت مهددة كأنها في لعبة قمار، فقد يذهبون جميعا ويقتلون وقد ينجون من مصيرهم.
30 – وَكَأَنَّمَا هُوَ مِدْوَسٌ مُتَقَلِّبٌ . . . فِـي الكَفِّ إِلَّا أَنَّهُ هُوَ أَضْلَعُ
مدوس: خشبة ثقيلة يشد عليها السيف ليصقل.
أضلع: أقوي وأضخم.
أخذ الذكر يتقلب جيئة وذهابا ليحمي إناثه، فكانت حركته كخشبة المدوس الثقيلة التي تتحرك ذهابا وإيابا، فالذكر يشبه المدوس في ضخامته وثقله وفي حركته.
31 – فَوَرَدْنَ وَالعَيُّوقُ مَقْعَدُ رَابِئِ الضُّرَبَاءِ . . . فَوْقَ النَّظْمِ لَا يَتَتَلَّعُ
وردن: وصلن إلى مكان الماء.
العيوق: نجم أحمر كبير يظهر في السماء وقت شدة الحرارة والجفاف.
رابئ الضرباء: هو الرجل الذي يراقب لعب المراهنين من الأهلى ليحكم.
النظم: المجموعة.
يتتلع: لا يتحرك.
فوصلت المجموعة إلى موضع الماء في شدة الحرارة والجفاف عندما كان نجم العيوق يشرف من الأعلى، مثل الحكم الذي يجلس عاليا ليراقب اللاعبين، والحمير فعلا في لعبة رهان على حياتها، فقد تشرب وتنجو وقد يكون حتفها عند الماء.
32 – فَشَرَعْنَ فِي حَجَرَاتِ عَذْبٍ بَارِدٍ . . . حَصِبِ البِطَاحِ تَغِيبُ فِيهِ الأَكْرُعُ
شرع: دخل في الأمر، ويقصد أن الحمير بدأت في الشرب.
حجرات: أجزاء أو نواحي.
حصب البطاح: أرضه مفروشة بالحصى وماؤه نقي.
الأكرع: القوائم.
فدخلت الحمير متلهفة إلى الماء في مجرى مفروش بالحصى ودخلت حتى غاصت قوائمها في الماء البارد المنعش، ولم تنتهبه إلى الخطر المحدق.
33 – فَشَرَبْنَ ثُمَّ سَمِعْنَ حِسّاً دُونَهُ . . . شَرَفُ الحِجَابِ وَرْيِبَ قَرْعٍ يُقْرَعُ
شرف الحجاب: في أعلى الجزء الساتر المطل على الماء.
قرع يقرع: دوي أصوات تدل على حركة قادمة.
فشربت الحمير ثم سمعت صوتا قادما من المرتفعات المطلة على الماء ودبيب أصوات قادمة، إنه الصياد المتربص لها وقد تحرك ليقتلها. والحمير محصورة بين الماء وبين المرتفع الذي يقف عليه الصياد.
34 – وَنَمِيمَةٍ مِنْ قَانِصٍ مُتَلَبِّبٍ . . . فِي كَفِّهِ جَشَءٌ أَجَشُّ وَأَقْطُعُ
نميمة: صوت خافت ينم عن حركة واءه.
قانص: صياد.
متلبب: يخفي وجهه بملابسه.
جشء: سهم ينقذف في الهواء.
أقطع: أسهم قاطعة.
وسمعوا أصواتا خافتة لصياد متنكر ويخفي وجهه بملابسه، وصوت أسهمه وسلاحه.
35 – فَنَكَرْنَهُ وَنَفَرْنَ، وَامْتَرَسَتْ بِهِ . . . سَطْعَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ
نكرته: توحشت الصوت وكرهته.
وامترست به: تترست به أي احتمت به.
سطعاء: لونها أبيض ساطع.
جرشع: عظيم الصدر، ضخم.
عرفت الحمير الصوت فكرهته لما تعلم أنه موتها، وخافت الإناث وذهبت تحتمي بالذكر، لعله ينقذها، واحتمى به كذلك حمار قوي، القطيع كله متخبط وخائف.
36 – فَرَمَى فَأَنْفَذَ مِنْ نَـجُودٍ عَائِطٍ . . . سَهْماً فَخَرَّ وَرِيشُهُ مُتَصَمِّعُ
نجود: طويلة.
عائط: صارخة.
متصمع: منكمش متلاصق لشدة اندفاعه.
فرمى الصياد أسهمه فخرجت من قوس طويلة قوية، خرجت الأسهم تشق الهواء وتحدث صوت الصفير الحاد وهي تخترق الهواء، وبسبب سرعة السهم فقد انكمش ريشه بسبب ادفاعه في الهواء، أسهم قاتلة مرعبة.
37 – فبَدَا لَهُ أقرَابُ هَذَا رَائِغاً . . . عَجِلاً فعَيَّثَ فِي الكِنَانَةِ يَرْجِعُ
أقراب: جمع القرب وهي الخاصرة.
رائغا: مائلا.
عيث: أخذ بعجلة وبغير رفق.
الكنانة: الكنانة وعاء الأسهم.
بدت خاصرت الحمار مكشوفة للصياد بينما يميل الحيوان بجسه ويتقلب، والخاصرة مقتله، فإذا أصيبت بسهم فإنه ينفذ إلى داخل الحيوان ويقتله، حينها عبث الصياد مستعجلا في كنانة الأسهم ليخرج سهما آخر بسرعة ليقتل الحيوان قبل أن يفلت.
38 – فرَمَى فَأَلْـحَقَ صَاعِدِيّاً مِطْحَراً . . . بِالكَشْحِ فَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الأَضْلُعُ
صاعديا: منسوب إلى صعدة في اليمن، سهم قوي كأنه من صعدة.
مطحرا: السهم بعيد الذهاب
فرمى الصياد أسهمه القوية الصاعدية بعيدة المدى، فدخل السهم بين أضلع الحيوان واستقر داخل صدره، فكأن الأضلع قبضت عليه، أصاب الحيوان في مقتل ولن يخرج أبدا.
39 – فَأَبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فَهَارِبٌ . . . بِدِمَائِهِ أَوْ بَارِكٌ مُتَجَعْجِعُ
أبدهن حتوفهن: أعطى كل واحدة منهم نصيبها من الحتف والموت.
متجعجع: يعلو صوته.
فقتل الصياد الكثير من القطيع، وأعطى كل واحد منهم نصيبه من الموت، فمنها ما هرب وهو مصاب ينزف دما، ومنها ما سقط وهو يصيح ألما قبل أن يحتضر.
40 – يَعْثُرْنَ فِي حَدِّ الظُّبَاتِ كَأَنَّمَا . . . كُسِيَتْ بُرُودَ بَنِي تَزِيدَ الأَذْرُعُ
الظبات: شفرة السلاح وحده القاتل.
برود: جمع بردة وهي العباءة أو الثوب الخارجي، ودروع بني تزيد منسوبة لهؤلاء الأقوام، وكانوا يصنعون العباؤات حمراء اللون مثل الدم.
تحاول الحمير المصابة القيام فتتعثر وتسقطر على شفرات الأسهم، وتكتسي أذرعها باللون الأحمر للدم، كأنها ترتدي أثواب بني تزيد الحمراء.
وهكذا تنتهي قصة الحمير بالموت الشنيع، بعدما عاشت فترة واستمتعت بحياتها، دار الموت وحصدها.
41- وَالدَّهْرُ لَا يَبْقَى عَلَى حَدَثَانِهِ . . . شَبَبٌ أَفَزَّتْهُ الكِلَابُ مروع
شبب: شائب كبير السن، ويقصد هنا ثور مها عجوز.
أفزته: جعلته يتقافز من الخوف.
مروع: دخل الروع الشديد في قلبه، فهو خائف دائما بسبب الصياد وكلابه.
والدهر لا يبقى على حاله أيضا مع ثور المها العجوز، الخائف دائما وأبدا من الموت على يد الصياد وكلابه، فكلما تذكر الكلاب أو ظنها موجودة تقافز من الرعب.
42- شَعَفَ الكِلَابُ الضَّارِيَاتُ فُؤَادَهُ … فَإِذَا يَرَى الصُّبْحَ المُصَدَّقَ يَفْزَعُ
شعف: أي ذهب بقلبه، ويقال شعف الحب قلبه، أي أحرق قلبه
الضاريات: الضاري، هو الحيوان الشرس المولع بأكل اللحم.
الصبح المصدق: هو اللون الأبيض الذي يظهر في الأفق ثم يمتد عريضا، يقصد بدأ النهار لأن الصيادين ينشطون باكرا مع كلابهم للصيد.
ملأ الخوف من الكلاب والصياد قلبه، فإذا رأى ضوء النهار فزع، وضوء النهار يبعث الطمأنينة في قلوب المخلوقات ويذهب وحشة الليل، لكنه الخطر لهذا الثور المسكين، لأنه صراع جديد مع الصيادين وكلابهم.
43- وَيَعُوذُ بِالأَرْطَى إِذَا مَا شَفَّهُ … قَطْرٌ وَرَاحَتْهُ بَلِيلٌ زَعْزَعُ
يعوذ: يلجأ ويحتمي.
بالأرطى: شجر يجلس حوله البقر، وهو لا يحمي من المطر كثيرا.
قطر: قطرات المطر.
زعزع: متزعزعة، أي راحته قليلة.
يلجأ الثور لشجر الأرطى يحتمي به من المطر، لكنه لا يحميه كثيرا ويبقى مبللا وغير مرتاح.
44- يَرْمِي بِعَيِنَيْهِ الغُيُوبَ وَطَرْفُهُ. . . مُغْضٍ، يُصَدِّقُ طَرْفُهُ مَا يَسْمَعُ
الغيوب: جمع غيب، وهو المستتر المختفي عنك فلا تراه ولا تعرفه، ويقصد الأراضي الواسعة المجهولة الممتدة أمامه فلا يعرف ما يأتيه منها.
الطرف: النظر.
مغض: أغضى نظره، أي أطبق أجفانه وقارب بينها، أي أغلق عينه قليلا.
يصدق طرفه ما يسمع: أي أن النظر يتبع السمع.
يصف تحفز الثور ، فهو خائف يترقب، وينظر إلى المجهول أمامه ولا يرى شيئا ولهذا فهو يخفض بصره ويعتمد على حاسة سمعه، ينصت جيدا وإذا سمع صوتا، تنظر عينه بسرعة إلى الموضع الذي أتى منه الصوت، يسمع أولا لأن النظر محجوب، ثم يلتفت فزعا هنا وهنا، فاجتمع الخوف مع البرد على الحيوان المسكين.
45- فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ فَبَدَا لَهُ … أُولَى سَوَابِقِهَا قَلِيلاً تُوزَعُ
يشرق متنه: المتن هو أعلى الجسد ومنطقة الظهر.
يشرق المتن: أي يوجهه ناحية الشرق، باتجاه الشمس المشرقة، ليحصل على الدفأ وليجف جسده من المطر.
سوابقها : يقصد ما سبق من كلاب الصيد ، الطلائع وأول ما يتقدم من الكلاب.
توزع: تحبس وتمنع من التقدم.
بعد نزول المطر في الليل، وقد اجتمع عليه الخوف والبرد أشرق الصباح، فأخذ يعرض جسده لضوء الشمع ليجف ويدفأ، ظهرت له أولى كلاب الصيد المتقدمة ، وكان صاحبها يمنعها من التقدم أكثر، كي يحكم الكمين للثور.
46- فَاهْتَاجَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ … غُبْرٌ ضَوَارٍ وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
سدت الكلاب فروجه: الفروج هي الفرجات والأماكن التي قد يهرب منها، أتته من كل الاتجاهات وحاصرته تماما من مسافة قريبة, فلم يدر أين يهرب.
غبر: مغبرة خشنة المظهر.
وافيان: كلاب سليمة.
أجدع: هو الذي قطع أنفه أو طرف من أطرافه كالأذن.
فهتاج الحيوان من الفزع، وقد أطبقت الكلاب الكمين حوله وسدت كل المخارج، وهذه الكلاب غبراء شرسة شكلها لا يبشر بخير، منها اثنان بآذان سلمية وآخر مقطوع الأذن من معارك سابقة.
47- يَنْهَشْنَهُ وَيَذُبُّهُنَّ وَيَـحْتَمِي … عَبْلُ الشَّوَى بِالطُّرَّتَيْنِ مُوَلَّعُ
النهش: العض الشرس.
يذبهن: يبعدها عنه بأقدامه وقرونه.
عبل الشوى: القوائم الغليظة.
الطرتان: الخطان في جانب أقدام ثور المها، وهي علامات مميزة في خلقته.
مولع: تختلف ألوانه.
تعض الكلاب المها عضاب شرسة، وهو يحاول إبعادها، بسيقانه القوية، ويظهر جسده المخطط باللون الأسود وهو يتحرك.
48- فَنَحَا لَـهَا بِمُذَلَّقَيْنِ كَأَنَّمَا … بِهِمَا مِنَ النَّضْخِ المُجَدَّحِ أَيْدَعُ
نحا: مال ناحيتها ، أو حرك جسده ليسدد الضربات بقرنه.
مذلق: القرون المحدد، والسيف المذَّلق: هو المحدد الطرف.
النضخ: هو ما سال من الدم الثخين المتيبس أو بقاياه على قرن الثور.
المجدح: المخلوط ، أراد أنه حرك قرونه داخل أجساد الكلاب فاختلط بلحمها ودمها، أو خليطا من الكلاب التي قتلها قبل ذلك.
أيدع: صبغة حمراء تشبه الدم يؤتى بها من اليمن.
يقول أن الثور مال ناحية الكلاب وعدل وضيعته لهيجم عليها بقرونه الملطخة بالدماء الناضخة، والتي لها لون أحمر كالصبغة مما قتل من قبل، يريد أن يشير إلى خبرة هذا الثورة وأن قد قتل كلاب صيد من قبل، فكأن قرونه مصبوغة من دماءها.
49- فَكَأَنَّ سَفُّودَيْنِ لَمَّا يُقْتَرَا … عَجِلَا لَهُ بِشِوَاءِ شَرْبٍ يُنْزَعُ
سفودين: السفود هو سيخ الشواء الذي يخترق اللحم ويوضع عليه ليشوى.
لما يقترا: لم يخرج رائحة الشواء منهما بعد.
شواء شرب: شواء في جلسة شراب، ينزعون اللحم من السفود قبل نضجه لشدة سكرهم.
شبه قرون الثور وهي ملطخة بالدماء واللحم بأسياخ الشوي التي علق بها الدم من اللحم الذي يشوى ونزع منها قبل أن ينضج، وقرون المها طويلة رفيعة كأنها شيخ الشوي، وخص الشرب، لأنهم لا ينتظرون أن ينضج لحم شوائهم، فينزعونه قبل النضح ويترك الدم على سيخ الشواء.
50- فَصَرَعْنَهُ تَحْتَ الغُبَارِ وَجَنْبُهُ … مُتَتَرِّبٌ، وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
الصرع: الطرح على الأرض ولا يعني القتل بالضرورة
قامت معركة هيجت التراب، رغم أن الثور أصاب منها ورغم شجاعته ولكن الكلاب طرحته أرضا وقد تلثوت جانبه بالتراب، ولكل جنب مصرع، أي أن الكل سيموت وسوف يسقط في يوم من الأيام على جانبه هكذا
51- حَتَّى إِذَا ارْتَدَّتْ وَأَقْصَدَ عُصْبَةً … مِنْهَا وَقَامَ شَرِيدُهَا يَتَضَوَّعُ
أقصد: أي طعنها طعنات قاتلة لن تنجو منها.
شريدها: ما بقى منها.
يتضوع: يعوي من الخوف، وهو الصوت المميز للكلب عندما يضرب ويهرب خائفا
ارتدت الكلاب بعدما قتل منها الثور ما قتل، وقام ما بقي منها يصوت ويصرخ، لكنها نجحت في جرح الثور وإيقافه، وسيأتي الآن الصياد لقتله.
52- فَبَدَا لَهُ رَبُّ الكِلَابِ بِكَفِّهِ . . . بِيضٌ رِهَافٌ رِيشُهُنَّ مُقَزَّعُ
رب الكلاب: صاحبها، أي الصياد,
بيض: يعني سهام يلمع حديدها فيبدو أبيض.
رهاف: رفيعة.
مقزع: يعني بقي بعضه وذهب بعضه، استعملت قبل ذلك، أي أن الصياد قاتل خبير.
بعدما أدت الكلاب مهمتها يأتي الصياد من خلفها، تُستعمل الكلاب لجرح الحيوان لأنها سريعة، ريثما يلحق بهم الصياد فيجهز عليه.
المعنى: ظهر صاحب الكلاب يحمل أسهمه الخفيفة، وريشها مقطع، أي أنها مستعمل قبل ذلك أي أن هذا الصياد خبير.
53- فَرَمَى لِيُنْقِذَ فَرَّهَا فَبَدَا لَهُ … سَهْمٌ فَأَنْفَذَ طَرَّتَيْهِ المَنْزَعُ
طرتيه: قلنا أنها الخطوط التي على رجل ثور المها،
المنزع: أي السهم، سمي كذلك لأنه يخترق جسد الضحية فيمزقها ثم ينتزع منها انتزاعا.
رمى الصياد سريعا بأسهم الثور بالأسهم لينقذ ما تبقى من الكلاب ويمكنها من الفرار، ثم بدا له سهم آخر ضربه فاخترق طرتي الثور.
54- فَكَبَا كَمَا يَكْبُو فَنِيقٌ تَارِزٌ … بِالـخَبْتِ إِلَّا أَنَّهُ هُوَ أَبْرَعُ
كبا يكبو: فعل بمعنى يتعثر يسقط على ركبته>
الفنيق: فحل الإبل الضخم، الذي لا يؤذى لكرامته على أهله ولا يركب.
تارز: يابس قوي.
الخبت: الأرض المستوية.
فجاءت النهاية، سقط للمرة الأخيرة، على ركبته سقط كما يسقط فحل ضخم على الأرض، ولكنه أجمل وأبرع منظرا من الفحل، ومنظر سقوطه أكثر هيبة.
وهكذا أخذه الموت كما يأخذ كل شيء آخر.
55- وَالدَّهْرُ لَا يَبْقَى عَلَى حَدَثَانِه … مُسْتَشْعِرٌ حَلَقَ الحَدِيدِ مُقَنَّعُ
مستشعر: اتخذه شعارا، أي لامس جلده مباشرة.
حلق الحديد: يرتدي قميصا من حلقات الحديد للحماية.
مقنع: يغطي وجهه بقناع حديدي.
والدهر لا يبقى على حاله الأول أيضا مع الفارس البطل، الصلب الذي يرتدي قميص الحديد فوق جلده مباشرة، والذي يغطي وجهه بقناع من حديد.
56- حَـمِيتْ عَلَيْهِ الدِّرْعُ حَتَّى وَجْهُهُ … مِنْ حَرِّهَا يَوْمَ الكَرِيهَةِ أَسْفَعُ
حميت: حميت الدرع أي سخنت بسبب الحرارة.
الكريهة: هي المعركة، وسميت كذلك لأن النفس تكرهها.
أسفع: محترق أو عليه أثار سواد
سخنت الدرع التي يواظب على ارتدائها، حتى أنه على وجهه يوم المعركة آثار كالحروق من طول ملامسته للحديد الساخن، وكل هذا يدل على شدته وطول تمرسه في الحروب.
57- تَعْدُو بِهِ خَوْصَاءُ يَفْصِمُ جَرْيُهَا … حَلَقَ الرِّحَالَةِ فَهْوَ رِخْوٌ يَمْزَعُ
خوصاء: فرس غائرة العينين، لطول جريها وشدة حياتها.
يفصم: يكسر من شدة الجري.
حلق الرحالة: الحديد الذي يثبت عليه السرج ونحوه.
رخو: متراخ غير متماسك.
يمزع: تتقطع.
تجري به فرس عنيفة شديدة الجري، جسمها نحيف وعينها غائرة، وهي قوية الحركة حتى أنها حلق الحديد قدد تراخى مع الزمن وشدة الاهتزاز، فأصبح رخوا متقطعا.
58- قَصَرَ الصَّبُوحَ لَـهَا فَشَرَّجَ لَـحْمَهَا . . . بِالنَّيِّ فَهْيَ تَنُوخُ فِيهَا الإِصْبَعُ
قصر الصبوح: أنقص لها الشرب في الصباح حتى تصبح خفيفة وتقدر على الجري.
شرج لحمها: تحددت العضلات في جسدها لشدتها.
أعدها الفارس ليوم المعركة فأنقص لها الشرب لتكون خفيفة في الجري، وتحددت عضلات جسدها حتى أن الفارق بين ألياف لحمها كطول الإصبع.
59- مُتَفَلِّقٌ أَنْسَاؤُهَا عَنْ قَانِئٍ … كَالقُرْطِ صَاوٍ غُبْرُهُ لَا يَرْضَعُ
متفلق: منفتح
أنساؤها: العروق في رجلها
قانئ: لونه أحمر
القرط: الحلق الذي يوضع في الأذن
صاو: يابس جاف
يقول أن أفخاذها تتنفتح أو تصنع فتحة بينها يظهر منها ضرع جاف محمر اللون، صغير ومتدل كالقرط في الأذن، وما بقي منه لا يصلح لإرضاع الولد. يقصد أن هذه الفرس لا ترضع منذ فترة طويلة وقد انكمش ضرعها وجف، فاحتفظت بقوة جسدها كله، لأن الإرضاع يضعف الأنثى، فهي في أقوى حالاتها وجهوزيتها للحرب.
60- تَأْبَى بِدُرَّتِهَا إِذَا مَا اسْتُكْرِهَتْ . . . إَلّا الحَمِيمَ فَإِنَّهُ يَتَبَضَّعُ
تأبى: ترفض.
بدرتها: ترفض أن تدر أي تأتي بما عندها.
الحميم: الماء الساخن، ويقصد به العرق، وهو صفة في الأحصنة تدل على الجري القوي.
يتبضع: يرشح وينزل.
أي أنها عنيدة وفيها قوة تعاند قائدها وتحتاج الفارس القوي، إلا عندما يطلب منها الجري السريع فإنها تنطلق وتخرج منها العرق الغزير.
والمعنى أنها فرس عنيدة قوية تحب الجري وتنطلق فيخرج منها العرق الغزير.
62- بَيْنَا تَعَنُّقُهُ الكُمَاةَ وَرَوْغُهُ … يَوْماً أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ
بينا: بينما.
تعنقه: التحامه الشديد.
الكماة: المقاتلون الأشداء.
سلفع: الجرئ شجاع، وقيل سليط في عدوانه.
يقول: بينما هذا الفرس وحصانه يلتحم بشدة مع المقاتلين الأشداء ويرواغ ويروح ويجيئ في الميدان، ظهر له منهم مقاتل جرئ شديد، لا يقل قوة وبطولة عن صاحبنا.
63- يَعْدُو بِهِ نَهِشُ المُشَاشِ كَأَنَّهُ … صَدْعٌ سَلِيمُ رَجْعُهُ لَا يَظْلَعُ
نهش: خفيف حركة اليدين، كأنه ينهش بهما نهشا.
المشاش: العظم الخفيف، الذي لا مخ فيه.
صدع سليم: الصدع هو المتوسط من الوعول
لا يظلع: لا يعرج في مشيه
يقول أن الفراس الآخر يعدو به فرس سريع خفيف الحركة، ثابت متوزان في جريه في ميدان المعركة كأنه وعل الجبال، والوعل معروف بشدة توازنه، فيجري في المرتفعات والجبال ولا يسقط أبدا.
64- فَتَنَادَيَا وَتَوَاقَفَتْ خَيْلَاهُمَا … وَكِلَاهُمَا بَطَلُ اللَّقَاءِ مُـخَدَّعُ
تناديا: نادى كل منهما على الآخر يتحداه.
مخدع: كل واحد يخدع نفسه ويظن أن سينتصر على خصمه.
وقف الفارسان أمام بعضهما ووقف معهما فرسانهما المرافقون، يتحديان يعضهما ويتجهز كل فريق لخوض المعركة، كل منهما واثق أنه المنتصر ومخدوع بقوته.
65- مُتَحَامِيَيْنِ المَجْدَ كُلٌّ وَاثِقٌ … بِبَلَاءِهِ وَاليَوْمُ يَوْمٌ أَشْنَعُ
متحاميين: كل منهما يتحامى في مجده السابق.
المجد: العزة والشرف والرفعة.
أشنع: اشتد قبحه.
كل فارس منهما يحتمي بمجده السابق وعزه وشرفه، وكل واحد منهما واثق من قوته ولن يتراجع، فالمواجهة بينهما محتومة، ويبدو أن اليوم سيكون شنيعا فظيعا تتطاير فيه الدماء والأشلاء.
66- وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا … دَاوُودُ أُوْ صُنْعُ السَّوَابِـغِ تُبَّعُ
مسرودتان: درعان قويتان.
داوود: هو نبي الله داوود الذي تنسب له صناعة الدروع والحديد.
السوابغ: جمع سابغ، أي واسع الخير وكثير المال.
تبع: عظيم من عظماء اليمن.
وكل منهما يرتدي درعا قوية، منسوبة لدروع سيدنا داوود الذي علم الناس صناعتها، أو هي كدروع عظماء اليمن الأغنياء الموسرين، أي أنهما دروعهما على أفضل حال ممكن وفي أشد القوة.
67- وَكِلَاهُمَا فِي كَفِّهِ يَزَنِيَّةٌ … فِيهَا سِنَانٌ كَالمَنَارَةِ أَصْلَعُ
يزنية: رمح منسوب إلى ذي يزن، وهو ملك قديم من ملوك اليمن.
سنان: حد قطاع.
المنارة: حديده أبيض كأنه منارة.
أصلع: يلمع كأنه رأس صلعاء.
وكلا الفارسان يحمل رمحا قوية كأنها رمح ذي يزن، فيها سن حديدي قاطع يلمع لشدة بياض حديده.
68- وَكِلَاهُمَا مُتَوَشِّحٌ ذَا رَوْنَقٍ . . . عَضْباً إِذَا مَسَّ الضَّرِيبَةَ يَقْطَعُ
متوشح: يضع ويرتدي
ذا رونق: ذو لمعان، يقصد سيفا لامعا
عضبا: قاطعا.
كلاهما أيضا مسلح بسيف له لمعان شديد، سيف قاطع إذا لمس ما يضربه فقط فإنه يقطعه ويشقه شقا.
69- فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذٍ . . . كَنَوَافِذِ العُبُطِ التِّي لَا تُرْقَعُ
تخالسا: سرق كل منهما من الآخر طعنة قالتة على حين غفلة منه
نوافذ: فتحة نافذة أي كبيرة تنفذ منها الأشياء لشدة اتساعها، أو التي تنفذ في الجسد حتى يكون لها فتحة من الناحية الأخرى.
العبط: الشق الكبير في الثوب
لا ترقع: الترقيع هو الإصلاح بإضافة رقعة تسد ما فسد من الثوب
يقول: فضرب كلا الفارسان خصمه على غفلة بضربة عميقة نافذة قاتلة، لا سبيل إلى علاجها، كأنها القطع الكبير في الثوب الذي لا سبيل لترقيعه، أي أن كلا الخصمين صعن الآخر طعنة كبيرة جدا ولن ينجو منها أبدا، هكذا قتل الإثنان وسقطا.
70- وَكِلَاهُمَا قَدْ عَاشَ عِيشَةَ مَاجِدٍ . . . وَجَنَى العَلَاءَ لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَنْفَعُ
ماجد: صاحب رفعة وعلو شأن
جنى العلا: حصل المجد في حياته، ولم ينفعه ذلك بشيء لحظة الموت.
مات الفارسان على أرض المعركة، وكان كل منهما قد عاش كما يعيش رفيع المقام، وحصل الرفعة والمجد في حياته، لكن ذلك لم ينفعه لحظة الموت، فخر كل منهما على أرض المعركة، وهكذا أخذ الموت حياتهما كما يأخذ كل مظاهر الحياة.